مذكرات عبد السلام جلود: حرب أكتوبر هزيمة عسكرية وسياسية أخطر من نكسة 1967 (2 -5)

عبد السلام جلود   

عبد السلام جلود رئيس وزراء ليبيا الأسبق (من 16 يوليو/ تموز 1972 حتى 2 مارس/ آذار 1977). ولد في 15 ديسمبر/ كانون الأول 1944. كان من الضباط البارزين ممن شاركوا في ثورة الفاتح من سبتمبر 1969. وظل طويلا في مواقع الحكم في بلاده بقيادة معمر القذافي. اعتبر الرجل الثاني في ليبيا، فقد تولى مهام ومناصب حساسة في النظام: وزير الداخلية والحكم المحلي، المالية، الاقتصاد والصناعة، وعضو الأمانة العامة لمؤتمر الشعب العام (مجلس الرئاسة)، فضلا عن أن له أدواره في ملفات عربية، منها في أثناء الحرب الأهلية في لبنان. نشبت في العام 1992 خلافاته مع القذافي، فترك المشهد الرسمي نهائيا. وبعد اندلاع الثورة في 17 فبراير/ شباط 2011، غادر ليبيا إلى الخارج. يستعرض في كتاب مذكّراته “الملحمة”، والذي يصدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، فصولا عديدة من سيرته، الشخصية والسياسية، ويضيء على علاقات ليبيا الدولية والعربية في زمن القذافي. ويكشف تفاصيل ومعلومات مثيرة، سيعرف القارئ كثيرا منها لأول مرة. ينشر “العربي الجديد” أجزاء ومقاطع منه في خمس حلقات. وفي الحلقة الثانية يكشف جلود عن صفقة سرّية مع فرنسا، حيث اشترت ليبيا طائرات ميراج مقاتلة وقدّمتها لمصر، وأفرحت الرئيس جمال عبد الناصر. ويرى جلود أن نتيجة حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973 العسكرية والسياسية كانت كارثية وأسوأ من نتائج الهزيمة في حرب 1967. ويروي جلود تفاصيل مشادة بينه وبين الرئيس اليمني علي عبدالله صالح في مؤتمر لمنظمة المؤتمر الإسلامي في الدار البيضاء.

العلاقة مع مصر واللقاء الأول مع عبد الناصر

كنت أول عضو في قيادة الثورة يقابل الرئيس جمال عبد الناصر. كان ذلك بعد نجاح ثورة الفاتح بشهر واحد فقط، أي في تشرين الأول/أكتوبر 1969. ذهبت إلى مصر في طريقي إلى السودان للمشاركة في احتفالات الثورة التي قادها النميري. توجهت للقاء عبد الناصر فور وصولي مطار القاهرة، وكنت أعتقد أنه سوف يستقبلني في المكتب الرئاسي. توقفت السيارة التي تقلّني من المطار أمام منزله. نزلت من السيارة وفوجئت بوجود الرئيس قرب باب السيارة. احتضنني بقوة، وكنت أرتدي ملابسي العسكرية. ولهول المفاجأة، سقطت “طاقيتي” العسكرية وانزلقت عصاي من يدي. كان ترحيبه حارًّا ومفعمًا بالتقدير والمحبة. على الفور عقدنا اجتماعًا مطولًا لم يحضره أحد سوانا. قلت للرئيس عبد الناصر: “يقول لك الأخ معمّر والإخوة في القيادة، ماذا نريد لأجل محاربة اليهود؟”، فردّ عليّ بسرعة: “نريد طائرات قاذفة مقاتلة”. صدمني الردّ؛ لأنني كنت أؤمن بأنّ التوازن مع العدو، هو توازن اجتماعي يتمثل في تحرير الإنسان العربي سياسيًا وثقافيًا واجتماعيًا، وبأنّ الصراع هو بين إرادتين، إرادة منتصرة وإرادة مهزومة، وأن تغيير الواقع العربي يأتي من انتصار الثورة. ومع ذلك قلت له: “أنا ذاهب لشراء طائرات الميراج من فرنسا بعد عودتي من السودان، فأرجو أن تجهز لي طاقمًا فنيًّا متخصّصًا يضع مواصفات الطائرة ليتولى الجانب الفني من المفاوضات لعقد الصفقة، وهُم سيكونون ضمن الوفد الليبي”، فضحك الرئيس عبد الناصر وقال لي حرفيًّا
“أنتم شباب صغار لا تفهمون السياسة. مش ممكن الميراج تكون عندنا وعند العدو”. لكنني أصررت على موقفي وأكدت له بأنني سأذهب على رأس وفد إلى فرنسا لأبحث هذا الأمر. ولما عدت من السودان، وجدت الرئيس عبد الناصر قد عيّن فريقًا فنيًا ممتازًا. وبالفعل ذهبت إلى فرنسا في زيارة سرية على رأس وفد ليبي، بجواز سفر عادي، وباسم مستعار تحت غطاء “وفد زراعي”. بدأت المباحثات بيني وبين وزير الدفاع ميشيل دوبريه، واكتشف الفرنسيون أنّ الفريق الفني المرافق لي، والذي وضع المواصفات لكل الأجهزة التي يمكن أن تضاف إلى الطائرة، هو فريق مصري؛ ولذا مازحني الفرنسيون قائلين: “جلود. عندكم فنيون ممتازون ويملكون خبرة كبيرة بطائرات الميراج؟”.

كانوا يريدون أن يقولوا لي: “نحن نعرف أنهم مصريون”. كنت أقيم في فندق من الدرجة الثالثة، وكان ضباط المخابرات الفرنسية يقومون بالتغطية على الوفد بتغيير الفنادق. كانت الحكومة الفرنسية والرئيس جورج بومبيدو شجاعين، وكانا يطلبان الحفاظ على سرّية المباحثات حتى توقيع الاتفاق لخوفهم من الضغوط الإسرائيلية والأميركية، وكان إقدام الرئيس بومبيدو على عقد هذه الصفقة يعبّر عن شجاعة غير عادية.

كان من بين أعضاء الوفد الفني العقيد محمد التهامي والعقيد دله إبراهيم من سلاح الجو الليبي، وكان هناك مستشارون قانونيون، من بينهم المستشار محمد عزوز، ثم محمد كامل حسن المقهور الذي شغل منصب مستشار المحكمة العليا خلال الفترة 1969-1971 ومندوب ليبيا الدائم في الأمم المتحدة في عام 1972. فوجئت يوم 31 كانون الأول/ ديسمبر 1969 بإصرار الجانب الفرنسي على التوقيع فورًا، وإلا فسوف ترتفع الأسعار بدايةً من الأول من كانون الثاني/ يناير بنسبة 14 في المئة. عندها ألح عليّ الوفد الليبي على التوقيع، لكنني رفضت، وأذكر أن العقيد التهامي غضب وقال لي حرفيًّا: “ما بك يا رائد عبد السلام أتعتقد أننا نريد شراء دجاج؟”؛ ذلك أنني كنت أعتقد أنّ الأسعار لا تزال مرتفعة. طلبت لقاء وزير الدفاع دوبريه. وبالفعل، حضر إلى وزارة الدفاع بعد قطع احتفاله برأس السنة. قلت له: “لا فرق بين طائرات الميراج والميغ. يمكننا أن نذهب إلى موسكو لشراء طائرات الميغ، ولكن الموضوع سياسي؛ عادة حينما تحصل ثورة تقدمية تتجه إلى موسكو، وحينما يحصل انقلاب يميني يتجه إلى واشنطن، ونحن بصفتنا شبابًا عربًا، نمثل شباب أمتنا. لقد قرأنا الكثير عن الثورة الفرنسية، ونؤمن بالوحدة العربية كما يؤمن شارل ديغول بالوحدة الأوروبية. لدينا حساسية خاصة بالنسبة إلى استقلالية قرارنا، ولدى ديغول الشعور نفسه. نحن نقدّر ديغول والديغولية لرفضه الهيمنة الأميركية، ولإيمانه باستقلال أوروبا عن أميركا، وهذا هو الذي دفع ثورة الفاتح كي تتجه إلى فرنسا. لكل هذا، لا يمكنني التوقيع لأننا لم نتفق على الأسعار ولا على مدة التسليم ولا على مدة الدفع”.

وافق وزير الدفاع على تأجيل التوقيع، ثم قمنا في 10 كانون الثاني/يناير 1970 بالتوقيع على الاتفاق. كان من المفروض أن يسلّمنا الجانب الفرنسي 13 طائرة ابتداءً من السنة الأولى، لكنني تمكنت من زيادتها إلى 28 طائرة، كما تمكّنت من خفض الأسعار بنحو 22 مليون دولار، وزيدت مدة الدفع من 4 إلى 6 سنوات، وعلى أن يستمر الدفع من دون أي زيادة لمدة سنتين إضافيتين بعد نهاية التسليم، وذلك لنضمن استمرار تأمين قطع الغيار والمساعدة الفنية والتدريب. كانت قيمة الصفقة تزيد على 120 مليون دولار، وهي أكبر صفقة تبرمها فرنسا، وتتضمن 110 طائرات “ميراج-5″ و”ميراج-3”. طلبت من وزير الدفاع الفرنسي أن يعطيني رسالة تضمن فيها الوزارة أن الأسعار المتفق عليها هي نفسها التي يشتري بها الجيش الفرنسي. وبالفعل، أعطاني الرسالة. أُقيل مدير المبيعات العسكرية الفرنسي، ثم قُتل.

وفي هذه الأثناء، تمّ تهريب الزوارق الإسرائيلية التي بنتها فرنسا لإسرائيل من ميناء طولون. وقبل توقيع الاتفاق بأيام، نشرت مجلة باري ماتش (Paris Match) صورة لي وأنا أغادر فندق “لوتيسيا” بمنطقة “سان جرمان”، فقرّرنا الإسراع في توقيع الصفقة قبل أن ينتشر الخبر؛ لأن الحكومة الفرنسية كانت تخشى الضغوط الأميركية والإسرائيلية إذا ما تمّ الكشف عنها. وحدث أنني ذهبت إلى مصر وقابلت الرئيس عبد الناصر فقلت له: “شن رأيك يا ريس؟” فضحك. كان عبد الناصر سعيدًا بالصفقة. لقد كانت بالنسبة إليه حلمًا، فقال لي غاضبًا: “أنتو بتذلوني بقا؟ (أي أنتم تريدون إذلالي)”. كان عبد الناصر سعيدًا في قرارة نفسه ولكن كبرياءه جعله يرد علي بهذه الطريقة.

كان من المفروض أن تحدث الصفقة تحولًا هائلًا في مجرى الصراع العربي – الصهيوني، فقد رفعت معنويات الأمة العربية كلها، وعبّرت عن قدرة ثورة الفاتح على تغيير الموازين والمعطيات. ولأن القتال بين إرادتين، إرادة مُصمّمة على النصر وهي الإرادة الصهيونية، والإرادة العربية المهزومة، فإن الصفقة لم تحدث الأثر المأمول. لكنها كسرت احتكار العدوّ الصهيوني للسلاح الغربي.

في هذا السياق، أذكر أنني كنت في زيارة للقاهرة، وكان لدي موعد على العشاء مع محمد حسنين هيكل، وفي أثناء العشاء، فاجأني هيكل بالقول: “بصراحة أنا زعلان منكم قوي. لماذا تكتبون كتابًا – وكان يقصد الكتاب الأخضر الذي كتبه الأخ معمّر – كان عليكم أن تجمعوا خطب عبد الناصر وتضعوها في كتاب”، فقلت له: “يا أخ هيكل نحن في ليبيا لا ننظر إلى عبد الناصر كما تنظرون أنتم إليه في مصر. علاقتنا بعبد الناصر تختلف عن علاقتكم به، نحن جيل جديد من الثوريين الذين يرون أنهم جزء من الظاهرة الناصرية، ولكنهم يمتلكون طريقًا خاصًا لتجديد الفكر القومي”.

زيارة عبد الناصر ليبيا و”مشروع روجرز”

كانت الجماهير العربية في ليبيا متعطشة ومتلهفة للقاء الرئيس جمال عبد الناصر. في 27 كانون الأول/ديسمبر 1969، زار عبد الناصر ليبيا، فخرجت الجماهير الليبية في بنغازي عن بكرة أبيها في كتل بشرية هائلة. كانت تتجه من مطار بنينا إلى مقر الإقامة، وكذلك في طرابلس من المطار إلى قصر الضيافة. كنت أنا والأخ معمّر وعبد الناصر نستقل سيارة “لاندروفر صالون مكشوفة”، وكان الموكب يتوقف باستمرار أمام الكتل البشرية الهائلة المتدفقة. كان عبد الناصر يسألنا: “كم عدد سكان ليبيا؟”، فنقول له: “5 ملايين” فكان يقول: “هذا غير ممكن. ليبيا 20 مليونًا. الذين حضروا لاستقبالي في بنغازي أكثر من 5 ملايين، والآن أمامي أكثر من 8 ملايين”. عقدنا الأخ معمّر وأنا مباحثات، أو الأدق أجرينا حوارًا، مع عبد الناصر، وشرحنا له تصوراتنا عن الثورة الشعبية التي نريد تفجيرها، وتحويل ثورة الفاتح الطليعية إلى “ثورة شعبية”.

في نهاية الحوار قال عبد الناصر: “من الممكن ألّا أعمل ثورة شعبية مثلكم بالضبط؛ ولكنني كنت أريد أن أضرب الأجهزة وأعود إلى الشعب، لكن اليهود والأميركيين سبقوني، ولم يتركوا لي هذه الفرصة – وكان بذلك يشير إلى عدوان 1967 – وأن أعيد بناء الاتحاد الاشتراكي والتنظيم الطليعي من جديد، وكنت سأعلن شيئًا قريبًا مما تفكرون به”. لما خرجنا من الاجتماع، كان عبد الناصر يمسك بيدي وبيد الأخ معمّر، وأريد هنا أن أشير إلى أن روح عبد الناصر الثورية قد عادت إليه، وبدا صوته مجلجلًا كما كان في الخمسينيات والستينيات، وتجلى هذا في خطاباته التي ألقاها خلال زيارته. لقد أعطته ثورة الفاتح أملًا جديدًا. خلال الزيارة بدا عبد الناصر سعيدًا إلى أبعد الحدود بالزيارة وباستقبال الجماهير الليبية له. وحدث خلال الزيارة أن الصهاينة نجحوا في تفكيك الرادارات المصرية في منطقة البحر الأحمر، وأنهم قاموا بنقلها إلى فلسطين المحتلة، وكان المسؤول عن منطقة البحر الأحمر أحمد إسماعيل. ولما علم عبد الناصر بالخبر، اتصل هاتفيًّا بالقاهرة، وهو في حالة ثورة الغضب، وكنت أنا والأخ معمّر إلى جواره، وأصدر أمرًا بإعدام أحمد إسماعيل، وكان يقول: “أعدموه، أعدموه”.

كان الخلاف الوحيد مع عبد الناصر يدور حول “مشروع روجرز” في تشرين الثاني/نوفمبر 1969، قام الأخ معمّر بزيارة القاهرة وبغداد. كانت ليبيا والعراق من أشدّ معارضي المشروع. حاول حزب البعث في العراق استغلال هذا المشروع، لتصعيد الهجوم على عبد الناصر، ليس من منطلق “معارضة المشروع”، بل من منطلق “المزايدة على عبد الناصر”؛ لأنه انتزع زعامة القومية العربية، وكنّا نعي هذا الجانب من معارضة العراق لمشروع روجرز، حين سعى لجرّنا إلى المواجهة مع عبد الناصر.

اتصل الأخ معمّر بالرئيس عبد الناصر وقال له: “يا ريس نحن جيل جديد، ونحن لا نشكّ مطلقًا بالتزامك القومي بتحرير فلسطين، وأن قبولك لمشروع روجرز ليس استراتيجيًّا، وإنما هو عمل تكتيكي لإعادة بناء القوة وإنشاء حائط الصواريخ. ومع تأكدنا من هذا، إلا أننا، وأرجو أن تتفهم ذلك، لا نستطيع
إلا أن نرفض المشروع”. كان أكبر تحدٍّ واجهنا في هذا الوقت، هو كيف نرفض مشروع روجرز من دون أن نسيء إلى عبد الناصر. هذه هي المعضلة. وحينما اجتمعنا في مجلس قيادة الثورة، قررنا رفض المشروع وإصدار بيان بذلك، وقد قمت بصياغة البيان بمنتهى الدقة والقوة، وفي الآن ذاته بحرص شديد على عدم الإساءة إلى عبد الناصر، حتى لا يدخلنا ذلك في خلاف أو مواجهة معه. قبل إعلان البيان، اتصلنا بعبد الناصر لإبلاغه بصيغة البيان حتى لا يفاجأ به.

وحينما كان عبد الناصر يقوم بزيارته لليبيا أجرينا معه حوارات مكثفة حول جملة من القضايا، وفي أحد هذه الحوارات قال عبد الناصر: “يا معمّر، يا عبد السلام. لقد كان الملك فيصل ابن حلال، كان أول ما فاجأني، حين وقف في مؤتمر الخرطوم وأعلن عن دعم مصر بعشرين مليون دولار”. في الواقع، تمنيت ألا أسمع هذا الكلام من عبد الناصر. كنت أعلم أن عبد الناصر كان مضطرًا إلى دفع ثمن غالٍ، هو سحب القوات المصرية من اليمن، والتخلي عن ثورة اليمن. في مؤتمر الخرطوم، رغم “اللاءات الثلاث”، تمّ التخلي عن الثورة، وجرى رفع شعار “وحدة الصف” بدلًا من “وحدة الهدف”. وبدأت بعض القوى الراديكالية في الوطن العربي، وعلى رأسها “الجناح الماركسي” في حركة القوميين العرب، في معارضة عبد الناصر، واتهامه بالتخلي عن الثورة.

وفاة عبد الناصر ومرحلة السادات

في 28 أيلول/ سبتمبر 1970، أذاعت وكالات الأنباء نبأ وفاة عبد الناصر المفاجئة. عند سماعنا النبأ، سافرنا على الفور أنا والأخ معمّر ومعنا عدد من أعضاء القيادة إلى القاهرة. كان وقع الوفاة كالصاعقة علينا. كانت فاجعة كبرى أو كارثة قومية. لقد أكدت الأحداث بعد ذلك أنها كانت بالفعل فاجعة قومية. كنّا نعتبر عبد الناصر هو الأب الروحي لحركتنا، على الرغم من أننا لم نتصل به قبل تفجير الثورة. كنّا نعرف همومه بعد هزيمة عام 1967، ولم نكن نرغب في إشغاله بهمومٍ أخرى، كما أننا كنّا نحرص على أن تكون الثورة بمنزلة مفاجأة سارة له. كان عبد الناصر، على المستوى الشخصي والعاطفي، يعني الكثير لنا؛ أما على المستوى القومي، فقد كان لنا بمنزلة مُلهم للثورة والقومية من عدن إلى الجزائر، ومن المحيط إلى الخليج.

بعد انتهاء مراسم الدفن، وقبل أن نركب السيارات، أمسك السادات بيدي شعراوي جمعة وسامي شرف، وقال لنا: “يا معمّر، يا عبد السلام، خلي شعراوي وسامي شرف يضعوا يدهم في يدي. ونكمل على طريق عبد الناصر”. كان تعيين عبد الناصر للسادات نائبًا له بمنزلة مفاجأة لنا. كنّا نعرف السادات، فقد زار ليبيا في طريقه لحضور مؤتمر القمة العربية في المغرب. كانت هزيمة حزيران/يونيو 1967 كصاعقة نزلت على رأسه، وقد صدق حسين الشافعي حين قال: “عبد الناصر مات عام 1967″. استغل السادات، وزوجته، ضعف عبد الناصر في هذا الوقت، وقدّما نفسيهما على أنهما يحرصان ويعطفان عليه. قيل لي إن عبد الناصر كان يحب الجبنة المعصورة، وإن القائمين على خدمته في الفترة الأخيرة، كانوا كلما أحضروها له يكتشفون أنه في بيت السادات، فكانوا يأخذونها إليه هناك”.

بعد وفاة عبد الناصر، كثفنا جهودنا مع مصر وسورية من أجل إقامة وحدة. وافق السادات، وكنّا نضغط بقوة من أجل ذلك، ثم اتفقنا على إقامة اتحاد بين الدول الثلاث، لكننا اكتشفنا أن السادات وافق على ذلك في عملية تكتيكية ليوطّد سلطته ويقضي على الناصريين، ثم ليمهد لانقلاب 15 أيار/مايو 1971.

تشكلت لجنة ثلاثية لإعداد دستور اتحاد الجمهوريات العربية، وكنت أرأس الجانب الليبي، بينما ترأّس الجانبَ المصري حسين الشافعي وترأس الجانبَ السوري محمود الأيوبي، نائب رئيس الجمهورية. كان الوفد الليبي يضمّ منصور الكيخيا والمحامي كامل المقهور. وفي هذه الاجتماعات، أبدى الجانب المصري دهشته من وجود قدرات قانونية ممتازة في ليبيا مثل قدرات كامل المقهور. بعد انقلاب السادات عام 1971، أرسل إلينا وفدًا برئاسة محمد عبد السلام الزيات وأشرف مروان، وكان الزيات نائبًا لرئيس الوزراء ونائبًا لرئيس الاتحاد الاشتراكي؛ ففوجئنا بأن السادات يتصل بنا ويقول: “ركزوا في الإعلام على أشرف مروان”. شعر السادات بأن الناصريين يتآمرون عليه، وأعتقدُ أن أشرف مروان، مع بعض المسؤولين، هو من أخبر السادات بوجود هذه المؤامرة. وعلى الرغم من أن الناصريين كانوا يسيطرون على أهم مرافق الدولة مثل الداخلية والدفاع والمخابرات والاتحاد الاشتراكي والتنظيم الطليعي، فإنه تمكن من تنفيذ انقلابه من دون أن يكلفه ذلك سوى قطع الهواتف عنهم. خلال هذه الزيارة، طلب الوفد المصري مساعدة بـ 60 مليون دولار، نظرًا إلى حاجة مصر إلى شراء القمح، وقمنا بتحويل المبلغ على الفور.

في أحد اجتماعات مجلس “اتحاد الجمهوريات العربية” في نيسان/أبريل بالقاهرة، وبحضور السادات وحافظ الأسد والأخ معمّر القذافي وأنا ووزراء الدفاع ورئيسَي الأركان في كل من مصر وسورية، وكانت الجلسة مخصّصة لمناقشة قضية تحرير أراضي عام 1967، فوجئت أنا والأخ معمّر بأن مصر قدّمت خطة عسكرية كلاسيكية. كانت الخطة تقوم على فكرة قيام القوات المصرية بالعبور والهجوم على القوات الصهيونية في سيناء، بينما تهجم القوات السورية في الوقت نفسه على القوات الصهيونية في جبهة الجولان، وهي خطة تقليدية، تعبّر عن جمود العقل العسكري وتكلّسه؛ فهي تتجاهل الجبهة البحرية، مع أنها “جبهة مميتة وقاتلة”، كما أنّ الخطة تستبعد القيام بضربات جوية للكيان الصهيوني؛ فاعترضنا على ذلك. قال الأخ معمّر: “إذا طبقتم هذه الخطة فستقود إلى هزيمة جديدة. شوف شن تسمّوا هزيمة 67؟ نكسة؟ بعدها ستكون نكبة”. وقدّمنا خطة بديلة مكتوبة. تقوم الخطة على تثبيت العدو في جبهة سيناء، وشد أكبر قوة له في هذه الجبهة، وإيهامه وخداعه بأن الهجوم الرئيس سيكون من جبهة سيناء، في حين يكون الهجوم الرئيس من الجبهة الشرقية، ولذا يجب نقل أكبر قوة برية وجوية إلى الجبهة الشرقية، كما يجب ألا يتم الهجوم مباشرة على صخرة الجولان، وإنما يتم جنوب الجولان عبر الأراضي الأردنية المتاخمة للحدود السورية والاندفاع بسرعة للوصول إلى أراضي 48، واستخدام القوات الخاصة والفدائيين خلف العدو وفي العمق عن طريق الإبرارات، وشن غارات جويه مكثفة في عمق العدو ومدنه ومطاراته وأهدافه الاستراتيجية، ومهاجمة الشواطئ بالضفادع البشرية والفدائيين والقوات الخاصة.

لمّا قدمنا الخطة، قلنا للسادات وحافظ الأسد: “إذا كنتم جادين في تحرير أراضي 67 فهذه هي الخطة”. فقال السادات: “جرى إيه يا أخ معمّر ويا عبد السلام. هذه الخطة أعدتها مجموعة من قادة الأركان، في أكاديمية ناصر. إزاي (كيف) تشكّكوا فيها؟ نعرف أنكم خبراء في الثورة، أما في العلوم العسكرية فلا”، فرددت عليه وقلت: “التخطيط الاستراتيجي هو وعي وقدرة وتحليل وبعد نظر وفهم للمشكلة. مَن يخطط للثورة يمكنه أن يخطط للسياسة وللاقتصاد والأمور العسكرية. أما تعبئة دبابة وطائرة وصاروخ ومدفع، فهذا عمل تخصصي فنّي”. لكن خطتنا رُفضت وأصروا على خطتهم، فقلنا لهم: “هذه الخطة ستقود إلى هزيمة ونكبة وكارثة. ومع ذلك فكل إمكانيات ليبيا تحت تصرفكم، وكل ما هو مطلوب منّا نحن جاهزون، ولكننا لن نتقاسم المسؤولية السياسية والقومية، لا في النصر ولا في الهزيمة”.

بعد عودتنا من الاجتماع في القاهرة، ذهبت إلى الجزائر واجتمعت بالرئيس بومدين وقلت له: “السادات يريد أن يقوم بحرب تحريك ستقود بالتأكيد إلى هزيمة، وستعبر القوات الصهيونية قناة السويس وتهدد القاهرة وستشكل حكومة ‘فيشي’في مصر، ومن ثمّ سيفرضون الاستسلام على مصر والأمة العربية؛ ولذا نحن نرى أنه إذا ما حدث هذا، فيجب أن تقوم وحدة فورية بين ليبيا والجزائر ونعلن رفضنا للاستسلام. يجب أن تشكل ليبيا والجزائر الجبهة الغربية، ونعلن استمرار الحرب. هذا قد يحرض سورية والعراق على تشكيل الجبهة الشرقية”. فوافق بومدين، واتفقت معه على أن نعقد اجتماعًا في حاسي مسعود لتوقيع ميثاق الوحدة. وبالفعل، عقد الاجتماع وحضره من الجانب الليبي الأخ معمّر وأنا، ومن الجزائر الرئيس بومدين وعبد العزيز بوتفليقة، ووقّعنا ما عُرف بـ “ميثاق حاسي مسعود” الذي ينصّ على الآتي: “في حال هزيمة مصر وفرض الاستسلام عليها، تقوم وحدة فورية بين ليبيا والجزائر، ونعلن تشكيل الجبهة الغربية ورفض الاستسلام واستمرار الحرب”.

بعد أشهر، وقبيل الحرب، زارنا السادات في ليبيا وكنت أرأس مؤسسة الصناعات الحربية بين مصر وليبيا والكويت، وقال لي: “يا عبد السلام، أريدك أن تذهب إلى صديقك جيسكار ديستان، رئيس الجمهورية الفرنسية، عندي صواريخ القاهر والظافر ينقصها نظام التوجيه، وهي مهمة في الحرب. اطلب من ديستان أن يوافق على تزويدنا بنظام التوجيه لهذه الصواريخ”. وبالفعل سافرت إلى فرنسا واجتمعت بجيسكار ديستان وحصلت على موافقته، وأن تقوم شركة “مترا” بتزويد هذه الصواريخ بأجهزة التوجيه لمصر على أن تدفع ليبيا التكاليف. وحينما عدت من فرنسا ذهبت إلى مصر، وعقدت اجتماعًا لمؤسسة الصناعات الحربية، حضره أحمد إسماعيل وزير الدفاع، ووزير الإنتاج الحربي، وأشرف مروان، وعدد من الخبراء والمهندسين. فأبلغتهم بموافقة فرنسا، فصعقت حينما قال وزير الإنتاج الحربي: “دي يا فندم مواسير”، فغضبت غضبًا شديدًا، وقلت لأحمد إسماعيل: “هل لديك قضية؟ هل أخذت مسألة الحرب على محمل الجد؟ أنت لا تملك قضية ولا تشعر بوزر المسؤولية”؛ فانزعج أحمد إسماعيل وقال: “أنا عندي 1800 ماسورة لا يمكن أن ألمّ بها جميعًا”، فقلت له: “1800 ماسورة تعني من الهاون 60 ملم حتى المدفعية الثقيلة. هذه صواريخ استراتيجية حتى في الجيش الأميركي هي تحت سيطرة القيادة”. فردّ عليّ: “أنا شاركت في ثلاث حروب، وأنت ملازم. كيف تعلمني العسكرية؟”. فعدت للردّ عليه، وقلت: “لهذا نحن خسرنا هذه الحروب بوجود جنرالات مهزومين مثلك”. وأضفت: “حينما كان عبد الناصر في ليبيا، قام الصهاينة بتفكيك الرادارات من البحر الأحمر، وكنت أنت مسؤول هذه المنطقة وعبد الناصر اتصل بالهاتف وطلب إعدامك”. ثم قلت: “أنت لا تساوي حذائي هذا”. ما إن سمع كلامي حتى سقط من على كرسيه مغمى عليه لأنه كان يعاني مرض الضغط والقلب؛ فأحضروا له أقراص الدواء وانفض الاجتماع. قال لي أشرف مروان: “هيّا نذهب لمقابلة السادات في القناطر الخيرية، لأن عقلية السادات غريبة، من يصل إليه أولًا يؤثر فيه. يجب أن تسبق أحمد إسماعيل”. وبالفعل، ذهبنا بأقصى سرعة ووجدنا السادات يتناول طعام الغداء، وهو الأرز باللبن الزبادي، فقال لي: “يا عبد السلام، تعال كل معايا هذا كويس للرُّكب وأنت تحتاج له”. قال ذلك وهو يضحك، فأخبرته بما جرى، وطلبت منه أن يُقيل أحمد إسماعيل من وزارة الحربية. في هذه الأثناء وصل أحمد إسماعيل، وكان يبكي وقال للسادات: “يرضيك يا ريس الرائد عبد السلام يقول لي أنت لا تساوي جزمتي؟”.

فقال لي السادات: “يا لهوتي، ماذا عملت، المصري يمكن أن تضربه أهون عليه من أن تقول له أنت لا تساوي جزمتي”. حاول السادات تهدئتي، وقال لي: “يا عبد السلام، أنا أتجه نحو الحرب. الوقت ليس ملائمًا لإقالته؛ فهذا سوف يؤثر في كل شيء، سيؤثر في معنويات القوات المسلحة، لكنني أعدك أنني سوف أقيله بعد الحرب”، فقلت للسادات: “إذا لم تقله الآن لن أدخل مصر بعد اليوم”. فقال لي محاولًا دغدغة عواطفي: “أنا أرشحك منذ الآن لتكون رئيس وزراء دولة الوحدة بين مصر وليبيا”، ثم التفت إلى أشرف مروان وطلب منه أن يُعدّ رسالة بهذا المعنى ووقعها أمامي ثم أرسلها إلى القيادة الليبية.

حرب “أكتوبر الكارثية”

في عام 1972، طلب منّا السادات أن تبرم ليبيا صفقة صواريخ متحركة “كروتال” مع فرنسا، لترافق القوات في أثناء تقدمها في سيناء؛ ذلك أن الاتحاد السوفياتي لم يكن يملك صواريخ مماثلة لها، فذهبت إلى فرنسا وأبرمت الصفقة. قامت ليبيا بدورٍ رائد في دعم الجبهة المصرية، فزوّدناها بطائرات “ميراج”، كما اشترينا من أوروبا الجسور التي عبرت عليها القوات المصرية “قناة السويس”، واشترينا أيضًا القوارب التي استخدمتها القوات المصرية للعبور، فضلًا عن أجهزة الرؤية الليلية (بالليزر والأشعة الحمراء وفوق البنفسجية)، كما شاركنا بلواء لمدفعية متحركة بقيادة المقدم خليفة حفتر، وهي أول من عبر القناة. ولأن مصر لم تكن تمتلك “مدفعية ذاتية الحركة”، وهذه مدفعية حديثة عيار 155 مليمترًا، فقد اشتريناها من إيطاليا وساهمنا بها في الحرب.

وقبيل حرب 6 تشرين الأول/ أكتوبر 1973، بأيام (25 أيلول/ سبتمبر 1973)، كنت في مصر أقيم في فندق “الشيراتون”. جاءني أشرف مروان وقال لي: “السادات عاوزك بسرعة”، فذهبت إلى منزل السادات بالقرب من الفندق، وجدته في الشرفة يرتدي الجلباب المصري التقليدي والغليون في فمه، وكان يضع ساقيه فوق الطاولة. إنه الخديوي في تصرفاته وعقليته. قال لي:
“يا عبد السلام، أنتم مش ح تصدّقوني، وأنا مش ح أقول لك عن موعد الحرب؛ إنما لن يزيد عن أصابع اليدين، وأنا بعد الحرب ح أنصفكم أمام الأمة العربية على الدور والجهد الذي قمتم به من أجل المعركة”، ثم أضاف: “أنا عاوز منكم 4 أشياء: أولًا، أن تزودوني بسرب ميراج آخر؛ ثانيًا، أن تزودوني بالنفط والغاز طوال أيام الحرب؛ ثالثًا، أن تشكل ليبيا قاعدة خلفية لي، وأن أنقل كل السفن وطائرات النقل إلى ليبيا؛ وأخيرًا، أن تزودوني برعيل صواريخ ‘الكروتال’، لأنني أريد أن أضعه في الإسماعيلية”. فقلت له: “أنا موافق على الطلبات الثلاثة الأولى، أما الطلب الأخير بخصوص ‘الكروتال’، فهو ثلاث عربات قتال وعربة قيادة، ومعنى هذا أن فرنسا ستلغي الصفقة، أي ستلغي 200 قطعة ̓كروتال̒. وسوف نخسر الصفقة، وأنتم قلتم إنكم تريدون ‘الكروتال’ كدفاع جوي متحرك عند التقدم في سيناء”. كان السادات يعرف أنه يقوم بـ “حرب تحريك” بالاتفاق مع هنري كيسنجر، ويعرف أنه لن يكون هناك تقدم في سيناء. لمّا عدت إلى ليبيا، أبلغت الأخ معمّر بالأمر، فقال لي: “هذا صحيح. ولكن حينما يهزم سيقول إن سبب الهزيمة أننا لم نزوده بهذه العربات”.

اتفقنا على أن نرسل إليه رسالة نقول فيها: “إن هذا الأمر سيقود فرنسا إلى إلغاء الصفقة، وإن ثلاث عربات ‘الكروتال’ وعربة القيادة لن تغير شيئًا من نتيجة المعركة”. بعد ذلك، اتصل الأخ معمّر بالرئيس بومدين هاتفيًا وقال له: “السادات قرّر الحرب الكارثية، وطلب منّا أن نبلغك بقرار الحرب”. في الواقع، إنّ السادات لم يطلب منّا الاتصال بالرئيس بومدين، ولكن بومدين كان يقول دومًا: “لا يمكن للجزائر أن تشترك في حرب لا علم لها بها، ولم تستشر بشأنها”. ولذا، ارتأينا أن نُعلم بومدين بقرار السادات؛ حتى لا يتخذ موقفًا سلبيًا من الحرب، ولأننا حرصنا على أن يقوم بومدين بتنفيذ “اتفاق حاسي مسعود”. كنّا نعرف مسبقًا نتيجة الحرب. وبالفعل؛ فبعد مضي أقل من عشرة أيام من اجتماعي بالسادات، سمعنا عبر الأخبار ببداية الحرب. قرّرنا أن يوجد باستمرار أحد أعضاء مجلس قيادة الثورة في مصر، ليتابع عن قرب مجريات الحرب، فذهب أولًا بشير هواري، ثم ذهب عمر المحيشي. وفي أواخر أيام الحرب، سمعنا من إذاعة القاهرة بيانًا للقوات المسلحة المصرية يقول: “إن قواتنا تخوض قتالًا ضاريًا غرب القناة”، فعرفنا على الفور أن الكارثة قد حلت، وأن القوات الصهيونية عبرت القناة.

سافرت إلى القاهرة على عجل بواسطة طائرة عسكرية “لوكهيد سي 130″، وهي طائرة يمكنها أن تهبط في أيّ ممرٍّ ممهّد حينما تكون المطارات مغلقة. لمّا وصلت إلى القاهرة، أقمت في قصر الطاهرة، فوجدت السادات وقد أغلق الغرفة على نفسه ومنع أي اتصالٍ به؛ ولذا لم أتمكن من لقائه رغم كل المحاولات. اتصلت بأشرف مروان وكان سكرتير مكتب المعلومات، فسألني إن كنت أرغب في اللقاء بحسين الشافعي، أو عبد القادر حاتم. كان حاتم نائبًا لرئيس الوزراء – أي نائبًا للسادات الذي شغل هذا المنصب – بعد الإفطار، وكان هذا شهر رمضان، ذهبت للقاء حاتم في مبنى التلفزيون، فقلت له: “ماذا يجري يا حاتم؟”، فقال لي: “والله ما ني عارف حاجة، بيقولِّي إنه شوية دبابات عملت – برجزة- وقضينا عليها والله أعلم”. لم أصدّق الأمر وضحكت، ولمّا عدت إلى قصر الطاهرة، وبعد السحور، دخل عليّ محمد حسني مبارك وهو يلهث وبدا عليه التعب والإرهاق، وبصحبته أشرف مروان فقلت له: “ماذا يجري في الجبهة؟”، فقال لي: “9 دبابات عملت شوية برجزة واديناهم علقة وقضينا عليها”، وبالطبع لم أصدق ذلك أيضًا. في الصباح، وحوالى الساعة العاشرة أو الحادية عشرة، اتصلت بأشرف مروان وقلت له: “أريد أن أذهب إلى غرفة العمليات”، فقال لي: “توجد سيارة لوري روسية ستأتي لإحضار خرائط عن الموقف، والسادات لا يعيرها أي اهتمام ولا يطلع عليها، إذا كنت ترغب في الذهاب إلى غرفة العمليات يمكن لك أن تستقل هذه اللوري”، فقلت: “نعم دع السائق يأتي عندي أريد أن أذهب بأيّ طريقة”. وبالفعل، ذهبت إلى هناك.

صعدت في الصندوق الخلفي للسيارة الروسية، وحينما وصلنا إلى البوابة الرئيسة، أوقف الحرس سيارة اللوري، فصاح الجنود الذين كانوا داخل السيارة: “الرائد عبد السلام جلود، الرائد عبد السلام جلود، افتحوا الباب”، فذهل الحرس، وبصعوبة كانوا يصدقون أن الرائد جلود يركب سيارة لوري مع الجنود وفي الصندوق الخلفي. فتحوا لنا الباب. ولمّا وصلت إلى غرفة العمليات، استقبلني أحمد إسماعيل بالأحضان: “أنت ابن حلال”، وكان يشير إلى أنني لم أقابله منذ الصدام بيننا بسبب صواريخ الأنابيب. لقد نسيت في تلك اللحظات كل ما حدث بيني وبين إسماعيل. ثم أطلعني على الموقف الخطير هو والفريق سعد الدين الشاذلي وبقية قادة الأركان. كان الموقف كالآتي: “9 ألوية دبابات ولواءان من المظليين ولواء صاعقة من الصهاينة عبرت القناة، وحاصرت الجيش الثالث المصري وقطعت عليه خطوط الإمداد. كان المصريون خائفين من اندفاع هذه القوات شمالًا، بحيث تتمكن من محاصرة الجيش الثاني. لقد دمّرت القوات الخاصة الصهيونية منصات صواريخ ‘سام'”. كان هناك خلاف شديد بين أحمد إسماعيل والفريق الشاذلي؛ فالشاذلي كان ضد توقف القوات المصرية عند ضفة القناة، وكان يرغب في الوصول إلى المضائق. ولما عبرت القوات الصهيونية القناة، كان الشاذلي يريد من الجيش الثالث المصري أن يهاجم القوات الصهيونية التي عبرت القناة، لكن أحمد إسماعيل رفض هذا الرأي. سألت عن قوة الجيش الثالث والجيش الثاني فقالوا لي: “120 ألف جندي”، وسألت عن قوات الاحتياط فقالوا لي: “يوجد في الخلف فرقتا دبابات”.

توقفت القوات المصرية عند ضفة القناة، بحسب اتفاق السادات مع كيسنجر، وكان يريد من ذلك إعطاء نصر معنوي للجيش المصري. وهكذا ركز الصهاينة هجومهم على سورية؛ فكان حافظ الأسد يصرخ ويطالب السادات باستئناف الهجوم لتخفيف الضغط على الجبهة السورية. لقد كانت سورية تريد أن تكون حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973 كحرب تحرير؛ بينما أرادها السادات حرب تحريك. قالوا لي: “تحت إلحاح حافظ الأسد، أمر السادات بأن تقوم إحدى فرقتَي الدبابات بتطوير الهجوم”. وأعتقد أن السادات أقدم على ذلك بعد أن تأكد أن قدرات سورية قد دُمرت، وأنه يريد تدمير بقية القوة المصرية حتى يقول للجيش المصري وللشعب المصري: “ليس أمامي أي خيار. هذا ما كتبه الله عليّ”. ولأن العدو فاجأ العرب بأن فرقة الدبابات “باتت مؤلفة من أربعة ألوية” خلافًا للوضع في حرب حزيران/يونيو 1967، بينما ظلت الفرقة المصرية مؤلفة من ثلاثة ألوية؛ لذا حينما هاجمت الفرقة المصرية، فوجئت بأن الفرقة الصهيونية مؤلفة من 4 ألوية، فدمرت الفرقة المصرية. طلبت القيادة العسكرية المصرية ضم بقية الفرقة إلى جناحَي الجيشين الثاني والثالث. وفي هذا الوقت، عبر أريئيل شارون قناة السويس على رأس كتيبة دبابات، واستغل ما يُعرف بـ “ثغرة الدفرسوار”، وكان من المفروض أن يصل شارون على رأس الكتيبة إلى الضفة الغربية خلال 8 ساعات، لكنه وصل إليها بعد 18 ساعة بسبب الرياح العاتية. بيد أن هذا لم يغيّر شيئًا لأن القيادة العسكرية المصرية فقدت المبادأة.

وحين تمكّن أول لواء صهيوني من عبور القناة والتمركز غربها، شنّت الفرقة المصرية الثانية دبابات هجومًا على القوات التي نجحت في العبور، لكنها دمرت، فقلت لهم: “كنتم تقولون لنا إن عدد الجيش المصري مليون ونصف مليون جندي، أين بقية الجيش؟”، فقالوا لي: “توجد فرقة مشاة – في هاكستِب – من دون آليات، وكذلك الحرس الجمهوري”، فقلت بغضب: “طبعًا إذا كان لكل ضابط 7 أو 8 جنود لخدمته، فإن معظم الجيش يصبح إداريين”.

بعد عودتي إلى قصر الطاهرة، اتصلت بالأخ معمّر، وقلت له: “ما توقعناه حصل، والموقف أخطر من خطير”. فأسرعت في اليوم نفسه عائدًا إلى ليبيا، ومن المطار ذهبت إلى بيت عوض حمزة عضو مجلس قيادة الثورة، حيث كان الأخ معمّر وأعضاء القيادة في انتظاري. أبلغت الإخوة بالموقف، فاتصل الأخ معمّر بالرئيس بومدين وقال له: “ما توقعناه حصل. القوات الصهيونية عبرت القناة، وهي تحاصر القوات المصرية وتهدد القاهرة، علينا أن ننفذ ميثاق حاسي مسعود ونعلن المقاومة ورفض الاستسلام”. ثم طلبنا منه أن يرسل قوات جزائرية على وجه السرعة. ثم اتصل الأخ معمّر بالرئيس اليوغسلافي جوزيف تيتو وأعلمه بالموقف، وطلبنا منه أن يبيعوا لنا أي كمية من احتياطي دبابات الجيش اليوغسلافي أو من مخزونه، واستطعنا بسرعة فائقة تجهيز ألف دبابة. ثم قررت أنا والأخ معمّر أن نذهب إلى مصر لقيادة المقاومة، وأعددنا لهذا الغرض شيفرة خاصة للاتصال بليبيا. أرسلنا إلى مصر على عجل نحو 40 ألف صاروخ حديث مضاد للدبابات، وقرّرنا تعبئة قواتنا على أمل أن يخلق ذلك موقفًا عربيًا. وبالفعل سافرت أنا والأخ معمّر إلى مصر، وتوجهنا من مطار القاهرة إلى قصر العروبة واجتمعنا بالسادات. كنّا نجلس في الشرفة، وكان السادات يراقب الجسر الجوي الروسي الذي يحمل الأسلحة، يهبط ويطير من مطار القاهرة، فقال السادات: “يا معمّر، يا عبد السلام بكم تريدون أن تساهموا في تعمير مدن القناة؟”، فنظرنا بذهول إليه وقلنا له: “القوات الصهيونية غرب القناة وهي تحاصر القوات المصرية وتهدد القاهرة؟”، فقال: “لا، هذا لا يهم. قولوا لي بكم تريدون أن تساهموا؟”، ثم قال: “روح يا معمّر ويا عبد السلام قولوا عني ما تقولون، أنني انهزامي، استسلامي. توبة. بطلت أحارب اليهود. دول اليهود ما يتحاربوش”. ثم اتصل بمحمد الزيات وزير الخارجية – في الأمم المتحدة – وقال له: “جاتك نيلة، أنت مستقيل، ليه ما رحت لكورت فالدهايم يرسل لي شوية جنود من قبرص يجو يحوشوا عني اليهود؟”. ثم أغلق الهاتف في وجهه. في هذه اللحظات ترسخت قناعتنا أن الحرب هي بالفعل حرب تحريك متفق عليها بين السادات والصهاينة والأميركيين؛ ولذا عدنا إلى طرابلس. لا شك في أن عبور المقاتل العربي المصري أكبر مانع مائي، ولخط بارليف، يدلان على شجاعته، وهذا ما ليس في حاجة إلى إثبات، فالشعب المصري شعب حضاري شجاع، وهو شعب مقاوم على امتداد التاريخ، يقاوم المحتل ويقاوم الطغاة، كما هي الحال مع أحداث مثل حريق القاهرة، في 26 كانون الثاني/يناير 1952، أو العمليات الفدائية ضد الإنكليز، والتاريخ المصري والعربي – الإسلامي حافل ببطولات هذا الشعب العظيم.

أصدر الأخ معمّر أمرًا للمقدّم خليفة حفتر بأن لا يلتزم بقرار وقف إطلاق النار، فاتصل السادات بنا وقال بانزعاج: “إيه ده قواتكم غير منضبطة، وخليفة حفتر سياسي، وبيوديني في داهية. أرجوكم اسحبوهم فورًا”. لقد تراجعت الحقيقة لصالح التزييف. كانت حرب تشرين الأول/ أكتوبر بكل المقاييس هزيمة عسكرية وسياسية أخطر من نكسة 1967، ومع تقديرنا الكبير للعبور العظيم والتاريخي للجندي المصري، فإن الحرب كانت هزيمة. كانت النتيجة النهائية للمعركة هي عبور القوات الصهيونية لقناة السويس وحصار القوات المصرية وقطع خطوط إمدادها وتهديد القاهرة وتدمير شبكة الصواريخ على الضفة الغربية من القناة، وتحقيق السيطرة الجوية، ثم فرض الاستسلام والاعتراف به، وتحقيق ما لم يحلم به بنو صهيون، أي اعتراف مصر بالكيان الصهيوني. كانت حرب تشرين الأول/ أكتوبر كارثة أو هزيمة سياسية وعسكرية كبرى. لقد قضى السادات على القوة العسكرية التي بناها عبد الناصر. باع السادات تضحيات وبطولات الشعب المصري والجيش المصري. وللأسف، لعب إعلامه ومثقفوه دورًا كبيرًا في تزييف الحقيقة وفي فرض الاستسلام، كما فعل ذلك كثير من المثقفين العرب الذين بشّروا بالهزيمة. لقد زيف هؤلاء، ومعهم القوى الرجعية وقوى الاستسلام، الحقيقة الساطعة. وفي خضمّ هذا التزييف، باع السادات، مدعومًا بالآلة الإعلامية وبالمثقفين المستسلمين، دماء أجيال وأجيال من المصريين والعرب.

لمّا قرّرنا قطع علاقاتنا بالنظام المصري، أبقينا على صلاتنا وروابطنا وعلاقاتنا بشعبنا المصري العظيم. وحين زار السادات الأرض المحتلة في 19 تشرين الثاني/نوفمبر 1977، قُدنا تظاهرة كبرى في طرابلس، وقُمنا بإحراق علم “اتحاد الجمهوريات العربية”، وقرّرنا أن يكون العلم من لون واحد هو اللون الأخضر، حتى لا نكرّس علمًا بألوان أخرى قد تشكل عقبة في طريق الوحدة. ونتيجة لموقفنا الصلب من هذا الخرق الخطير، قرّر السادات الانسحاب من اتحاد الجمهوريات العربية، بقرار منفرد وغير دستوري، وبدورنا اتخذنا قرارًا بتشكيل “محكمة الشعب العربي” لمحاكمة الخائن السادات. ثم أصدر مؤتمر الشعب العربي قرارًا بتشكيلها، وعقدت أولى جلساتها في طرابلس، وأصدرت حكمًا بإعدام السادات، باعتبار أن الدساتير العربية، وعلى رأسها الدستور المصري، تمنع الاتصال بالعدو الصهيوني. بيد أن الشعب المصري كان قد أصدر قراره بإعدام الخائن السادات، ونفّذ القرار أحد أبطاله وهو خالد الإسلامبولي. كنت أنا والأخ معمّر في مدينة سبها، وكنّا نشارك في احتفال قيام “سلطة الشعب”، سمعنا بنبأ اغتيال السادات من الإذاعة، فأطلق الأخ معمّر بعض الطلقات من مسدسه في الهواء ابتهاجًا. ثم قدنا تظاهرة جماهيرية تعبيرًا عن سعادتنا وفرحنا. بعد التظاهرة، عدنا إلى مقر إقامتنا سألني الأخ معمّر: “ما رأيك في حسني مبارك؟”، فقلت له: “على مستوى القضية القومية سيكون مبارك أسوأ من السادات. السادات كان لديه رصيد من السمعة السياسية وهو محسوب على ثورة 23 يوليو، ومن الممكن أن يتراجع عن الخيانة أو يغيّر مواقفه 180 درجة، أما مبارك فلا يمكن له إلا أن يستمر على طريق السادات، أي طريق الخيانة”.

لكن هناك إيجابية واحدة، فحين سقط نظام الشاه، كانت مصر مؤهلة لأن تؤدي دور “الشرطي” في المنطقة العربية والأفريقية، بدلًا من شاه إيران، أما حسني مبارك، فهو بكل تأكيد لا يستطيع أن يؤدي هذا الدور، وهذا أمر إيجابي بالنسبة إلى ليبيا. وبالفعل؛ خلال عهد الرئيس الأميركي رونالد ريغن، طلبت الولايات المتحدة من مصر شن هجوم على ليبيا من الشرق، أو أن تسمح لقوات أميركية بالهجوم عليها، لكن مبارك رفض، وهذا أثبت صحّة تحليلي. وأذكر أننا – أنا والأخ معمّر – كنّا في زيارة لمصر، خلال مرحلة “حرب الاستنزاف” والإعداد للعبور في عهد عبد الناصر، وأن عبد الناصر دعانا لمشاهدة تمرين عبور فرقة مجحفلة من الجيش المصري لمانع مائي، وكان تنفيذ التمرين سيئًا؛ إذ فقد قائد الفرقة السيطرة على قواته. وحينما كان عبد الناصر يناقش قائد الفرقة، قال له: “الخبير الروسي قال كده؟”. شعر عبد الناصر بالإحراج والتفت إلينا قائلًا: “يا معمّر، يا عبد السلام، أنا مش ححارب بدول [بهؤلاء]، الذين سأحارب بهم ما زالوا من الضباط الصغار”.

اشتباك عسكري مع مصر على الحدود

قبل أن يقوم السادات بزيارته الشهيرة إلى فلسطين المحتلة في تشرين الثاني/نوفمبر 1977، افتعل مواجهة عسكرية مع ليبيا على الحدود في حزيران/يونيو، وكان السبب في ذلك، في رأينا، إدراكه أنه سوف يواجه موقفًا صلبًا من ثورة الفاتح، وأن ليبيا سوف تعتبر خطوته هذه خيانة صريحة للأمة. وهكذا، ومن دون سابق إنذار بدأت قوات مصرية عند الحدود مع ليبيا بمداهمة مقارّ الشرطة الليبية وإلقاء القبض على بعض الأفراد، ونقلهم إلى داخل الحدود المصرية. وردًّا على هذا الاعتداء السافر وغير المبرر، قام العقيد عبد الكبير الشريف، آمر منطقة طبرق العسكرية، بعملية عسكرية خاطفة اجتاز خلالها الحدود المصرية، وتمكّن من إلقاء القبض على بعض الأفراد من الشرطة المصرية، ثم طلب من آمر كتيبة مدفعية 155 – ذاتية الحركة – وصواريخ “غراد” استهداف المواقع المصرية. في هذا الوقت تحركت قوة عسكرية مصرية في اتجاه قرية إمساعد، فاستهدفتها مدفعيتنا. وهاجمت كتيبة الدبابات هذه القوة، وقد تكبدت كتيبتنا بعض الخسائر.

وفي النهاية، انسحب المصريون وتراجعوا إلى داخل الحدود. في الواقع، كنت أشرف بنفسي على هذه المواجهة المقززة والمؤلمة والغريبة وقد وجدتني أمام معادلة صعبة: عدم تمكين السادات من تحقيق أي “انتصار” وهمي، أو شكلي، وفي الآن ذاته محاصرة “المؤامرة” ووأدها في مهدها على الحدود. وهكذا أيضًا قام سلاح الطيران المصري بمهاجمة مهبط الطائرات في قاعدة جمال عبد الناصر، كما قصف غرف نوم الطيارين الليبيين. ولحسن الحظ لم تقع خسائر بشرية لأننا قمنا بتغيير أماكن نومهم. وفي إثر ذلك، أخبرني بعض الضباط الليبيين أن الطيارين المصريين كانوا يقومون بالتحليق فوق قواتنا المنتشرة من طبرق إلى الحدود مع مصر، ولكنهم كانوا يلقون بحمولاتهم من القنابل والصواريخ بعيدًا عن قواتنا. هذا هو معدن الشعب المصري والجندي والضابط المصري.

في إحدى ليالي هذا الاشتباك الحدودي، انقطع الاتصال مع قواتنا في الجغبوب، فقال لي الأخ معمّر: “السادات احتل الجغبوب”، فقلت له: “لا، من المؤكد أن هناك قوة عسكرية محدودة العدد محمولة بطائرات عمودية، جرى إنزالها بالقرب من قواتنا”. وأضفت: “إن القوة المتمركزة في الجغبوب كافية للدفاع عنها، وأعتقد أن سبب انقطاع الإرسال أن الجندي المكلف باللاسلكي، ولشدّة حماسته، ترك الجهاز وذهب ليشارك في مقاومة القوة المصرية المهاجمة”. وبالفعل، وفي الصباح عاد الاتصال اللاسلكي مع الجغبوب، وأبلغنا آمر المنطقة أن ثلاث طائرات مروحية أنزلت قوة محدودة وتبادلنا معها إطلاق النار، ثم انسحبت. في هذا الوقت قام الأخ ياسر عرفات بدور وساطة بيننا وبين المصريين لوقف إطلاق النار وإنهاء المواجهة العسكرية على الحدود. بعد انتهاء المواجهة، ولأن الأخ معمّر وأعضاء القيادة اعتقدوا أنني أدرت المواجهة على نحوٍ جيد، فقد تقرر منحي شهادة الأركان.

تأسيس “جبهة الصمود والتصدي”

في 19 تشرين الثاني/نوفمبر 1977، بعد أن أعلنت وكالات الأنباء إقلاع طائرة الخائن أنور السادات إلى فلسطين المحتلة، شاهدت على شاشة التلفزيون السادات يهبط من الطائرة ويصافح الصهاينة. على الفور، اتصلت بالأخ معمّر، وكان في سرت. قلت له: “لا بد من إقامة تكتّل من الدول العربية التقدمية لمنع انهيار الموقف العربي”، ثم أضفت: “سوف أذهب إلى سورية والعراق والجزائر”. فقال لي: “السادات لم يقرر الذهاب إلى الصهاينة لو لم يكن متأكدًا أنه لا يمكن أن تجتمع دولتان ضده”. ومع ذلك أصررت على السفر، وقلت: “نحن لا نيأس ولا نستسلم للأمر الواقع، سوف أحاول”، فقال لي مثلًا شعبيًّا: “اذهب رشادة في بئر (أي أن محاولتك هذه مثل التفتيش عن حجر في بئر)”.

أقلعتْ طائرتي في اليوم نفسه إلى دمشق. حصلت على موافقة السوريين والفلسطينيين على مشروع “التكتل العربي”، ثم سافرت إلى العراق. لكن العراقيين اشترطوا لإقامة “جبهة رفض” أن تعلن سورية رفضها للقرار رقم242 . بعد إلحاح شديد مني، وافق العراقيون على حضور اجتماع بهذا الخصوص، ولكن ليس على مستوى الرئيس. أرسلوا وفدًا من عضوين بارزين في مجلس قيادة الثورة. من العراق سافرت إلى الجزائر واجتمعت بالرئيس بومدين. وافق بومدين على “تشكيل جبهة رفض” وقال لي: “حينما كنت أستمع إلى وكالات الأنباء وهي تبث خبر سفر طائرة السادات إلى فلسطين المحتلة، كنت أقول في نفسي: السادات سيعود من الجو. وأنه لن يكمل الرحلة. ولمّا شاهدت طائرته تهبط في مطار بن غوريون، فقدتُ صوابي وتصرفت كمواطن عادي وكسرت التلفزيون”. وبالفعل، نتيجة لهذه المبادرة، اجتمعت ليبيا وسورية والجزائر والعراق واليمن الجنوبي ومنظمة التحرير الفلسطينية في طرابلس في الفترة 2-5 كانون الأول/ديسمبر 1977، لكن العراق كان غير جادٍّ في تأسيس جبهة صمود، وظل يشترط أن تعلن سورية رفض القرار الأممي رقم 242، وكان ردّ الرئيس الأسد أنه مستعد لرفض القرار، حينما تؤمّن أسباب المواجهة من دعمٍ عسكري واقتصادي؛ ولذلك انسحب العراق. ومع ذلك تشكلت جبهة “الصمود والتصدي”. شكر الأخ معمّر الرئيس الأسد وياسر عرفات، فنهضت وطلبت الكلمة وقلت: “لا يا أخ معمّر، السادات مثل الطائر الذي طار بجناحين، سورية ومنظمة التحرير”. لقد استطاع السادات أن يصوّر خلافنا معه على أنه خلاف ثنائي بين ليبيا ومصر. بعدما خرجنا من الاجتماع، جاءني عبد الحليم خدّام وقال: “نحن حينما يكون الرئيس موجودًا لا نستطيع التحدث، لولا ذلك لرددت عليك”، فقلت له مازحًا: “هذا أحسن لكم أن لا تتكلموا في وجود الرئيس”.

المؤتمر الإسلامي والقمة العربية و”عودة مصر”

في الفترة 16-19 كانون الثاني/ يناير 1984، عُقد في الدار البيضاء المغربية مؤتمر القمة الإسلامية الرابع. تمّ الترتيب لعقد المؤتمر بحيث يسبق عقد مؤتمر القمة العربية في الأردن. كان الموضوع الرئيس هو “عودة مصر” إلى المؤتمر الإسلامي. في هذا المؤتمر مثلت أنا ليبيا. كان المؤتمر مسرحية مُعدّة مُسبقًا. وكان من الواضح لي خلال جلسات المؤتمر أن الأمير فهد بن عبد العزيز والملك الحسن الثاني كانا يلقنان كلًّا من الرئيس الغيني أحمد سيكاتوري والرئيس الباكستاني محمد ضياء الحق، قبيل كل جلسة، بحيث يظهران مسألة عودة مصر كأنها مطلب إسلامي. الحقيقة أن عودة مصر كانت مطلبًا أميركيًّا وعربيًّا رجعيًّا. كان الجميع في طرف، وأنا في طرف آخر. كنت أقاتل ضد “عودة مصر” إلى منظمة المؤتمر الإسلامي، لأنني كنت أعرف جيدًا أنها كانت مقدمة لعودتها إلى جامعة الدول العربية، أو الأصح: عودة العرب إلى مصر المكبّلة بأغلال كامب ديفيد. قال لي الملك الحسن الثاني، رئيس المؤتمر: “سي جلود. لقد أعطيتك الكلمة 17 مرة”، فرددت عليه: “لأنني طرف وأنتم طرف”. كان الفصل الأخير في المسرحية قد أعطي لياسر عرفات خلال المراحل الأخيرة من النقاش. طلب عرفات الكلمة، وقال مخاطبًا الملك الحسن الثاني: “يا جلالة الملك. لا يوجد قرار بطرد مصر من المؤتمر”.

وممّا يدل على أن المسرحية كانت مُعدّة سلفًا، قول الملك: “أحضروا لنا قرارات الطائف”، فأسرع الحبيب الشطيلجلب المحاضر والقرارات؛ وبما أنني كنت الوحيد الذي يتصدى ويقاتل لمنع عودة مصر، فقد طلبت الكلمة وقلت: “آسف. إن الفصل الأخير من المسرحية قد أعطي لعرفات. أرجوكم احترموا عقولنا، لأننا جئنا على رأس ثورات ونمثل شعوبنا. نحن لم نصل إلى السلطة بالوراثة؛ وإنما نحن ثوريون. ليس المهم ما كُتب، بل المهم هو الإرادة السياسية لمؤتمر الطائف. لا أعتقد أن السادات هو الذي قرر عدم الحضور، ثم إنّ مؤتمر وزراء الخارجية هو امتداد لمؤتمر القمة”.

كان كثيرون من المسؤولين ووزراء الخارجية يأتون إليّ، يحيّون موقفي متجرّدين من مناصبهم. كانوا يتصرفون بصفتهم مواطنين يعيشون لحظة صحوة ضمير واضحة وجلية. وفي اليوم الثاني من المؤتمر، وبعد الجلسة الصباحية، وبينما كان الحسن الثاني يودع الملوك والرؤساء، تحدّثت مع الرئيس اليمني علي عبد الله صالح، وكان في تلك الفترة متحالفًا مع الإخوان المسلمين، وكان وزير خارجيته عبد الكريم الإرياني، وكان واقفًا إلى جانبه، فقلت له: “يا أخ علي، الموضوع المطروح خطير جدًّا، وإنْ عادت مصر إلى المؤتمر الإسلامي، فسيكون هذا مقدمة لعودتها إلى جامعة الدول العربية، واليمن ليس البحرين أو أبوظبي، لا بد من أن يكون لليمن موقف في هذا الموضوع الخطير”، فالتفت إليّ وزير خارجيته، وقال لي: “لا داعيَ لكلامنا. يكفي أن عملاء أميركا ووكلاء الاتحاد السوفياتي يتحدّثون”. فغضبت من هذا المنطق، وكان رد فعلي شديدًا، فأمسكته من ربطة عنقه وقلت له: “يا قرد. أنت عبد العبيد. أنت عميل للسعودية التي هي عميل لأميركا”، فقال وزير خارجيته: “كيف تخاطب الرئيس بهذا الأسلوب”، فقلت له: “اسكت”. كان من المفروض أن يزور الرئيس علي عبد الله صالح ليبيا بعد المؤتمر، فاتصل بالأخ معمّر يشكوه ويعتذر عن القيام بالزيارة. وبعد انتهاء جلسة المساء، وبعد عودتي إلى مقر الإقامة، اتصل بي هاتفيًّا من طرابلس الأخ الدكتور مفتاح الأسطى عمر، وكان يشغل منصب أمين الاتصال بالقيادة، وقال لي: “القائد يريد أن يتكلم معك”، وحين اتصل الأخ معمّر قال لي: “شن عملت مع العقيد علي عبد الله صالح (أي ماذا فعلت؟). لقد اتصل بي وهو منزعج ويشكوك”، فرويت له ما جرى بيننا، فقال لي: “هو قال هيكي (أي هو قال هذا؟) يلعن أبوه يستأهل”.

انتهى هذا المشهد باقتراح من الحسن الثاني والملك حسين بن طلال بأن يتمّ تعديل لائحة المؤتمر التي تنصّ على أن “التصويت على القرارات علني وبرفع الأيدي”، ليصبح “التصويت في هذه الحالة فقط بطريقة سرية”. فطلبت الكلمة وقلت: “يا جبناء مَنْ هو مقتنع بعودة مصر عليه أن يرفع يده 4 أمتار فوق الطاولة. لماذا يا جبناء ترفعون أيديكم تحت الطاولة؟”. وقد كان إصراري على عدم عودة مصر إلى منظمة المؤتمر الإسلامي لأن أسباب طردها بقيت موجودة. بعد الانتهاء من التصويت قررت الانسحاب من المؤتمر، وفي أثناء خروجي من القصر، توجهت إلى الصحافيين، وقد حاول الأمن المغربي منعي من الوصول إليهم، لكنني اندفعت في اتجاههم. كان هناك ما لا يقل عن 800 صحافي، سألوني عن المؤتمر فقلت: “الشعار إسلامي والمحتوى أميركي”. وتناقلت وكالات الأنباء هذا التصريح الغاضب الذي صوّر المؤتمر أدقَّ تصوير.

وهكذا تقررت عودة مصر إلى منظمة المؤتمر الإسلامي، ثم بعد أشهر عُقد مؤتمر القمة العربية في الأردن (8-12 تشرين الثاني/نوفمبر 1987). لقد صُمم المؤتمر لاتخاذ قرار بعودة مصر إلى جامعة الدول العربية. مثلتُ ليبيا في هذا المؤتمر. وبالفعل، كانت القضية الوحيدة المطروحة في جدول الأعمال هي عودة مصر. وجدتني وحيدًا في مواجهة الجميع ومعارضة عودة مصر، رغم أنني، بكل تأكيد، أكثر الحاضرين وعيًا وإيمانًا بدورها القومي، وإيمانًا كذلك بقيادتها للأمة العربية، بل وأشدّ الحاضرين في القاعة حبًّا لها من الناحية العاطفية، وأكثرهم التزامًا بدورها القومي. لكنّ المؤسف أنّ الرئيس العراقي صدام حسين كان هو المتزعم والمدافع عن عودة مصر، وكذلك الملك حسين والشيخ زايد آل نهيان؛ ولذا سعيت للتنسيق مع الرئيس حافظ الأسد. في البداية لمست منه تعاونًا، لكنه سرعان ما تراجع أمام الضغوط. وكان الموضوع الثاني المعروض على مؤتمر القمة هو الحرب العراقية – الإيرانية. عند مناقشة الموضوع، تحدث الملك حسين باعتباره رئيسًا للمؤتمر، ووجه كلامه إلي قائلًا: “إنني أستغرب وقوف ليبيا القومية إلى جانب إيران الفارسية ضد العراق؟”.​

وأضاف: “إن معاهدة الدفاع المشترك تُلزم جميع الدول العربية بالوقوف مع العراق”، فقلت للملك حسين ولجميع الحاضرين: “بحسب المفهوم الرجعي، فمعاهدة الدفاع المشترك لا تطبق ضد الصهاينة وأميركا، ولم تطبق ضد نظام الشاه رضا بهلوي حينما كنتم تقفون مع الشاه ضد العراق، ولكن هذه المعاهدة تطبق فقط ضد الإمام الخميني الذي حوّل سفارة الصهاينة إلى سفارة فلسطين في طهران، وقطع النفط عن الصهاينة، والتزم تحرير فلسطين ومقاومة الهيمنة الأميركية”. ثم قلت: “يا جلالة الملك إنكم لم تطبقوا المعاهدة عندما اعتدت علينا أميركا، بل لم توافقوا على عقد مؤتمر قمة”، فقال الملك حسين: “أنتم دخلتم في مواجهة مع أميركا ولم تستشيرونا فكيف نقف معكم؟”، فضحكت وقلت له: “بهذا المنطق الرئيس صدام حسين حينما هاجم إيران لم يستشرنا؟ لكن أنت تعرف أكثر من غيرك أنه حينما يتعلق الأمر بالصهاينة وأميركا، فأنتم لا تطالبون بتطبيق المعاهدة. تريدون تطبيقها فقط ضد الثورة الإسلامية في إيران”. كانت هناك مؤامرة ضد سورية في لبنان تستهدف سحب البساط من تحت أقدامها، وأن تتولى جامعة الدول العربية “ملف لبنان” بهدف ممارسة الضغوط على سورية، نتيجة وقوفها مع الثورة الإسلامية في إيران، وقد تصدينا لهذه المؤامرة وأفشلناها. لقد قاومت بشدة إحالة الملف إلى جامعة الدول العربية. ولما صوّت المؤتمر على قرار “عودة مصر” رفضته كتابيًّا. كان إلى جواري الرئيس اللبناني أمين الجميّل – وذلك بحسب الترتيب الأبجدي – ولما أردت أن أسجل رفضي للقرار، قال لي أمين الجميّل مازحًا: “أنا اشتغل سكرتير لك”، فأخذ ورقة وقلمًا وأمليت عليه النص التالي: “إنني أرفض هذا القرار لأنه غير شرعي لسببين، أولًا أن الأسباب التي دعت مؤتمر القمة لطرد مصر من الجامعة ما زالت قائمة، وثانيًا وبحسب ميثاق الجامعة، فإن القرارات تؤخذ بالإجماع، لكن لأن هذا طلب أميركي، فقد اتخذ هذا القرار وهو مخالف لميثاق الجامعة”، ثم وقعت على النص وسلمته إلى الملك حسين.

في عام 1989، عقد المؤتمر القومي الإسلامي اجتماعًا في طرابلس، وكان بين الحضور الدكتور حسن الترابي. عقد الاجتماع في مقر أمانة مؤتمر الشعب العام، وألقيت فيه كلمة حماسية، قلت فيها: “لقد جرّبت الأمة النموذج القومي الذي ارتبط بالقمع والدكتاتورية وحكم المخابرات والفساد. وفشل هذا النموذج في تحقيق النهوض الاقتصادي وتحقيق الاشتراكية والعدالة، كما فشل في تحقيق وحدة الأمة وأخفق في تحرير فلسطين”، ثم أضفت: “العروبة جسد والإسلام هو الروح، والآن تريد الأمة أن تجرّب الوجه الآخر من العملة وهو الإسلام، إذا ما أجرينا انتخابات الآن في الوطن العربي ليس تحت إشراف وزارات الداخلية، بل تحت إشراف الأمم المتحدة أو أي منظمات محايدة وذات صدقية، فسوف تفوز الأحزاب والقوى والجماعات الإسلامية في هذه الانتخابات بما فيها ليبيا”. كانت كلمتي تنقل على الهواء مباشرة فصعق الجميع، ودارت بينهم تساؤلات عبّرت عن الاستغراب من هذه الجرأة في تقييم الوضع في الوطن العربي كلّه. بعد هذا اللقاء قام حسن الترابي بزيارة لأميركا، وألقى هناك محاضرة في إحدى الجامعات الأميركية، قال فيها: “وشهد شاهد من أهلها، هو أحد القيادات القومية عبد السلام جلود يقول: ‘الإسلاميون سوف يفوزون في أي انتخابات تحت إشراف دولي في كل الوطن العربي بما فيه ليبيا'”. وأضاف: “نحن لا نريد أن نستخدم القنابل والمتفجرات للوصول إلى السلطة، بل نؤمن بصناديق الاقتراع”. ثم نشر هذه المحاضرة في كتاب.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى