نشرت مجلة “فورين أفيرز” مقالاً للمسؤول السابق في إدارة باراك أوباما، والمستشار البارز لبرنامج الولايات المتحدة في مجموعة الأزمات الدولية، بريان فينوكين، تحدث فيه عن العملية العسكرية الأمريكية في سوريا، مشيرا إلى أنها بدون تفويض وتقوم على أرضية قانونية ضعيفة.
وقال إن مئات الجنود الأمريكيين الموجودين في سوريا بمهمة “للحفاظ على الهزيمة الدائمة” لتنظيم “الدولة” يخوضون بين فترة وأخرى مواجهات مع الميليشيات الموالية لإيران. فقبل أسبوع، شن الطيران الأمريكي غارة على ميليشيات تدعمها إيران. وليست هذه هي المرة الأولى التي يحدث فيها هذا الشيء. فمنذ عام 2016، لم تواجه القوات الأمريكية الميليشيات التي تدعمها إيران فقط، بل وقوات الحكومة السورية والمرتزقة الروس أيضا. وتكشف القائمة الطويلة من الأعداء عن المناخ المحفوف بالمخاطر والمعقد الذي تعمل فيه القوات الأمريكية، ما يطرح أسئلة حول المنطق القانوني لعملية نشرهم في سوريا.
ومن الناحية المبدئية، فالقانون المحلي والدولي يقيد شن الحروب، وعليه فالرئيس/ الرئيسة ممنوع من استخدام القوة من طرف واحد ومتى شاء/ شاءت. إلا أن القانون الأمريكي يشتمل على استثناءات في حالة الدفاع عن النفس أو النزاع الذي صادق عليه الكونغرس أو القانون الدولي الذي يسمح بالقوة دفاعا عن النفس وصادق عليه مجلس الأمن الدولي في الأمم المتحدة. ولأن الكونغرس ومجلس الأمن الدولي ترددا في المصادقة على نزاعات لأسباب سياسية وتتعلق بالسياسات، فقد وجدت الحكومة الأمريكية طريقة إبداعية للتحايل على هاتين المؤسستين. ولا يوجد مكان أوضح على هذا التحايل من سوريا، حيث تبنت الإدارات الأمريكية المتعاقبة، سلسلة من المناورات القانونية الذكية من أجل أن تتناسب مع العمليات الأمريكية وضمن ما يسمح به القانون المحلي. وكان المبرر الرئيسي للذهاب إلى سوريا عام 2014 لمواجهة تنظيمي “الدولة” والقاعدة، مع أن الكونغرس لم يصادق على العملية مقدما، إلا أنه خصص لاحقا ميزانية لعمليات مواجهة تنظيم “الدولة”. ولكن القوات الأمريكية ومنذ عام 2016 قاتلت جماعات أخرى غير القاعدة وتنظيم “الدولة” بدون مناقشة أو موافقة من الكونغرس. وبهذا المعنى، فربما حشرت الولايات المتحدة نفسها في زاوية بسوريا.
ويرى مراقبون عن كثب للوضع بمن فيهم مجموعة الأزمات الدولية، أن وجود مئات من الجنود الأمريكيين على الأرض بهدف مواجهة تنظيم “الدولة”، بات يلعب دورا في تطويق شمال- شرق سوريا ضد ما يمكن أن يتحول لساحة حرب دموية في حالة انسحابهم. ومن الناحية المثالية، يود الفرع التنفيذي للعمل مع الكونغرس تشريع قوانين تحدد مسار النشاطات العسكرية الأمريكية في سوريا. وفي الوقت نفسه، من المستبعد أن تحاول إدارة جو بايدن التي تعتقد أن لديها الصلاحية للقيام بهذه النشاطات، وعّبرت عن رغبتها بالحفاظ عليها، الحصول على صلاحية من الكونغرس.
ومن المستبعد أن يقوم الفرع التشريعي المنقسم على نفسه في موضوع البقاء بسوريا، ويعود للتخلي عن واجباته في قضايا الحرب والسلام، ويتجرأ على تصريح يترك أثره على عمليات الولايات المتحدة في سوريا. وحتى لو أدى هذا لتمسك الإدارة بالمسار الحالي في سوريا، فيجب ألا يسمح للتحريفات القانونية التي قامت بها الحكومة الأمريكية بالتحول إلى سابقة.
ومن أجل منع حدوث هذا، فمن المهم الاعتراف بالطرق المتعددة التي قامت من خلالها الحكومة الأمريكية بتوسيع الصلاحية الحالية والتفكير بكيفية تجنب إعادة تنشيط الإطار لمشاركة الكونغرس، حتى لا تقوم الإدارات في المستقبل بالحصول على حريات في سيناريوهات مماثلة. وينص ميثاق الأمم المتحدة على منع استخدام القوة ويحيل الصلاحية إلى مجلس الأمن الذي يمنحها خدمة للأمن والسلام العالميين.
ويعتبر مبدأ ممارسة “الحق الطبيعي والدفاع عن النفس” الذي تجسده المادة 51 من الميثاق استثناء لهذا الحظر. ويجب أن يكون أي إجراء للدفاع عن النفس ضروريا ومتناسبا مع التهديد، ويجب إعلام مجلس الأمن بحسب “تفاصيل المادة 51”. وبالمقارنة، تعطي المادة الأولى من الدستور الأمريكي الكونغرس حق “إعلان الحرب”، ومارس الكونغرس هذه الصلاحية في الإعلان عن الحروب الرسمية، كما في عام 1941 ضد اليابان. أو كما حدث في العقود الماضية عبر المكافئ الوظيفي للصلاحية لاستخدام القوة العسكرية. فالولايات المتحدة شنت حربا ضد الإرهاب بناء على قانون صيغ بطريقة فضفاضة ومرره الكونغرس بعد هجمات 11 سبتمبر، أو ما عرف باسم “تصريح استخدام القوة العسكرية”.
وكان القصد من القانون هو السماح للجيش الأمريكي بالبحث عن ومواجهة المسؤولين عن هجمات 9/11 أي القاعدة. ولأن القانون لم يحدد العدو بشكل واضح، فقد استخدمه الفرع التنفيذي في حروب متعددة وضد عدد من الأعداء الذين لم يكونوا موجودين أثناء تمريره. وبالإضافة للنزاعات التي يقرر صلاحيتها الكونغرس، فالرئيس لديه سلطة بموجب الدستور، بشن الحروب، وذلك لكونه القائد الأعلى للجيش والبحرية. ورغم أن صلاحية الرئيس هذه محل خلاف، إلا أنه يستطيع الإعلان عن الحروب في الظروف التي يراها ضرورية للدفاع عن أمريكا أو ضد هجوم مفاجئ. وللحد من قدرات الرئيس لاستخدام صلاحية أخذ البلد في حرب من اختياره، قام الكونغرس في الأيام الأخيرة من نهاية حرب فيتنام عام 1973 بتمرير “قرار سلطات الحرب”. وبناء على هذا القانون، يجب على الرئيس أن يقوم في غياب قرار من الكونغرس بإبلاغه خلال 48 ساعة عن دخول القوات الأمريكية في أعمال عدائية. وعندما يتم تقديم التقرير للكونغرس ليبدأ العد لمدة 60 يوما، وعلى القوات الأمريكية خلالها أن تنهي انسحابها من القتال أو مواصلته حالة قرر الكونغرس التصريح بعملها.
ويعتبر الوضع في سوريا معقداً، فبعد اندلاع الحرب الأهلية عام 2011، شجبت الولايات المتحدة أفعال نظام الأسد، ولكنها تجنبت التدخل حتى عام 2014 عندما سيطر تنظيم الدولة على مناطق واسعة في سوريا والعراق. وعندها بدأت بحرب جوية قبل أن ترسل قواتها إلى الميدان، بذريعة مساعدة قوات محلية لمواجهة التنظيم. وعندما أرسلت الولايات المتحدة قواتها، كان المبرر بناء على القوانين المحلية والدولية هو مكافحة الإرهاب. وفسرت إدارة باراك أوباما تصريح الكونغرس باستخدام القوة ليس فقط ضد القاعدة ولكن تنظيم الدولة أيضا. وبناء على هذا التفسير، اعتبرت الإدارة علاقة مؤسس فرع القاعدة في العراق أبو مصعب الزرقاوي والذي ظهر منه التنظيم الدولة، بأنه على علاقة مع أسامة بن لادن، مع أن تنظيم الدولة انفصل لاحقا عن القاعدة.
وبناء على هذه النظرية، لم تكن إدارة أوباما بحاجة لترخيص الكونغرس لأنه مرر قراره عام 2001، رغم كون تنظيم “الدولة” لم يكن موجوداً حينذاك. ولكي تحمي نفسها بناء على القانون الدولي، أرسلت الإدارة الأمريكية رسالة وفق المادة 51 إلى مجلس الأمن، قالت فيها إنها تحركت ضد تنظيم “الدولة” في سوريا من أجل الدفاع عن النفس ونيابة عن العراق ونفسها. وقالت الولايات المتحدة إن هناك ضرورة لاستخدام القوة بدون موافقة الحكومة السورية لأنها “ليست قادرة أو غير مستعدة” لمواجهة تهديد تنظيمي “الدولة” والقاعدة. وهو نفس المنطق الذي استخدمته بريطانيا وألمانيا للمشاركة في الحرب ضد تنظيم “الدولة”.
ومع وصول القوات الأمريكية إلى سوريا، بدأت بتبادل إطلاق النار مع قوى غير تنظيم “الدولة”. ففي أيلول/ سبتمبر 2016، شنت الولايات المتحدة وشركاؤها في التحالف الدولي، سلسلة غارات جوية ضد قوات النظام السوري في دير الزور، حيث اعتقدت أنهم مقاتلون من تنظيم “الدولة”. وتزايدت المواجهات خلال إدارة دونالد ترامب، حيث تركزت حول قاعدة التنف العسكرية في جنوب- شرق سوريا.
ورغم أن المبرر للوجود الأمريكي في تلك القاعدة كان جزءا من محاربة الإرهاب، إلا أن مستشار الأمن القومي لترامب، جون بولتون، اعتبره جزءا من محاربة إيران. وفي الفترة ما بين أيار/ مايو وحزيران/ يونيو 2017 واجهت الولايات المتحدة جماعات مؤيدة للحكومة السورية. وفي الشمال، أسقطت القوات الأمريكية طائرة عسكرية سورية في حزيران/ يونيو 2017 كانت في مهمة لقصف حلفاء أمريكا الأكراد. وفي شباط/ فبراير 2018، خاضت القوات الأمريكية معركة استمرت 4 ساعات ضد قوات موالية للأسد في شرق سوريا. وفي كانون الأول/ ديسمبر 2019، قصفت مقاتلات أمريكية مواقع لكتائب حزب الله الموالية لإيران.
وأدت المواجهات هذه لقتل الولايات المتحدة الجنرال قاسم سليماني عام 2020، وفي آب/ أغسطس 2020، خاض الجنود الأمريكيين معركة بالبنادق مع القوات السورية عند نقطة تفتيش. وبعيدا عن هذه المواجهات، أمر ترامب بضرب مواقع للحكومة السورية ردا على استخدام السلاح الكيماوي في 2017 و2018. واستمر القتال بين الجماعات المسلحة التي تدعمها إيران والقوات الأمريكية خلال فترة إدارة بايدن. ففي شباط/ فبراير وحزيران/ يونيو 2021، شنت الولايات المتحدة غارات جوية ضد ميليشيات تدعمها إيران في سوريا وقريبا من الحدود العراقية. وبنهاية ذلك العام، تعرضت قاعدة التنف إلى هجمات بخمس مسيرات انتحارية، أُرسلت انتقاما لغارات إسرائيلية على مواقع إيرانية حسبما أوردت “نيويورك تايمز”. وبعد شهرين، أسقطت مقاتلة عسكرية بريطانية مسيرتين كانتا تقتربان من التنف. وفي الأسبوع الأول من عام 2022، هاجمت القوات الأمريكية التي تحركت للدفاع عن نفسها وقوات سوريا الديمقراطية، جماعات موالية لإيران ردت على النار بالمثل. ومن هنا، فالعمليات التي نفذتها الولايات المتحدة في سوريا لا تتواءم مع الترخيص باستخدام القوة القائم على مكافحة الإرهاب.
وعليه، لجأ الفرع التنفيذي إلى الحيل القانونية. ففي الوقت الذي لم تقدم فيه إدارة أوباما نظرية قانونية للهجمات الخاطئة على القوات السورية، إلا أن إدارتي بايدن وترامب قدمتا مبررات وباختلافات طفيفة. فقد اعتبرت إدارة ترامب الهجمات ضد القوات السورية من خلال وضعها في سياق قانون ترخيص الحرب عام 2001 وبناء على فكرة “الدفاع عن النفس”. وبناء على هذا التفسير، فالقوات الأمريكية وشركاؤها كانوا يقومون بمواجهة القاعدة وتنظيم “الدولة”، ولكنهم اضطروا للدفاع عن أنفسهم ضد جماعات غير التنظيمين.
وباعتمادها على هذا القرار، وليس صلاحيات القائد الأعلى، فقد تجنبت إدارة ترامب قانون 1973 حول قرار سلطات الحرب وما يقتضيه من إجراءات. واستخدمت الإدارة نفس التفسير حسب القانون الدولي، فهي وإن قاتلت ضد القاعدة وتنظيم الدولة دفاعا عن النفس، إلا أنها تستطيع الدفاع عن نفسها ضد جماعات أخرى. ولا يعد هذا التفسير محلا للإجماع، وحتى لو قبله الواحد من الناحية المبدئية، فتطبيق إدارة ترامب له على الحرب في سوريا يظل مثيرا للتساؤل. وتصريحات ترامب نفسه تشي بأن المهمة ليست للدفاع عن النفس ولكن “لتأمين حقول النفط”.
وبالمقابل، اعتمدت إدارة بايدن على فكرة مكافحة تنظيم “الدولة”، حيث قالت إن القوات الأمريكية في التنف أصبحت مشاركة بمواجهة التنظيم الذي يقوم بإعادة تنظيم نفسه. وبررت الإدارة هجماتها ضد الجماعات الموالية لإيران بناء على سلطة الرئيس الدستورية وليس قانون صلاحيات إعلان الحرب عام 2001. ولكن الإدارة لم تبلغ الكونغرس خلال 48 ساعة عن بدء الأعمال العدائية، ربما لأنها فسرت الأعمال هذه بطريقة ضيقة ولم تكن بحاجة لبدء العد 60 يوما. وفي الوقت الذي صادق فيه المجلس على الأعمال ضد تنظيم الدولة وخصص ميزانية لها، إلا أنه لم يصادق على أعمال ضد الجماعات الأخرى.
وبالمحصلة، هناك حاجة من إدارة بايدن والكونغرس للعمل معا والحد من النظريات القانونية التي تتجاوز قيود ميثاق الأمم المتحدة والدستور. ويجب منع تحول التفسيرات القانونية الخلاقة التي ساعدت على توسيع الأعمال العدائية في سوريا إلى أمر متعارف عليه. وعلى الإدارة تقديم تفسير قوي لنظرية “غير مستعد وغير قادر” لتحديد السياق الذي تستخدم فيه القوات الأمريكية فكرة الدفاع عن النفس في سوريا وبناء على القانون الدولي والأمريكي. وعليها توضيح ماذا تعني بـ”العدائية” بناء على قرار سلطات الحرب. وهناك حاجة لتشريع جديد، فقد مضى الوقت على قانون تصريح استخدام القوة العسكرية عام 2001 أو على الأقل تعديله بطريقة تمنع التفسيرات الموسعة له حيث ظل كما هو مثل القرار الصادر لتبرير غزو العراق عام 2003.
المصدر: “القدس العربي”