أثارت زيارة المبعوث الرئاسي الروسي إلى سوريا ألكسندر لافرنيتيف، إلى الرياض، والرسالة التي نقلها من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، الكثير من التساؤلات، لاسيما وأن لافرينتيف اتجه من الرياض إلى دمشق مباشرة. اللافت أن تحركات المبعوث الروسي هذه لم تكن منتظرة. وعلى الأقل لم تسبقها أي تطورات محددة بعينها، تفرض على الكرملين إجراء مشاورات عاجلة حول الوضع في سوريا، مع أعلى مستوى قيادي في المملكة. وإلى أن يعلن أي من الطرفين عن مضمون رسالة الرئيس الروسي إلى ولي العهد السعودي، فإن الاجابة على تساءلات مثل: (ما الذي تريده روسيا حاليا على المسار السوري؟ وما الذي تتوقعه من الرياض؟)، قد تساعد في فهم الهدف من هذا التحرك الروسي.
بداية بات الموقف الروسي واضحا للجميع. ولم تعد روسيا تخفي أنها تعمل على إعادة النظام السوري إلى جامعة الدول العربية؛ والحصول على تمويل لإعادة الإعمار. ولا يبدو أنها جادة في تسوية سياسية للأزمة السورية تتوافق مع ما نصت عليه القرارات الدولية. إذ لا تزال تصر على تحميل المعارضة المسؤولية عن تعثر عملية التسوية، وتتجاهل حقيقة أن المعطل الوحيد هو النظام السوري، حتى إنها ترى في إشارة المعارضة إلى ما نصت عليه القرارات الدولية بشأن مستقبل سوريا “شروطاً غير مقبولة”، على حد تصريح لافرينتيف نفسه، في أعقاب آخر اجتماع لثلاثي أستانة. في الوقت ذاته يركز الروس حاليا على “الملف الإنساني” كذريعة. وتحت غطاء “المساعدات للسوريين”، بموجب تفاهمات مع الأميركيين، برزت جلية عبر منح الخزانة الأمريكية اعفاءات ل”انشطة الاستقرار والتعافي المبكر” من “قانون قيصر”، تحاول روسيا دفع الدول العربية لفتح قنوات اتصال مع النظام السوري، وإعادته إلى جامعة الدول العربية.
على خلفية هذا كله، يبدو أن لافرينتيف وصل الرياض حاملاً رسائل محددة، يريد منها الكرملين دفع الرياض إلى أي شكل من أشكال التطبيع مع النظام السوري. وفي الوقت ذاته طبيعي أن روسيا تعول على مساعدة من المملكة العربية السعودية في إعادة النظام إلى الجامعة والمساهمة في إعادة الإعمار تحت غطار “التعافي المبكر”. مقابل الحصول على تلك المساعدة يمكن أن تقترح روسيا على السعودية لعب دور الوسيط لإنهاء التوتر مع إيران، مع ما يعنيه ذلك من وقف استهداف الحوثيين، حلفاء إيران في اليمن لعمق الأراضي السعودية. كما يمكنها إغراء القيادة السعودية بدور مستقبلي كبير في سوريا، ومشاريع اقتصادية هناك، وما إلى ذلك.
إلا أنه من المرجح أن ترفض السعودية أياً من تلك الاقتراحات أو الأفكار الروسية. في موضوع التطبيع مع النظام السوري لن تقدم الرياض على خطوة لإرضاء روسيا على حساب العلاقة مع الحليف الأميركي، ولا شك أنها ستلتزم بموقف واشنطن، الذي عبرت عنه الإدارة الأميركية مجدداً في تعليقها على تطبيع الإمارات علاقاتها مع دمشق مؤخراً. وبالنسبة لأي اغراءات قد تقدمها روسيا للسعودية مقبل تنازلات تقدمها الأخيرة في الشأن السوري، فإن خلافات السعوديين مع الإيرانيين لا تقتصر على الوضع في اليمن، وتتعلق بالدور الإيراني في العالم العربي بشكل عام، وإصرار إيران على أن تكون المهيمنة في منطقة الخليج العربي، عبر سعيها لامتلاك أسلحة نووية. رغم ذلك كله فإن السعودية، ومن دون الحاجة ل”الوساطة الروسية”، أطلقت حواراً مع الإيرانيين. أي أنه لا يوجد لدى روسيا فعليا ما يمكنها تقديمه هنا. ويُضاف إلى ما سبق حقيقة أن التطبيع مع طهران لا يُلزم الرياض بتغيير موقفها من الوضع في سوريا. ويمكن للسعوديين هنا أن يستفيدوا من التجربتين القطرية والتركية، حيث تربط الدوحة وأنقرة علاقات جيدة إلى حد ما مع طهران، رغم أنهما تقفان على النقيض تماما من الموقف الإيراني في الملف السوري.
إلا أن توجه الكرملين نحو الرياض على أمل تحريك مسالة التطبيع مع النظام السوري وتمويل إعادة الإعمار لم يأتِ عن عبث، إذ سبق وأن اختبرت موسكو التنسيق حول الملف السوري مع الرياض، وحققت نتائج لصالح رؤيتها للتسوية السورية، من دون أن تقدم للرياض أي شيء في المقابل. وبرزت ملامح ذلك التنسيق بين الرياض وموسكو في الشأن السوري عشية، وفي أعقاب، مؤتمر “الرياض2″، الذي استبعدت منه شخصيات رئيسية، في مقدمتها رئيس الوزراء السوري الأسبق، ورئيس الهيئة العليا للمفاوضات رياض حجاب. كما تم ضم منصتي “موسكو” و”القاهرة” إلى الهيئة. وفي البيان الختامي عن المؤتمر أعلن المشاركون الاتفاق على تشكيل وفد للتفاوض “دون شروط”. وكان واضحا حينها أن هذا كله جاء نتيجة اتصالات روسية-سعودية، ومعروف أن موسكو كانت تصف رياض حجاب بأنه شخصية متشددة. وأعرب وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف حينها عن ترحيبة باستقالة حجاب وآخرين، ووصفهم “شخصيات متشددة”.
لعل هذا المرور السريع على تلك المرحلة والدور الذي لعبته السعودية حينها، يقدم إجابة حول ما تريده موسكو من التوجه نحو الرياض في هذه المرحلة. إذ جاءت زيارة لافرينتيف قبل شهر تقريباً من الموعد المعلن يوم 22 شباط/فبراير، لمؤتمر قوى المعارضة في العاصمة القطرية، بمشاركة شخصيات تم استبعادها من الهيئة العليا للمفاوضات، وفي مقدمتهم رياض حجاب. ضمن هذه التقاطعات، وبغض النظر عن مضمون رسالة بوتين إلى محمد بن سلمان، فإن الزيارة تبدو بمثابة دعوة لتفعيل الدور السعودي بشكل أكبر في الملف السوري، ربما لقطع الطريق مسبقاً أمام أي قرارات قد تخرج عن مؤتمر الدوحة، تُعيد الأمور سورياً إلى نصابها، وتضع جهود التسوية على مسارها السليم، الذي يراعي بحزم بيان “جنيف1” والقرار 2254، وتنسف بالتالي معظم ما تصفه موسكو “إنجازات أستانة” أو “إنجازات سوتشي”.
لكن الوضع الآن مختلف عما كان عليه عام 2017، وبعد تطبيع الرياض علاقاتها مع الدوحة، يرجح أن يتجنب ولي العهد السعودي خطوات قد تؤثر على التفاهمات مع قطر، لاسيما وأن اهتمام المملكة بالملف السوري تراجع بشكل كبير في السنوات الأخيرة، ولديها أولويات أكثر أهمية، تتعلق بالوضع الداخلي اقتصادياً، وبضرورة تحصين العلاقة الخليجية إقليمياً. فضلا عن حرصها الدائم على عدم القيام بخطوات قد تثير استياء الشركاء في واشنطن.
المصدر: المدن