يعيش كل من لبنان وسوريا في معاناة، حيث يدفع سكان البلدين ثمناً باهظاً لنظامين، هدفهما الوحيد هو الإثراء والبقاء. وتتمسك الطبقة الحاكمة التي لا تتمتع بأي شرعية بأنظمة مفلسة، أمام لامبالاة أو تواطؤ القوى العظمى.
لبنان اليوم تقريبا بلا دولة. أما سوريا، فهي لا تعدو أن تكون دولة مقسمة إلى مناطق حكم ذاتي. ظلاّ نظامين دون شرعية، غير فعّالين وفاشلان في نظر شعوبهما والعالم. يقول رجل أعمال لبناني سوري يعيش بين البلدين: “الفرق الوحيد بين هذين الغريبين الحميمين، هو أن الناس في لبنان يستطيعون على الأقل التعبير عن غضبهم، أما في سوريا، فهذا يقودك مباشرة إلى السجن”.
بعد عقد من الأزمة السورية عاشه لبنان دون تداعيات كارثية، يعيش بلد الأرز منذ ثلاث سنوات على وقع الأزمات، حيث اللاحقة أسوأ من السابقة. إليكم المشهد: حكومة لا تجتمع، انتخابات تشريعية ورئاسية حاسمة مزمع انعقادها بعد ثلاثة أشهر -لكنها غير مؤكدة-، عملة لا تتوقف عن الانهيار ولها أربعة أسعار تصريف مختلفة، نقص في جميع المواد وإفقار جزء متزايد من السكان.
العيش في الظلام الحالك
العيش في الظلام الحالك هنا ليست عبارة مجازية. يستمر تقنين الكهرباء بشكل كبير (كما هو الحال في سوريا)، في حين غرق لبنان في ظلام دامس لأول مرة في 8 يناير/كانون الثاني 2022، على ما يبدو بسبب عمل تخريبي نفذته مجموعة من المتظاهرين. وقد تسبب ذلك في “انقطاع تام في جميع أنحاء الأراضي اللبنانية” وفق شركة الكهرباء اللبنانية (EdL) العامة في ذلك، والتي وصلت تكلفة سوء إدارتها بالإضافة إلى الفساد المستشري أكثر من 40 مليار دولار منذ نهاية الحرب الأهلية (1975-1990). ولا تزال البلاد تنتظر حلولاً لهذه الأزمة، في حين أن إحدى الأولويات الأساسية لصندوق النقد الدولي في مفاوضاته -التي لا تُعرف نتائجها- مع المسؤولين اللبنانيين، هي إصلاح هذا القطاع والخدمات العامة الأخرى، ما تم تأجيله لفترة طويلة.
لكن لبنان تفاوض في خريف عام 2021 مع مصر والأردن حول نقل الغاز والكهرباء عبر سوريا، بينما أعلن حزب الله عن عدة شحنات من الوقود الإيراني لتخفيف النقص. في الأثناء، تجاوز متوسط فاتورة الكهرباء لأسرة تستخدم مولدًا خاصًا الحد الأدنى للأجور بمقدار 675 ألف ليرة (أقل من 22 دولار)، بسبب انهيار الليرة اللبنانية.
إضراب.. حيث لا عمل متوفر!
فعلا، فقد واصلت الليرة اللبنانية انهيارها لتخسر ربع قيمتها في أقل من ثلاثة أشهر، حتى صار سعر تصريف الدولار الواحد 30 ألف ليرة عوض 20 ألف (بينما كان لا يتعدى 1507 ليرة قبل أكتوبر/تشرين الأول 2019). وقد سجلت تحسنا طفيفا في منتصف يناير/كانون الثاني، الأمر الذي ساهم في غضب اللبنانيين الذين توقفوا عن العمل يوم الجمعة 7 يناير/كانون الثاني 2022. إضراب في بلد لا يتوفر فيه العمل..
مضحك مبك هو كذلك وضع موظفي الخدمات العامة الذين قرروا في أكتوبر/تشرين الأول 2021 الإضراب، والحال أنهم كانوا يعملون يومًا واحدًا فقط في الأسبوع. يشكو أنطوان منصور، الخبير العقاري والجغرافي، والناشط مثل دون كيشوت لبناني قائلا: “كيف لنا في ظل هذه الظروف التقدم في ملفات مهمة يحاول الموظفون عرقلتها؟”.
البلد مفلس في الحقيقة. حتى محافظ البنك المركزي رياض سلامة المشتبه به في قضية اختلاس أموال عامة وغسيل أموال، يخضع لإجراءات قانونية. وقد بدأت التحقيقات ضده، بما في ذلك في أوروبا. سلامة أمضى سنوات على رأس هذه المؤسسة، احتفى خلالها به زملاؤه وعدد من المعاهد الدولية لحسن إدارته.
العودة إلى النقاش مع صندوق النقد الدولي
من المحتمل أن يتحسن وضع لبنان إذا تمكنت الحكومة من التوصل إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي والبدء في إصلاحات شاملة، رغم نفور الطبقة السياسية منها. في الواقع، كان من المفروض أن تبدأ المفاوضات مع صندوق النقد الدولي في 24 يناير/كانون الثاني عبر الفيديو، وأن يستأنف مجلس الوزراء اجتماعاته يوم الثلاثاء 25 يناير/كانون الثاني 2022. شرط أن تسير الأمور على ما يرام. لأنه مع وجود حكومة يتجاهل أعضاؤها بعضهم بعضا لمدة ثلاثة أشهر، لن تكون المهمة سهلة. وقد بدأت بالفعل مناقشات تقنية ولكن جادة على مستوى الخبراء، تحت رعاية نائب رئيس الوزراء سعد الشامي وبحضور وزير المالية يوسف خليل، مع منح الأولوية لإنقاذ النظام المصرفي والمالي، والذي ينهار تحت وطأ خسائر تقدر بحوالي 70 مليار دولار.
انقطعت المحادثات بين لبنان وصندوق النقد الدولي العام الماضي، لا سيما بسبب عدم قدرة البنك المركزي والمصارف والسياسيين اللبنانيين على الاتفاق مع الحكومة السابقة على حجم الخسائر في النظام المالي. وقد حددت خطة التعافي التي وضعها صندوق النقد الدولي خسارة قدرها 90 مليار دولار. من المتوقع أيضًا إجراء تدقيق مالي لمصرف لبنان والبنوك التجارية، لاعتبارها مسؤولة عن الانهيار، دون أن نعرف متى سيتم ذلك لانعدام أي اتفاق بين الأطراف المعنية حول الإجراءات والمعايير الواجب اتباعها. “هناك غياب تام للشفافية” حول كل هذه الأسئلة وفق ناصر السعيدي، النائب السابق لمحافظ مصرف لبنان ووزير المالية السابق.
شجار مع المملكة العربية السعودية
الوضع المالي في لبنان وانهيار النظام المصرفي يحولان دون وصول المودعين إلى أموالهم في المصارف بحرية. وما زاد الطين بلة هذا الخريف قرار عدد من مملكات المنطقة حيث يعيش العديد من اللبنانيين، وبدفع من المملكة العربية السعودية، تعليقهم التجارة مع لبنان، شقيقهم الصغير والمدلّل طيلة عقود. وذهبت المملكة الوهابية إلى حد قطع العلاقات الدبلوماسية مع لبنان في أكتوبر/تشرين الأول 2021.
فقد قرّر “الإخوة العرب” من خلال هذه الإجراءات العقابية جعل لبنان يدفع ثمن “جريمته”، وهي القبول بحزب الله كطرف في الحكومة واعتباره حزبًا سياسيًا “عاديا”، ما يعارضه البعض بسبب تمتعه بالسلاح. في الأثناء، تبقى حكومة السني الثري نجيب ميقاتي مشلولة بسبب الخلافات السياسية بين المؤيدين والمعارضين لإيران، وكذلك بين المسيحيين أنفسهم، على خلفية ملفات قضائية لم يتم تسويتها (بما في ذلك الانفجار الذي وقع في مرفأ بيروت في آب/أغسطس 2020 وأدى إلى سقوط عدد كبير من الضحايا المدنيين) والتي اتخذت طابعا سياسيا.
من خلال هذا المشهد، ندرك أن إنقاذ البلاد يعتمد على اتفاق صعب مع صندوق النقد الدولي، مما يتطلب إجماعًا سياسيًا شجاعًا داخل حكومة منقسمة بين الفصائل المتعارضة، ونظام أصبح باليا في نظر معظم الجهات الفاعلة. وعلى أمل أن يسير كل هذا على ما يرام، وفي حال كانت النوايا طيبة نسبيًا (وكانت جيوب صانعي القرار ممتلئة إلى حد ما في وقت الاقتراع)، يمكننا حينئذ الاهتمام بانتخابات مايو/أيار -إن انعقدت. لكن لا أحد يستطيع أن يتنبأ بذلك.
أكثر من نصف السوريين يعانون من انعدام الأمن الغذائي
أما سوريا، فهي بلد ممزق ولا يزال ينزف بعد صراع لا نهاية له أودى بحياة مئات الآلاف من الأرواح. وهو اليوم يقبع تحت عقوبات دولية، ما يجعل أمل التعافي بعيدا. لكن هل يهتم الرئيس بشار الأسد بكل هذا؟
“مهما فعلنا، لم نعد نرى أي بوادر أمل أو رجاء. لقد كانت الحياة أفضل زمن المعارك”، هكذا يتحدث نبيل أنطاكي، وهو طبيب شارك في تأسيس جمعية “المريميّ الأزرق” الإنسانية والتي تساعد سكان حلب. ويواصل قائلا: “لقد انفجرت قنبلة الفقر حقًا بعد الحرب. 80٪ من الناس يعيشون تحت خط الفقر، بينما يعاني 60٪ من السكان من انعدام الأمن الغذائي”، مذكّرا بأن متوسط الدخل الشهري يبلغ حوالي 22 دولار. يوجد إذن نقص شديد في المال، ومع برد الشتاء، “لا يوجد نفط للتدفئة، ما يدفع السكان إلى الفرار من المدينة بحثًا عن ملجأ في مكان آخر، في تركيا أو في أوروبا”.
ويتابع نبيل متحدثا لموقع “أوريان 21”: “في شهر أغسطس/آب فقط، رحل 16 ألف عامل، بينما فرّ العديد من التجار والصناعيين إلى تركيا وخاصة إلى مصر، حيث أقاموا للعمل”. أنطاكي اسم على مسمّى، فهو مسيحي من أنطاكية، ويحزّ في نفسه رحيل أبناء دينه من حلب: “كان هناك 200 ألف مسيحي قبل بداية الصراع، لم يتبق منهم اليوم سوى حوالي 30 ألف”.
اختناق مالي
في تحوّل مفاجئ للأحداث، تم في الآونة الأخيرة إبعاد العشرات من رجال الأعمال -وبعضهم يُعتبر من ركائز النظام-، كما صودرت ممتلكاتهم أو وُضعت في الحراسة القضائية. فتحت ذريعة مكافحة الفساد، بات رجال الأعمال هؤلاء -الذين يصبح سقوطهم موضوع حديث الجميع- ضحايا نظام يائس مالياً، ولا يتردّد في ممارسة شتى أنواع الضغوطات للحصول على ما يريد. وقد كان هذا مصير رجل الأعمال الثري سامر فوز، 48 عامًا، الذي بلغت ثروته ذروتها خلال سنوات الحرب بمباركة من عشيرة الأسد. كان قد اشترى عددًا من الشركات، لا سيما العقارية، بما في ذلك فندق “فور سيزونز” بدمشق. أما اليوم، فقد تخلى عن نجومه الأربعة، ولم يعد يتمتع بمباركة السلطة.
يبدو أن الرجل القوي الجديد المقرّب من البلاط هو ياسر إبراهيم، الذي بات يسيطر على تكتل تجاري ضخم. يقال إنه تحت حماية زوجة الرئيس القوية. وتنحدر أسماء الأسد -التي وُلدت في لندن- من عائلة سنية من حمص، وكانت قد عملت في بنك استثماري أمريكي كبير. يقول جهاد يازجي، الخبير الاقتصادي ومؤسس موقع سوريا اليوم: “من الواضح أن الكثيرين يستنكرون ما تفعله أسماء. يتركّز حجم كبير من الموارد الاقتصادية بين أيدي الزوجين الرئاسيين، ما يسبب الكثير من السخط. يتحدث كثيرون عن أسماء، لكن يجب ألا ننسى ماهر، شقيق بشار الأصغر، والذي لا يزال له تأثير مهم”. وقد نشرت صحيفة “واشنطن بوست في 4 ديسمبر/كانون الأول 2021 تقريرا مطوّلا حول هذا الموضوع.
بين روسيا وإيران
على الصعيد الخارجي، بسطت كل من روسيا وإيران -عرّابتا ومنقذتا وحاميتا النظام- يدها على أجزاء من الاختيار الاستراتيجي للدولة، إلى درجة التقليل من ثروتها إلى الحد الأدنى. فقد أصبح ميناء طرطوس الاستراتيجي في الشمال الغربي أول معقل لروسيا في البحر الأبيض المتوسط، وهو ليس بالأمر الهين في زمن الانسحاب الأمريكي. وتُضاف هذه القاعدة الدائمة منذ الحرب إلى انتشار بطاريات الدفاع المضادة للطائرات من طراز S-300. وفي اتجاه الشمال، تتمتع موسكو بقاعدة حميميم الجوية بالقرب من ميناء اللاذقية التجاري (معقل عائلة الرئيس). وإلى جانب هذه الميزات الاستراتيجية، استولت روسيا أيضًا منذ بضع سنوات على صناعة استخراج واستغلال الفوسفات في منطقة تدمر، ومصانع الأسمدة في منطقة حمص، من خلال شراكة بين شركة روسية خاصة والدولة السورية.
هكذا تسدّد دمشق جزءًا من ديونها لدى الحليف الروسي، الذي تدخّل بشكل مكثّف منذ عام 2015 لإنقاذ النظام من الانهيار. لكن لا تزال مناطق بأكملها -على الرغم من تأمينها من قبل الجيش والقوات المساعدة- غير آمنة تماما وتُستهدف في بعض الأحيان من قبل عناصر تنظيم الدولة الإسلامية، التي هُزمت رسميًا لكنها لا تزال نشيطة في جميع أنحاء البلاد. لكن الأهم هو أن مصادر الدخل الرئيسية قبل الحرب -أي النفط والغاز- تقع اليوم بشكل أساسي خارج المناطق الخاضعة لسيطرة النظام، في محافظتي دير الزور والحسكة، وهما محافظتان غير مستقرتان حيث يواصل الأمريكيون تأمين وجود عسكري.
هكذا تم تقليص سوريا عمليا إلى ثلثي مساحتها منذ بدء الصراع في عام 2011. وحتى على هذا الصعيد، وجب توخّي الحذر. فيوم الخميس 20 يناير/كانون الثاني، شنت مجموعة من تنظيم الدولة الإسلامية هجومًا مذهلاً على سجن يحوي معتقلين إسلاميين في المنطقة الكردية، في شمال شرق البلاد. وقد أسفرت العملية عن سقوط العديد من الضحايا.
في الشمال، توجد منطقة نفوذ تركي (حيث توافد مئات الآلاف من النازحين الذين تعرضوا لسوء المعاملة في كثير من الأحيان)، لا سيما في إدلب. كما نجد منطقة كردية تحت تأثير أمريكي في الشرق، وتسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية (قسد، تحالف عربي كردي يهيمن عليه الأكراد). وتتحكم قسد في أغلب آبار النفط في هذه المنطقة. هذا الوضع يقود البلاد إلى الاعتماد أكثر على طهران. من سنة إلى أخرى، زادت إيران من صادراتها النفطية إلى حليفها العربي بنسبة 42٪، بحسب الموقع الاقتصادي Syria Report.
كما وُقّعت مئات العقود في مختلف المجالات (البنية التحتية، بناء المساكن) في السنوات الأخيرة بين البلدين، ويحاول الإيرانيون الدفع لمصلحتهم والتغلغل أكثر فأكثر في شرائح المجتمع السوري. بالإضافة إلى الروس وإيران، يبدو أن الصين أيضًا مهتمة بهذا البلد، كما يتضح من اتفاقية حديثة جدًا في إطار طريق الحرير بين بكين ودمشق. بصرف النظر عن شبه المحمية التركية التي تقع في شمال البلاد، تتدخل إسرائيل حيث ترى أن مصالحها على المحك. ففي 27 كانون الأول/ديسمبر، شنت تل أبيب هجوماً غير مسبوق في ميناء اللاذقية. صحيح أن إسرائيل اعتادت التصرف كسيدة الأجواء في سماء لبنان وسوريا، لكن هذه الغارات التي استهدفت مستودعات حزب الله في الميناء التجاري الرئيسي بسوريا أثارت الدهشة، لدرجة أن وكالة الأنباء السورية سانا تحدثت عن “أضرار مادية كبيرة”. وأشارت قناة “الإخبارية” العامة إلى أن “أصوات الانفجارات التي خلفتها الضربات الصاروخية سُمعت حتى في طرطوس، الواقعة على بعد 60 كيلومترا جنوبا”. وهذه هي ثاني غارة إسرائيلية على ميناء اللاذقية منذ 7 ديسمبر/كانون الأول 2021.
أما الجولان السوري فقد تم ضمه لإسرائيل. وتخطّط الحكومة الإسرائيلية الحالية لمضاعفة عدد سكانه اليهود.
هنري معمارباشي مراسل سابق لوكالة الأنباء الفرنسيةAFP ، ومدير سابق لفرع الوكالة في كل من بيروت والرباط ، وصحفي في الاقتصاد والدبلوماسية
المصدر: موقع أوربان21