الرجل الذي غير حياتي

بسام شلبي

ذات يوم من عام ١٩٩١ و كان عام حراك عام ثقافي و فكري أعقاب سقوط المعسكر الشرقي و الاتحاد السوفياتي.. و كان المركز الثقافي العربي في ابو رمانة في دمشق قد بدأ يقيم أمسيات أدبية و ثقافية فيها هامش غير معتاد من الشفافية و الحرية كل أربعاء و إن كانت محدودة الحضور رغم ان الدعوة كانت عامة

و كنت مواظباً على حضورها أسبوعياً حتى دون معرفة المحاضر أو المشاركين

ذات مرة دخل محاضر عجوز و كان يومها يتكئ على عكاز خشبي و يرتدي قبعة مميزة و تجاعيد عميقة.. لم يبدو لي مقنعاً فلا هو مرتد بزة أنيقة و ربطة عنق مثل الأساتذة و لا الثياب التقليدية للشيوخ رغم أن مدير الجلسة قد عرفه بلقب الشيخ جودت سعيد !!

كان اسمه مطروقاً لكني وقتها لم أكن قد قرأت له شيئاً

لا أذكر موضوع المحاضرة تماماً بعد هذا الزمن الطويل و لكني أذكر النقطة الرئيسية التي طرحها بطريقة غير تقليدية و هي ازدواجية المعيار في الاحكام و التقييم لدى المجتمعات العربية و الاسلامية.. فمثلاً الزانية و الزاني يشتركان في نفس الفعل لكننا ننظر بإدانة و احتقار و كره.. للزانية في حين لا ننظر كذلك للطرف الاخر، رغم أنه لا يوجد زانية بدون زان..

كذلك الأمر بالنسبة للراشي و المرتشي فالنظرة مختلفة اجتماعياً رغم أنه من الناحية الدينية اللعن وجب على الطرفين بنفس الدرجة.. فكلاهما طرفا معادلة واحدة.. بل ذهب أكثر بأن الراشي هو من يصنع المرتشي و ليس العكس، و تصور لو أن الجميع امتنع من منطق الالتزام الطوعي الواعي بالامتناع عن دفع الرشاوى فإننا نستطيع القضاء على الفساد دون أن نلقي اللوم على حكومة او سلطة.. فمن وجهة نظره أن التغيير هو مسؤولية المجتمع.. و أن التغير و الاصلاح يبدأ من القاعدة و ليس من القمة..

و أظنه أيضا كان يرمي في المعنى المضمر الذي لم يصرح به يومها أن المجتمعات هي من تصنع الطغاة و العبيد هم من يصنعوا السادة بامتثالهم الطاعة و الخنوع و لو امتنعوا لانتهى الأمر..

كذلك ربطها بمنطق الدين الاسلامي أيضاً من وجهة نظره فعلاقة الإنسان مع الشيطان هي علاقة قبول او رفض.. “مالي من سلطان عليكم إلا ان دعوتكم فاستجبتم لي”

تأثرت كثيراً بهذا الطرح و قرأت بعدها العديد من كتبه ( مثل “كن كابن ادم” “اقرأ باسم ربك الأكرم” “حتى يغيروا ما بانفسهم”)

و حضرت له العديد من المحاضرات في المركز الثقافي العربي أيضاً و قد كان مديره انذاك الأستاذ عبد الرحمن الحلبي من المعجبين بفكره و آرائه.

و لست أنكر أني تأثرت كثيراً و تغيرت من جراء بعض أفكاره و طروحاته و ذلك جعل حياتي أصعب في مختلف نواحيها

و لكني أيضاً لم أقتنع بكثير من أفكاره و لم أصل الى درجة المنبهرين به أو المشترين لأفكاره بل كان لي عليها إنتقادات و مراجعات أوصلتها له عن طريق أصدقاء كانوا يلتقون به

و لا أظن أنه هو أيضاً باحثاً عن أتباع أو مريدين.. بل كان يطرح أيضاً ضرورة التحرر من سلطة رجال الدين و مدعي المشيخة و كان إجمالاً لا يحب أن يعرف باسم الشيخ أو العالم.. أو أي من الألقاب التي كان يسعى لها الآخرون حوله

و كل ذلك محسوب له و مأجور عليه في الدنيا و الآخرة التي اختار الانتقال لها مؤخراً بمشيئة الله خالق “الموت و الحياة” وكل شيء

رحمه الله يوم ولد و يوم مات و يوم يبعث حيا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى