لـبـنــان والـحــرب

د- عبد الناصر سكرية

رغم انقضاء 45 سنة على بدء الحرب اللبنانية في 13 نيسان 1975; إلا أن أيًا من الأطراف المشاركة فيها لم يقم بأي تقييم، يؤدي إلى شيء من التراجع او النقد الذاتي، وما يقتضيه من مراجعات وتراجعات تلغي أسباب الحرب، وتطمئن الأجيال الجديدة إلى مستقبل ليس فيه حرب جديدة محتملة.

وعند انتهاء تلك الحرب، كان لافتا أن القوى التي صنعت الحرب، هي التي تصدرت المسؤوليات فيما بعدها، وتسلمت مهمة بناء الدولة في السلم، بعد أن كانت أداة الحرب وجهازها العسكري.

وعلى الرغم من أن الأطراف الميليشيوية فيها كانت عشية انتهاء الحرب؛ في حالة من التفكك والضعف وانحسار الالتفاف الشعبي عنها؛ إلا أن قوى النفوذ الدولي المتداخلة جدا في لبنان؛ أعادت فرضها كشريك أساسي في السلطة، بعد أن أضافت إليها قوى مالية مستجدة؛ وظفتها كشريك إضافي مكمل لأطراف الحرب، وأطراف السلطة التقليدية القديمة، على عكس، ورغماً عن المطالبة الشعبية آنذاك بـ”إزالة آثار الميليشيات”، الشعار الذي إختفى من التداول ولم يتحقق شيء منه.

وقد افرزت المتغيرات الإقليمية ظهور قوى ميليشيوية مستحدثة أيضا، تداخلت في الوضع الداخلي، ثم إلتحقت بالسلطة؛ لتتشكل بذلك تركيبة عجائبية غريبة تسلمت مقاليد الحكم في لبنان، فأنشأت سلطة محاصصة طائفية ومذهبية، فريدة ومتفردة في نوعها وجشعها وفسادها، وما تزال تحكم وتتحكم بلبنان ومقدراته كلها، تحت رعاية تامة من قوى النفوذ الأجنبي ذاتها.

وعلى الرغم من المشاركة الإيجابية الفعالة، لقوى وحركات وأحزاب المشروع الوطني، في معارك الدفاع عن الشعب والوطن، طوال فترة الحرب التي امتدت خمسة عشر عاما؛ إلا أن النظام الأمني السوري الذي كان يتحكم بمجريات الأحداث في لبنان آنذاك؛ وجه ضربات متلاحقة موجعة لتلك القوى، مترافقة بحرب تصفية وإغتيالات ونفي وإعتقال؛ كانت نتيجتها تحجيم معظم تلك القوى، وتصفية بعضها، ثم الإستيلاء على بعضها الآخر.

فكان نصيب القوى الناصرية واليسارية والوطنية، التي قدمت التضحيات، كـ”المرابطون” والبعث (العراقي) وأنصار الثورة ومنظمة العمل (الشيوعي) وبعض أحزاب اليسار الشيوعي؛ الضرب والحصار . في حين استطاع النظام الأمني السوري، إستقطاب بعض القوى الأخرى الهشة، التي لم يكن إنصهارها أصيلا في المشروع الوطني، ومن ثم غلبت عليها شخصانية ذاتية مصلحية، جعلتها والى الآن تتماهى مع المشروع المذهبي الأمني لذلك النظام.

وبعد العدوان الإسرائيلي العام على لبنان في 1982, تولى النظام الأمني السوري الحاكم؛ إزاحة جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية (حمّول)، التي قامت بعمليات فدائية عظيمة، كبدت العدو الصهيوني خسارات كبيرة، وقام بإزاحتها بالقوة عن ساحة العمل والنضال، مستخدما شتى أنواع الحرب، من الحصار والإعتقال والتهديد والإغتيال، وتمّ فرض طرف مذهبي مستجد على الساحة، ليكون الوحيد المخوّل بحمل السلاح والحديث باسم المقاومة، أو إستخدامها عنوانا لأمور أخرى عديدة، وحيثما لم تتضح غائية تلك الوحدانية الإرغامية آنذاك، في ساحة العمل الوطني المقاوم؛ إتضحت فيما بعد الأبعاد المذهبية الإنقسامية لتلك الوحدانية.

وفي تلك الفترة، جرى إغتيال الكثير من الشخصيات والقيادات الوطنية، التي لم تخضع لهيمنة الأجهزة الأمنية السورية، منها: المفتي الشهيد حسن خالد والشيخ صبحي الصالح والشيخ حليم تقي الدين وجورج حاوي ومهدي عامل وحسين مروة وموسى شعيب، وعشرات آخرين، سبقهم الشهيد الرمز المعلم كمال جنبلاط طبعاً.

إضافة إلى إطلاق ورعاية حركات مذهبية مشبوهة مرتبطة بأجهزته الأمنية؛ كانت إحدى أدواته في تعميق الإنقسامات والشروخ المذهبية، وفي محاربة الوطنيين الشرفاء، وضرب أي مشروع وطني توحيدي.

كل ذلك، أفرغ الساحة الوطنية من القامات الكبيرة، ومن القوى والحركات التي كانت تستطيع تشكيل صمامات أمان، او قوة فاعلة، تمنع عودة محتملة لحرب مقبلة؛ أقله من خلال نضالها المطلبي والوطني، لتصحيح الخلل السياسي والمالي والمعيشي في سلطة ما بعد الحرب؛ وتخفيف كثير من المعاناة عن اللبنانيين.

وهكذا، وعوضا عن اللجوء إلى تفكيك عوامل الحرب ومحاصرتها ومعالجة جذورها، حتى لا تتكرر مرة أخرى؛ راحت مجريات الأمور تراكم عوامل إضافية جديدة، من شأنها أن تترك لبنان عرضة لنشوب حرب جديدة محتمل، ونتيجة للتمادي في هذا النهج الفاسد، ها هي أوضاع لبنان في شبه إفلاس وإنهيار مالي وإقتصادي، والبطالة والفقر والجوع في أعلى المستويات.

فساد في السلطة غير مسبوق، وتحاصص في عمليات سلب ونهب موارد لبنان واللبنانيين، وتعفيش الممتلكات العامة والصفقات المشبوه،ة والتدخل الإجنبي في ذروته علانية، وإذا إضيف إلى هذا التردي كله؛ مجاهرة أطراف أساسية مسلحة بولائها لدول أجنبية، وإنخراطها في أعمال عسكرية لصالح تلك الدول؛ في لبنان وخارجه؛ تحت ستارات دينية او عقائدية أو مصلحية، وهي مجاهرة مترافقة بتحريض مذهبي إنقسامي غير مسبوق أبداً، من حيث الحدة والتزمت والتنمر، فإن عوامل تفجر حرب داخلية في لبنان تصبح متوفرة ومتاحة، لمن يرغب ويقدر على توظيفها.

فتبدو الأمور وكأنها رهينة الإرادات الخارجية، تحركها بإتجاه فتنة مذهبية او حرب طائفية أو فوضى مسلحة عارمة؛ متى أرادت، سيما مع تداخل الداخل اللبناني بمجريات الأحداث والأعمال العسكرية في سوريا، وإستمرار إحتلالها وتقاسمها، ونذر تشكيل كيانات مذهبية إنفصالية معادية لهوية المنطقة، كما حصل في فلسطين 1948.

وأذا كانت إنتفاضة الشعب اللبناني في 17 تشرين 2019، قد أعادت الأمل بعودة الشارع الشعبي إلى ممارسة دور فاعل ومؤثر بعد غياب طويل؛ على أسس وطنية توحيدية تتخطى الولاءات الطائفية والمذهبية، التي تحركها وتغذيها أطراف سلطة المحاصصة الفاسدة، تكريسا لهيمنتها وإصرارا على نهجها الفاسد؛ فإن أمام الشعب اللبناني وما تبقى من قواه الشعبية والنقابية والأكاديمية والثقافية؛ فرصة إستجماع القوة وتنظيمها وتأطيرها، ضمن رؤية وطنية ومشروع وطني، يترجم في برنامج عمل مطلبي مرحلي، يأخذ في الإعتبار الحاجات الشعبية والوطنية الملحة، ضمن أولويات ما تسمح به الإمكانيات الموضوعية المتوفرة، او التي يمكن توفيرها وتوظيفها.

تلك فرصة ليست لمواجهة الفساد والإنهيار والمجاعات والفقر والبطالة فقط؛ وإنما تجنبا لإمكانية نشوب حرب مرة جديدة، ستؤدي إلى نتائج أخطر من الحرب السابقة.

الآن، وفي ما نحن فيه من حظر وحصار، على الوطنيين الشرفاء بلورة مثل هذا المشروع/البرنامج، من أجل انتفاضة أكثر عمقاً ودقة وتنظيمًا وفاعلية.

المصدر: المدار نت

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى