ينشغل السوريون، بين الفينة والأخرى، بمسائل وأشياء تتعلق بمصيرهم ومستقبلهم، غالبًا ما تستهلكهم وتستنزف طاقتهم، دون طائل أو جدوى، وتعطيهم جرعات من الأمل سرعان ما تنقلب إحباطًا وتضعف مناعتهم. فمنذ بداية الثورة عملت جهات عديدة على تشتيت أذهان السوريين، وصرفهم عن التفكير بعقلانية بما يهمهم، والنظر في أحوالهم ومآلاتهم، وصرف أنظارهم عن قضايا تهددهم بمخاطر شتى. وغالبًا ما تكمن وراء هذه الانشغالات العقيمة إما جهات إعلامية تستبطن أجندات مسمومة وخبيثة، وإما مؤسسات تحاول قياس ردات أفعالهم واختبار مواقفهم، أو أشخاص باحثين عن الشهرة والأضواء، ولو كان ذلك يثير الضحك والسخرية منهم، أو بسطاء سذج يظنون أنهم بذلك يحسنون صنعًا.
تعكس هذه الترهات والسخافات حالة ضياع السوريين، وتعلقهم بأي شيء يكشف الغمة عنهم، ويرشدهم إلى ما ينتظرهم، وما تخبئه لهم الأيام، أو تفضح أجندات الدول المؤثرة في قضيتهم، بعد أن أصبحوا، وأصبح وطنهم، موضع نزاع إقليمي ودولي، لا تبدو له نهاية، أو خاتمة.
في الأيام، والأسابيع، الأخيرة تلهى السوريون بشخص خرج من المجهول، وقدم نفسه لهم زعيمًا أو قائدًا، ووصف نفسه بسيف الله المسلول، ألقى عليهم خطابًا مطولًا بصفته رئيس دولتهم المقبل. وبالتزامن مع ذلك، ومن اللافت، أن غرد على تويتر صهيوني تافه خرج علينا ليسوق ويروج لشخص آخر خاطبنا باعتبارنا بني وطنه، وهو رئيسنا القادم، فيقيم الدنيا ولا يقعدها.
وبين هذا وذاك تسريبات عن مجالس رئاسية، وأسماء وشخصيات مرشحة، من هنا وهناك، من دول نافذة وعابثة في مصيرنا وواقعنا، تبشرهم بنهاية وشيكة للطاغية الكوني، مما يبث الأمل في نفوس السوريين ويسكن أوجاعهم مؤقتًا.
كل ذلك يشغل عموم السوريين، دون مصداقية لمن يخاطبهم، وخارج أي سياق سياسي ومنطقي، يرتب الأحداث ويصل بها إلى نتائج نهائية منسجمة مع تسلسلها وبدايتها، ودون الكشف عن مصادر مسؤولة وموثوقة، تعطي لهذا الضخ الكاذب، حداً أدنى من الصدقية والمعقولية، وفي غياب أي روادع قانونية وأخلاقية.
طبعًا هذه الظاهرة ليست جديدة، فمنذ بداية الثورة، قبل أكثر من تسع سنوات، وحتى الآن، عملت جهات كثيرة، وأولها النظام، على تسريب شائعات ومعلومات مفبركة، ودس معلومات غير دقيقة، وتسويق أرقام وهمية، ونقل صور من أماكن بعيدة، ومن مواقع صراعات أخرى، على صلة بأحوالنا اليومية ضمن خطط مدروسة، كثيرها ركبته جيوش الكترونية تعمل لحساب أجهزة استخبارات، مستعينة بنظريات علم النفس، ومؤثرات الإعلام و”الميديا”.
هذه ولا شك صورة بائسة من صور أنماط سلوكنا المستجدة لا في زمن الاستبداد والسحق المعنوي وما خلفته عقود من التصحر القاحلة، والجدب في كل مناحي حياتنا وتفكيرنا، وساهمت بتشكيل شخصياتنا تشكيلًا مشوهًا، بل في زمن الانهزام والفشل الثوري، تفضح خواء قطاعات واسعة منا، وزاد عليها حالة تشتتنا وتفرقنا في السنوات الماضية، والتي جعلتنا ننساق في أوهامنا إلى ما لا نهاية له، ونتوه في منعرجات بعيدة كل البعد عن قضايانا الجادة ومطالبنا المحقة والمشروعة، والتي كانت مبرر انتفاضنا وثورتنا على الطغيان.
إن بحث السوريين عن خلاصهم بعد كل هذه التضحيات والكوارث والعذابات جعلتهم يتشبثون أحيانًا ب”حلول وهمية ” فصل فيها (الدكتور مصطفى حجازي) في كتابه (سيكولوجية الإنسان المقهور/ التخلف الاجتماعي)، وهي غير بعيدة عن “بنية العقل العربي”، وتكوينه، الذي كتب فيها الدكتور محمد عابد الجابري ثلاثيته المهمة، وذلك كله مرجعه بؤس الثقافة التي تربت عليها أجيال وأجيال، كنا نظن أن ثورتنا ستزيل عنها كل الركام التاريخي، والأسباب والعوامل المؤدية لها، وكنس مخلفاتها البشعة.
في الإطار ذاته، وغير بعيد عن ذلك، ما زال السوريون ينشغلون بالبحث عن طرق خلاصهم، وكل مجموعة منهم تظن بنفسها أنها “الفرقة الناجية” التي تعطي لنفسها الحق بتوزيع صكوك الوطنية والوفاء للثورة، وتتوهم بنفسها أنها الطليعة المتقدمة للثورة، إن هي قالت بالديمقراطية، وأعلنت ولاءها للثورة، ورفضها للنظام المجرم، دون الاستعداد للتلاقي مع الآخرين ضمن برنامج وطني وآليات عمل محددة، وهي خلافات مزقتهم وفرقتهم مجموعات صغيرة وضعيفة، ما يستحيل جمعهم واتفاقهم في ظل “ذهنية التخوين” السائدة بينهم.
لقد آن الأوان لنحكم العقل، بكل ما يدبر لنا، وما يقال لنا، وعدم الإنصات لكل من هب ودب، والتدقيق في كل ما يروج في هذا الفضاء المزدحم بالغث والثمين حفاظًا على ما تبقى لدينا من قدرات للاستمرار في ثورتنا ونضالنا المرير المعقد لتقرير مصيرنا ومستقبلنا.
كما أنه آن الأوان لنا لنلجم أي أصوات تبيع الوهم والكذب بأنواعه، وهي في كل ذلك تضاعف فشلنا وتضعفنا، وتذهب ريحنا.
ما كان لنا أن نعيش كل ذلك، أو على الأقل ننشغل به، لو تمكنا من بناء مؤسسات وطنية مهنية وصادقة، ولم نعمل على تحطيم أنفسنا، وزعزعة الثقة بكل من حاول التصدي لمهمة أو عمل عام، ومن نخبة ذات تاريخ نضالي مشرف، وخبرة بأصول علم السياسة، وقبل ذلك وبعده، تتمتع بحد أدنى من الأخلاق والرصانة، موجودة بيننا، على قلتها وندرتها.
المصدر: اشراق