هذا المقال كنت أود أن أكتبه قبل فترة طويلة وهو قصة حقيقية حدثت معي لكن الوقت لم يسمح حتى جاء زمن الكورونا.. ومع إتاحة الوقت وهذا الكم الهائل من المحتوى الرقمي الذي يحمل تصورات مسبقة غالبًا ما تكون بعيدة جدًا عن الحقيقة تذكرت هذه القصة:
في مطلع عام ١٩٩٣ دخل إلى صومعتي صديق قديم وكان على طاولتي سلسلة من سبع كتب لعالم النفس فرويد كنت استعرتها من أحد الأصدقاء لقراءتها أثناء فترة الخدمة الالزامية التي كان من الصعب خلالها قراءة الكتب السياسية.
وما إن وقعت عينا صديقي على الكتب صاح كمن صعقته الكهرباء كيف تقرأ ل (فرويد) ألا تعلم أنه يهودي وكل كتبه مؤامرة يهودية لتدمير الإسلام والفكر الإسلامي. سألته بتغابٍ: هل فرويد يهودي؟ قال: ألم تقرأ كتابه موسى والتوحيد؟ وللحقيقة أني وقتها لم أكن أعلم أن له مثل هذا الكتاب.
في اليوم التالي ذهبت إلى مكتبة النوري وكنا نسميه وقتها ” الحرامي” لغلاء الكتب عنده ورغم ضيق الحال اشتريت الكتاب وهو كتاب صغير بحدود ١٨٠ صفحة من القطع الصغير وعلى مدى ثلاثة أيام قرأته كاملًا وهو آخر كتاب ألفه فرويد قبل سنتين من وفاته
وحمدت الله أني لم أقرأه من البداية، لأنني ما كنت لأفهم منه شيئًا لأنه تطبيق عملي لنظريته في علم النفس على قصة موسى وبني اسرائيل كما جاءت في التوراة والتلمود وغيرها من كتب التراث اليهودي. ودون أن تتطلع على نظريات فرويد في علم النفس سيكون هذا الكتاب مجرد طلاسم، لذلك مضطر أن أوجز ملخص نظريته.
إذ لا يمكن فهم كتاب فرويد “موسى والتوحيد” دون فهم نظريته في التحليل النفسي والتي تتلخص بأن النفس البشرية مكونة من ثلاثة أقسام افتراضيًا ويسميها (الأنا، الهو، الأنا الأعلى) ويعرفها:
١- الهو: وهي المنطقة التي تقع خارج الشعور والتحكم وهي تشمل الغرائز البدائية في صورتها الأولى الجامحة المتطلبة للإشباع الفوري دون ضوابط.
وهي غرائز الحفاظ على النفس مثل الطعام.. والغرائز المتعلقة بالحفاظ على النوع.. وفي ذروتها غريزة الجنس.. التي -في منطقة الهوى- قد تأخذ شكلها الحيواني البدائي..
٢- الأنا الأعلى: وهي مجموعة القوانين والأعراف والضوابط والأخلاق. التي يفرضها المجتمع المحيط والتي قد تأخذ صور مشخصنة مثل الأب، المعلمين.. كبار السن. وهي المنطقة التي تسعى فيها النفس البشرية إلى المثالية المفرطة إلى حد الكمال.
٣- الأنا: وهي المنطقة التي تقوم بتنظيم وحل التناقضات الكبيرة بين الهو برغباته وغرائزه الجامحة والأنا الأعلى بمثاليته وطهريته. فهي تسعى لإشباع الرغبات والغرائز وفقًا لما هو مقبول في الأعراف والقوانين التي يفرضها الأنا الأعلى.
طبعا إن العلاقات بين هذه الأجزاء الثلاثة هي التي تحدد السلوك البشري للشخصية من وجهة نظره. ولكن بالطبع فالأمور بالنسبة للنفس البشرية ليست بهذه السلاسة أو المثالية فالصراع بين هذه الأجزاء غالبًا ما يكون في معظم الأحيان مستعرًا وقاسيًا.. وغالبًا ما تترك الرغبات المكبوتة ضغوطات تؤدي إلى انفجارات تظهر على شكل أمراض نفسية.
هذا بالنسبة للسلوك أما بالنسبة للشخصية فإن فرويد -وهذه كانت إضافته غير المسبوقة- بأن شخصية الإنسان بمعظمها تتشكل في سن مبكرة بين السنتين والست سنوات وأن وعي الأطفال يبدأ من لحظة رؤيتهم النور واللاوعي من المرحلة الجنينية وهذه النظريات لم تكن معتبرة قبله حيث كان الاعتقاد بأن الشخصية تتشكل في مرحلة المراهقة أو النضوج.
ويعتقد فرويد أن شخصية الطفل تتشكل في هذه السن المبكرة عبر آلية يسميها بالنسبة للذكر عقدة أوديب، التي تتلخص بأن الطفل مع المرحلة التي يبدأ فيها الأبوان فصل الطفل عن الأم بالفطام والإبعاد في السرير. تنشأ علاقة تعلق الطفل بأمه. ويرى فرويد بأن هذا التعلق هو رغبة جنسية تسعى إلى الاستحواذ على الأم واهتمامها.. ولكنه يشعر في قرارة نفسه بأن الأم هي مرتبطة بالأب ومستحوذة له.
وهنا تنشأ مشاعر الغيرة والكره لهذا الرجل الذي يراه أضخم وأقوى منه بكثير، ولا يرى مجالاً لمنافسته فيتمنى غيابه من المشهد. ولكن في نفس الوقت فإن هذا الرجل هو الذي يعطف عليه ويحبه ويشكل له مصدر الأمان.. وإن غيابه يشكل غياب الأمان من حياته.
هذه المشاعر المتناقضة اتجاه الاب ما بين العجز عن منافسته والرغبة في غيابه والخوف من غيابه هي ما يسميها فرويد عقدة أوديب تلك الأسطورة التي يرى أنها عبرت في لحظة انكشاف تحت غطاء الرواية للتعبير عن الرغبة المكبوتة عند الإنسان حيث يقوم أوديب بقتل أبيه والزواج من أمه. وهذا ما يغضب الآلهة (الأنا الأعلى) فيعاقبه بالخصاء.
وهذه العقوبة يعتبرها فرويد هي ذروة العقدة فالخوف الدفين من أن يعاقب من الأنا الأعلى بالخصاء هي ما تجعله يكبت هذه المشاعر اتجاه الأم. كل هذه المشاعر المتناقضة والرغبات والمخاوف وطريقة تعامل الأب والأم في تلك الفترة (من ٢-٦ سنوات) هي التي تحدد شخصية الطفل.
وفي الأعم والأكثر طبيعية أن يكون الحل السحري للطفل هو أن يتماهى في شخصية الأب فيحاول أن يقلده أو يكون امتداده ولكن أحيانًا يكون التحوير بالتناقض معه أو التجاهل والانطواء او..
طبعًا هنا لابد من التنويه أن الجنس عند فرويد ليس كما هو في المفهوم التقليدي المقتصر في الممارسة الجسدية، بل هو الغريزة التي تعبر عن حب الفرد الإنسان لنوعه وسعيه للحفاظ على النوع، لذلك فهي أقوى بنظره وأكثر تأثيرًا من غرائز الحفاظ على النفس. وأن الرغبات الجنسية المكبوتة تتحور ليتم التعبير عنها بأشكال متعددة ووسائل مختلفة.. ولذلك يعتبر أن كل وسائل الابداع التي ابتكرها الإنسان مثل المسمار والإزميل والقلم والناي.. هي تحوير للتعبير عن القضيب، وأن كل فعل إبداعي يتم بها سواء من رسم أو كتابة أو نحت أو نقوش هي تحوير لممارسة جنسية تعبر عن رغبات مكبوتة.
وكذلك الفأس والمحراث والسيف والرمح.. وكل فعل يتم بها من عمل أو حرب هو تحوير لممارسة جنسية تعبر وتفرغ رغبات مكبوتة من الطفولة داخل النفس البشرية.
أما بالنسبة لتكوين شخصية الأنثى فتكون أيضًا في مرحلة الطفولة ولكن في سن أكبر قليلاً (من ٤-٩ سنوات) وتكون عبر عقدة أخرى تدعى عقدة (الكترا)، وهي تبدأ عندما تكتشف الأنثى أنها فاقدة للقضيب الذي يجعلها تسعى إلى امتلاكه والذي يتم تحويره للسعي لامتلاك الرجل الذي يتجسد في الأب ابتداءً، ولكن فرويد لم يتوسع في تحليل شخصية الأنثى مثل الذكر وهو يعترف بأن شخصيتها معقدة أكثر ويصفها بالغابة المظلمة.
قد أكون أطلت أكثر مما يجب ولكن ليس من السهولة أيضًا اختصار عشرات الكتب التي ألفها فرويد في عشرات السطور، ولكني حاولت التركيز على ما يخدم موضوعنا فقط وهو فهم تفسير فرويد لتاريخ الديانة اليهودية في كتابه “موسى والتوحيد” الذي سنتناوله في الجزء الأخير.