لم ولن أنسى أبداً عندما شارف الباص الذي كان يقلنا من دمشق إلى حلب، ونحن ذاهبون في إجازة أربع وعشرين ساعة بعد احتجازنا أكثر من شهر في قطعة عسكرية لخدمة الاحتياط، ذلك الرتل الدائري من راجمات الصواريخ ذات السبطانات ال 36 الذي كان يطبق على كامل محيط المدينة.
هذا المحيط الذي يتبدى للناظر القادم من دمشق بشكل كامل الوضوح كون المدينة تقبع في منخفض واسع يظهر من علٍ عيانيا لكل داخل للمدينة من جهة دمشق، عندها لم أتمالك نفسي من البكاء الحارق الذي لازلت أشعر بمرارته حتى اليوم متسائلاً، ماذا يحدث في حماة أبي الفداء؟ مستدرجاً ذكرياتي في حرب السبعينات من القرن المنصرم حيث لم توضع مثل هذه الراجمات في الخدمة على الجبهة العسكرية مقابل العدو الصهيوني التاريخي آنذاك.
كان الشارع الرئيسي الذي يقسم المدينة إلى شطرين خارجاً منها صوب مدينة حلب مكتظا بالأبنية الطابقية الحديثة العالية على جانبيه الأيمن والأيسر، يئن من الكتل الإسمنتية بقضبانها الحديدية المدلاة والمنفجرة، وبالأحجار المتناثرة التي خلفتها هذه الابنية والتي بدت وكأنها تعانق الأرض دماراً وخراباً وتشظياً، ومن أعمدة الدخان والحرائق التي لازالت تستعر هنا وهناك، وما تبقى من واجهات هذه الأبنية كانت تمتلئ بالحفر والفتحات والخروقات التي احدثتها فيها قذائف راجمات الصواريخ التي كانت لا زالت تربض حول محيط المدينة المنكوبة……
أي مشهد وأي فعل هذا..؟.خِلْت وكان جحافل العدو التاريخي قد اقتحمت المدينة في غفلة ليل مشؤوم، وأن الأهل كانوا في حالة هجرة أبدية، لكن صدى هذا العمل المجزرة المدمرة التي نفذها رأس نظام الأسد العميل الآثم وأزلامه بحق مدينتنا العريقة، أخذ يتصاعد تدريجيا محليا، يقابله تعتيم إعلامي دولي مدهش ومستغرب حتى استقر هذا الفعل الهمجي في صفحة من صفحات تاريخ الوطن والشعب والأمة نستعيد ذكراه كل عام.
هكذا حفر هذا المشهد من واقع الوطن المدمى والمحتقن بالدمار والخراب وآثار التوحش الهمجي صدوعات وانكسارات في منظومات المنطق والمعرفة والثقافة والسياسة.. التي كان فضاء الثقافة السائدة في الوطن يغذينا منها، وأخذت هذه المنظومات تتبارى في تفسير وتحليل وتبرير هذا الفعل الذي لم يقابله في التاريخ البشري سوى فعل نيرون في حرق روما….
الدولة ومشروعيتها وواجباتها..
السلطة والدولة والشعب والعلاقة بين كل منهم.
الدستور والحداثة والأصالة والمعاصرة.
الشعب وحقوقه.. وواجباته..
الدين والموروث التاريخي والاسلامي
الوطن والمواطنة
الحريات والحقوق الإنسانية…
العدالة والمساواة ….
والتقدم والتخلف…
عقود مضت…
والاسئلة تتكرر وتدور والأجوبة تتصارع متناحرة بلا جدوى، وكأن مجتمعنا تحول إلى ظاهرة استاتيكية هلامية مستقرة تتعايش مع كل التناقضات والتناحرات والبشاعات وكأن الملامح الإنسانية لديه باتت دخانية الجوهر والمضمون فاختلطت مقومات المجتمعات الحية المعتادة التي تتحرك فيها ظواهر الانتاج والاستهلاك والثقافة والفن والحياة المعاشة الواقعية فبدت لدينا بلا معنى ولا قيمة ولا وزن…
وإذا كانت المجتمعات التي تمر بأزمات وحروب وعدوان عادة ما تلجأ إلى مثقفيها ونخبها التي تجد نفسها في خندق المسؤولية التاريخية فسرعان ما تتداعى وتقوم بدورها وواجبها لتنتشل مجتمعاتها من أزماتها وتصد العدوان عنها.
لكن ما زاد في الانكسار والتشظي في منظوماتنا الفكرية والثقافية دور النخب السياسية والثقافية لدينا التي راح البعض منها يبرر هذا الفعل الهمجي الاستثنائي في التاريخ مستعينا بطروحات ماركسية طبقية والبعض الآخر يبرره بعدم مشروعية محاولة الخروج على الحاكم والبعض الثالث يبرره بضرورة ما حدث في سبيل معركة التحرير الكبرى لفلسطين المغتصبة.
وهكذا مرت العقود وحالة الاستنقاع الاستاتيكية تكبلنا حتى إذا ما حان موعد قانون التراكم ينفذ فينا وتنفجر ثورتنا السورية العظيمة، واذ بنا في مواجهة مرة أخرى مع انكسارات وتشظ منظوماتنا الفكرية والثقافية والسياسية وكذلك مع عطب نخبنا ومثقفينا، ومع واقع الثورة المضادة الذي فُرض علينا مستبيحاً الوطن والوجود والمستقبل.
عشر سنوات من عمر ثورتنا ومحاولاتنا الحثيثة لإنتاج ما تحتاجه ثورتنا من نخب بديلة فاعلة وعضوية ماتزال قائمة وماتزال في المهد ولكنها تحبو، وفي المقلب الآخر لاتزال الثورة السورية حية وواعدة ولا عجب أن تكون ثورتنا مفتاحاً لنظام عالمي جديد.