رغم حدة التنافس بين بكين وواشنطن بالبحر الأحمر، وقلق الأخيرة على مصالحها من تغلغل الصين التي تجد الترحيب من دول المنطقة، فإن الراجح أنها ستظل منافسة محدودة دون مستوى الاشتباك.
تُفاجئ الدبلوماسية الصينية العالم بتعزيز نفوذها في المناطق الإستراتيجية على مستوى القارة الأفريقية بشكل متسارع، وتتطور أدوراها التي تجاوزت الأجندات الاقتصادية البحتة إلى العمق الجيوستراتيجي ومنافسة القوى المهيمنة تقليديا. ويبدو واضحا أن بكين تكسب رهانها كل يوم.
فما قصة الصين في منطقة القرن الأفريقي وحوض البحر الأحمر؟ وكيف تدير إستراتيجيتها وما مكاسبها وكيف تتعامل مع القوى المنافسة؟
كيف شكّلت بكين حضورها بالمنطقة؟
علاقة الصين بالمنطقة قديمة لأهميتها الإستراتيجية. ولكن بسبب استمرار الحروب والاضطرابات فيها، كان ميزان العلاقات يميل لصالح القوى الغربية، مع حضور صيني منخفض، لكنه يرتفع كلما تعرضت علاقات المنطقة لهزات مع دول الغرب عامة.
وقد زاد اهتمام بكين بالمنطقة في إطار إستراتيجيتها للشراكة مع أفريقيا، والتي دشنتها مطلع القرن الـ 21، وتسارعت مع ظهور القرصنة في خليج عدن، مما دفع الصين لزيادة حضورها.
عام 2007، شاركت بكين بقوات حفظ السلام في إقليم دارفور، وأصبحت أكبر مستثمر خارجي في إثيوبيا والسودان، وفي شراكة محدودة مع إريتريا بسبب العزلة الدولية التي كانت تعانيها، لتتوسّع بكين في حضورها بكامل حوض البحر الأحمر بشكل أذهل المراقبين.
ما أبرز ملامح التوسع الصيني؟
يعتبر المحللون أن افتتاح القاعدة الصينية في جيبوتي عام 2017 بمثابة إعلان إستراتيجي لمرحلة مختلفة في التعاطي وفق رؤى ومعادلات جديدة، وهو ما حذّر منه سياسيون أميركيون، بأن بكين خطر حقيقي على مصالح بلادهم في البحر الأحمر والمنطقة. فما أبرز ملامح هذا التوسع؟:
شاركت الصين بفاعلية في محاربة القرصنة، حيث قامت بعشرات الحملات وأكثر من 30 عملية مرافقة للسفن.
نشرت غواصات عسكرية مما أثار شكوكا حول نواياها العسكرية.
وفقا لبيانات جامعة الدفاع الوطنية الأميركية، قام الجيش الصيني بـ 178 نشاطا مع 10 دول بحوض البحر الأحمر عام 2018 تراوحت بين لقاءات مع كبار المسؤولين ونقاشات حول الموانئ، والمشاركة بالتدريبات المشتركة والمتعددة الأطراف.
وسّعت بكين من حجم مبيعات الأسلحة لدول حوض البحر الأحمر، حيث زادت المشتريات العسكرية لأغلب هذه الدول خلال الـ 15 سنة الأخيرة.
قدّمت القوات الصينية حماية لأكثر من 6 آلاف سفينة مدنية صينية وأجنبية عندما استفحلت عمليات القرصنة بخليج عدن والبحر الأحمر.
أقامت منصات للتعامل والحوار مع دول البحر الأحمر على ضفتيها الشرقية والغربية (منتدى التعاون الصيني الأفريقي (FOCAC) ومنتدى التعاون الصيني العربي (CASCF).
ما أهداف بكين من التمدد بالبحر الأحمر؟
تدرك الصين أهمية البحر الأحمر الإستراتيجية، كما تعلم أن التنافس والمزاحمة فيه كبيرة، ولذلك تضع أهدافا تحقق إستراتيجيتها الخاصة، منها:
ضمان أمن البحر الأحمر لمرور تجارتها، وبالذات إلى أوروبا، التي بلغ حجمها عام 2018 ما قيمته 500 مليار دولار، ولا شك أن هناك شركاء آخرين تعبر التجارة معهم هذا الحوض.
دعم أهداف السياسة الخارجية وتعزيزها.
أن يصبح البحر الأحمر حلقة وصل رئيسية بطريق الحرير البحري، والجزء المحيطي لمبادرة “الحزام والطريق”.
تجنّب الاعتماد المفرط على سخاء الولايات المتحدة في حماية مصالحها بالمحيط، والذي قد لا يستمر بسبب المنافسة المتنامية بين الطرفين.
كسب دول حوض البحر الأحمر في مشروع “صين واحدة” ضد استقلال تايوان وهونغ كونغ، وهو محدِّد مهم في علاقاتها الخارجية.
ما طبيعة العلاقات مع إريتريا؟
يحتفظ الإريتريون بعلاقات قديمة بالصين منذ فترة النضال من أجل الاستقلال. وكان الرئيس أسياس أفورقي ممن نالوا دورات متقدمة بالصين (1966-1967).
وتعززت العلاقات بعد إعلان استقلال إريتريا عام 1993، لكنها تعرّضت لانتكاسة أثناء حرب السنتين مع إثيوبيا (1998-2000) بسبب اتهامات إريترية لبكين بتزويد أديس أبابا بكميات كبيرة من السلاح، رغم أن الصين باعت لكلا الطرفين.
وبعد انتهاء الحرب وتعرض الاقتصاد الإريتري للانهيار، رمّمت الحكومة علاقاتها بالصين في ظل تدهور علاقاتها بالغرب. ومنذ عام 2001، بدأت بكين بإرسال الوفود والخبراء لتأهيل عدد من القطاعات في المجالات المختلفة المدنية والعسكرية، كما قدّمت قروضا مالية ميسرة.
ما دوافع تطور العلاقات الراهنة؟
تُعتبر الصين أحد أهم الأطراف الدولية التي كسرت القرارات الدولية المفروضة على إريتريا، وقدّمت ما يمكن اعتباره طوق نجاة من الوصول إليها، إلى جانب عدد محدود من الدول مثل كوريا الشمالية وإيران، في ظل حصار دولي مطبق.
وتعمل الشركات الصينية في مجال التعدين والتنقيب عن الذهب والنحاس والحديد والزنك بعدد من الأقاليم الإريترية، وتملك امتيازها شركات دنيا وبيجينغ (Bejing وDonia). كما حازت المؤسسة الصينية الجيولوجية (CGC) على امتياز التنقيب عن الغاز والبترول في إريتريا.
ماذا تحمل زيارة وزير الخارجية الصيني إلى إريتريا؟
المتتبع لتطورات أوضاع المنطقة لا يجد صعوبة في فهم وتفسير طبيعة الأحداث المتسارعة، إذ:
وصل النظام الإريتري نقطة اللاعودة في علاقاته بالغرب، خاصة بعد فرض عقوبات على أجهزته الأمنية، والإدانات المتكررة له، مع توجه بعض الأطراف لمعاقبة الرئيس شخصيا.
استثمار نتائج الحرب في إقليم تيغراي الإثيوبي، وتوجه حليفه آبي أحمد لاستخدام الموانئ الإريترية بما يسهم في خدمة 115 مليون نسمة.
تهدف بكين إلى جعل إريتريا معبرا للبضائع الصينية ومحطة وسط للتعامل مع العمق الأفريقي بما يعزز نفوذها ويطور إستراتيجيتها في حوض البحر الأحمر.
كيف تتعامل دول المنطقة مع الإستراتيجيات المتنافسة؟
ترحب دول المنطقة بالحضور الصيني ومشاركتها باعتبارها لاعبا رئيسيا جديدا في أفريقيا، وتنظر إليه على أنه مهم لحفظ توازن مصالح الأطراف دون تحكم وهيمنة طرف واحد على المنطقة.
وتنظر كذلك إلى أهمية تحقيق مصالحها مع كل الأطراف دون الاضطرار إلى الاختيار بين بكين وواشنطن، وهو ما يقول الباحثون إنه ربما يسهم في الحد من المواجهة بين الطرفين.
إلى أين ينتهي سباق المبعوثين؟
وإمعانا في إبراز أهمية المنطقة، عيّنت الصين مبعوثا لها، وكذلك فعلت الولايات المتحدة العام الماضي عندما عينت مبعوثا للقرن الأفريقي سيتم استبداله قريبا.
ويرى الباحثون في معهد السلام الأميركي أن الولايات المتحدة بحاجة إلى تعيين مبعوث خاص بالبحر الأحمر من أجل حماية مصالحها هناك.
ورغم حدة التنافس بين الصين والولايات المتحدة بالبحر الأحمر، وقلق الأخيرة على مصالحها من التغلغل الصيني، والترحيب الذي تجده من دول المنطقة، فإن الراجح أنها ستظل منافسة محدودة دون مستوى الاشتباك.
وقد تحتاج الصين لبعض الوقت لكي تصل مستوى المنافسة الذي يؤهلها للتمدد على حساب الهيمنة التقليدية التي تتجاوز الفضاء الاقتصادي إلى السياسي والأمني والإستراتيجي.
المصدر: الجزيرة. نت