من المؤكد أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي وضع على رأس أولوياته، استعادة مجد الاتحاد السوفييتي السابق، لن يقبل بأن يخرج من ليبيا خالي الوفاض، فيما لو وضعت الجهود الأمريكية الأوروبية البلد على سكة حل سياسي توافقي، مُلتحف بغطاء أممي. وطالما أن احتمال السلام هذا واردٌ في ظل موازين القوى الراهنة، فإن إقصاء مرشح روسيا سيف الإسلام القذافي بات ضروريا لقطع الطريق أمام عودة النظام السابق. بهذا المعنى كان تأجيل العملية الانتخابية الخيار الوحيد للحؤول دون اندلاع الحرب من جديد بين السبتمبريين والفبرايريين. والظاهر أن موسكو، ما زالت تراهن على الشعبية التي تعتقد أن الإبن الثاني للزعيم الراحل معمر القذافي، ما زال يحظى بها في المنطقتين الشرقية والجنوبية. والثابت أن الروس متشبثون بالمواقع التي حصلوا عليها في بلد كان في مقدم زبناء السلاح الروسي. ومن هذا المنطلق فإن بوتين مُصمم، منذ وصوله إلى قصر الكرملين، العام 2000 على استعادة المجد الضائع ليس فقط في أوكرانيا، بل أيضا في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. ولذلك ستكون روسيا غير بعيدة عن الحلول التي يُرجح أن تضعها لجنة خريطة الطريق، التي شكلها مجلس النواب، تمهيدا لتحديد الميقات الجديد للانتخابات.
ويجوز القول إن اللجنة بدأت أعمالها من أول الطريق وليس من منتصفه، إذ أعادت الحصان إلى موقعه الطبيعي أمام العربة وليس خلفها، مُعتبرة أن وضع الدستور هو المقدمة اللازمة لإطلاق المسار الانتخابي. وفي هذا الإطار اجتمع أعضاء اللجنة بمقرر الهيئة التأسيسية لصياغة مشروع الدستور وبرئيس لجنة العمل في الهيأة. ولم يُعرف فحوى الاجتماع، إلا أن بيان مجلس النواب أفاد أن الاجتماع تطرق لمراحل صياغة الدستور والتحديات التي يُواجهها هذا المسار. وفي السياق ينبغي الربط مع مخرجات جلسات الحوار، التي انطلقت منذ التاسع من تشرين الثاني/نوفمبر 2020 في تونس، في إطار عملية متعددة المسارات، شملت الحوار العسكري والاقتصادي، بالإضافة إلى مسار المرأة والشباب والبلديات.
وتم هذا التقدم برعاية بعثة الأمم المتحدة، بُغية التوصل إلى إنهاء الأزمة وتوحيد السلطة في البلد. ولوحظ أن أعضاء اللجنة اجتمعوا مع وفد من مجلس النواب، وأيضا مع وفد من المجلس الرئاسي ورؤساء اللجان في مجلس الدولة، فضلا عن ممثلي بعض الأحزاب السياسية، على نحو وضع لجنة خريطة الطريق مُجددا في قلب العملية السياسية. ومن هنا يتأكد أن الحوار مُمكن، بالرغم من جميع المصاعب والمثبطات، لإيجاد حلول توافقية لمعظم المسائل الخلافية المتعلقة بمسودة الدستور، وتعديل القانون الانتخابي، الذي صاغه رئيس مجلس النواب عقيلة صالح بمفرده، ويكاد الجميع يتفقون على رفضه. وقد تعرض مشروع القانون إلى تسعة تعديلات في عشرة أيام، من دون أن يعرف جل النواب بفحوى تلك التعديلات، التي اعتُمدت من دون التصويت عليها.
وتشكلت لجنة خريطة الطريق في 22 كانون الأول/ديسمبر الماضي، بقرار من رئاسة مجلس النواب، وهي تتألف من عشرة أعضاء، وتتولى العمل على إعداد مقترح لخريطة طريق لما بعد 24 كانون الأول/ديسمبر، في أعقاب إرجاء الانتخابات الرئاسية. وبنت المفوضة قرار تأجيل الانتخابات على المعلومات الواردة عليها من خلال التقارير الأمنية الصادرة عن وزارة الداخلية وجهاز المخابرات العامة. وحسب النائبة سارة السويح اتسعت الخروق الأمنية وتأكد وجود خطط إرهابية تستهدف مقار انتخابية بتفجيرات، وأيضا وجود شبهات تزوير في منظومة الرقم الوطني، وانتحال الجنسية الليبية من قبل أصحاب جنسيات أخرى، وعمليات شراء أصوات، بالإضافة إلى خلل في حوالي 750000 بطاقة اقتراع. إلا أن هذه الأرقام تبدو غير دقيقة، بل ومبالغا فيها، بحسب العارفين بخفايا المسار الانتخابي. لكن مع ذلك أدت تلك الأجواء إلى التشكيك في نزاهة العملية الانتخابية، بل ورفضها.
أما رئيس المفوضية الوطنية للانتخابات عماد السائح، فعزا في إفادته أمام الجلسة البرلمانية الخاصة، إرجاء الانتخابات إلى ثلاثة أسباب أولها الأحكام القضائية المتضاربة في شأن بعض المرشحين، إذ كانت محاكم الاستئناف تخضع للضغوط وتلغي قرارات محاكم الدرجة الأولى، التي أبطلت ترشح بعض الشخصيات البارزة، مثل سيف الإسلام وخليفة حفتر والدبيبة، زيادة على كثرة عدد المرشحين إذ لم تكن الفترة الممنوحة للمفوضية تكفي للتأكُد من سلامة سجلاتهم من التزوير. والسبب الثاني تمثل بالتهديدات التي تلقتها المفوضية من الميليشيات في غرب ليبيا، ومنها التهديد باقتحام مقر المفوضية إن تمت الانتخابات بقائمة مرشحين لا تقبلها تلك الميليشيات، والتشكيك في نزاهة المفوضية، مع التزام مؤسسات الدولة الصمت أمام تلك التهديدات، بما فيها المجلس الرئاسي والحكومة والبرلمان. والسبب الثالث، المترتب على ما سبق، هو تشكيك المفوضية في قدرة وزارة الداخلية على تأمين العملية الانتخابية في تلك الظروف.
لذا فالأرجح أن اهتمام النخب الليبية سيتركز في الفترة المقبلة على تعديل بعض القوانين، وخاصة قانوني الانتخابات الرئاسية والتشريعية، زيادة على معالجة المسار الدستوري، تمهيدا لتحديد ميقات جديد للاقتراع، مع أخذ المعطى الدولي في الحسبان. وفي هذا الصدد عقدت اللجنة البرلمانية المعنية بمتابعة العملية الانتخابية أخيرا اجتماعا في طبرق، عرضت فيه على 115 نائبا نتائج أعمالها. واللافت أنها أوصت بمعاودة تشكيل الحكومة ووضع خريطة طريق جديدة، إضافة لتعديل الدستور. وأثارت تلك التوصيات أسئلة عدة حول مصير حكومة الوحدة الوطنية المؤقتة برئاسة الدبيبة، فهناك من يتساءل هل ستغادر الحكومة مع رئيسها، أم سيبقى عناصر منها في التشكيل الحكومي، وبخاصة من يُديرون وزارات فنية؟ وهل سيرضى الدبيبة بتقديم الاستقالة؟ كما يتردد السؤال أيضا عن مصير المجلس الرئاسي، الذي تم اختيار أعضائه بطريقة معقدة، من الصعب معاودة تركيبها من جديد.
ويُعزى طرح هذه الأسئلة اليوم إلى أن خريطة الطريق التي وُضعت في حوارات تونس/جنيف لم تتوقع السيناريو الحالي، أي إرجاء الانتخابات. وبتعبير آخر ستبقى هذه الفرضيات رهينة قرار الجهة التي اختارت أعضاء الحكومة المؤقتة وسمت أعضاء مجلسها الرئاسي، أي الأمم المتحدة. إلا أن الدبيبة، كما رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي، لن يُوافقا على التخلي عن منصبيهما، بالرغم من أن الدبيبة أخل بالتعهدات التي قطعها على نفسه، لدى تسلم رئاسة الوزراء، بالامتناع عن الترشُح للانتخابات. كما تحدثت أوساط مالية عن زيادة في نفقات الحكومة، في عهده بأكثر من 70 في المئة، قياسا على نفقات الحكومات السابقة. لكن أنصاره يؤكدون أن احتياط البلد من النقد الأجنبي ارتفع في كانون الأول/ديسمبر الماضي إلى حوالي 41 مليار دولار.
الطريق إلى التوافق
والطريق إلى التوافق، الذي يمكن أن يُمهد للانتخابات، تمرُ بالضرورة عبر حوار بين مجلس الدولة والبرلمان، لكن كثيرا من المراقبين في ليبيا يعتقدون أنه لا أمل من الحوار بين الجسمين، ويؤكدون أن جميع التجارب أثبتت ذلك، إذ أن معاودة المسار السابق بالآليات نفسها ستُفضي إلى نتيجة مُماثلة. ويُعزى ذلك إلى أمرين أولهما إصرار مجلس النواب (بنغازي) على الانفراد بإصدار قوانين الانتخابات، وثانيهما معارضة مجلس الدولة (طرابلس) الذي يسيطر عليه «الإخوان» لإجراء انتخابات رئاسية، ودعوته للاكتفاء بالانتخابات البرلمانية، في محاولة لتقليد المسار التونسي، بالرغم من فشل هذا الأخير. وكان أحد عناوين الفشل التنازع على السلطات الدستورية بين الرئاسة والحكومة، ما تسبب بتعطيل تجربة الانتقال الديمقراطي. وكان رئيس مجلس الدولة الليبي خالد المشري شن حملة متواصلة في الأشهر التي سبقت تأجيل الانتخابات، داعيا إلى إلغائها، ومارس كافة الضغوط على مفوضية الانتخابات للدفع نحو قرار التأجيل. وفي المحصلة، يمضي كل من البرلمان والمجلس الأعلى للدولة والمجلس الرئاسي، فضلا عن الحكومة المؤقتة، في التمديد لأنفسهم في المواقع التي تبوءوها، وبالتالي ليس من مصلحتهم إنهاء الأزمة.
من هنا تأتي الضغوط الأمريكية للإسراع بإصلاح المنظومة القانونية الخاصة بالانتخابات، تمهيدا للذهاب إلى صندوق الاقتراع، وهو الموقف الذي عبر عنه الموفد الأمريكي الخاص السفير نورلاند، في الرسالة التي توجه بها لليبيين بمناسبة حلول السنة الميلادية الجديدة. وهو أيضا الموقف الذي أعلنه النائب الديمقراطي في الكونغرس تيد دويتش، الذي أكد أن الغالبية الساحقة من الشعب الليبي تريد إجراء انتخابات خالية من العنف والترهيب، وفي ظل إطار قانوني واضح المعالم. بهذا المعنى يتأكد أن الاعداد لإجراء انتخابات بهذه المواصفات سيستغرق وقتا أطول من الشهر الذي اقترحته المفوضية العليا للانتخابات، ومن الشهرين، بالرغم من أن أكثر من 2.5 مليوني ليبي سجلوا أنفسهم في سجلات القيد الانتخابي.
واتخذت أربعة بلدان أوروبية، بزعامة ألمانيا راعية مؤتمري برلين1 وبرلين2 موقفا مُتسقا مع الموقف الأمريكي، الذي أشار إلى الدبيبة، من دون أن يُسميه بالاسم، مؤكدا أنه ينبغي على المرشحين، الذين يشغلون مناصب في المؤسسات العامة الاستمرار في عدم شغلها حتى إعلان نتائج الانتخابات، وذلك «تفاديا لتضارب المصالح وتعزيزا لتكافؤ الفرص» على ما جاء في بيان الدول الأربع، وهي فرنسا وألمانيا وبريطانيا وإيطاليا، بالإضافة لأمريكا، التي وقعت أيضا على البيان.
وأشارت تقارير عدة إلى أن العاصمة طرابلس تشهد حالة من الانقسام الحاد في صفوف الجماعات المسلحة، محورها ما العمل في حال سحب الثقة من حكومة تسيير الأعمال، التي يقودها الدبيبة. وكانت الجماعات المسلحة حاصرت منتصف الشهر الماضي، وقبل أيام من موعد الانتخابات الرئاسية عددًا من المؤسسات، من بينها رئاسة مجلس الوزراء ومؤسسات أمنية.
والظاهر أن أمراء الجماعات في طرابلس منقسمون إزاء الموقف من الحكومة المؤقتة، التي توزع عليهم الرواتب، بين مدافع عن الدبيبة وحريص على حماية حكومته، من جهة، طبقا لخريطة الطريق، وصنف آخر يسعى للسيطرة على العاصمة والانفراد بالقرار فيها. ومن هنا تأتي أهمية تنفيذ أحد بنود خريطة الطريق، وهو المتعلق بحل الميليشيات ونزع أسلحتها والعمل على إدماج عناصرها في الحياة المدنية. غير أن ما تحقق حتى اليوم من ذلك الهدف ضئيلٌ جدا، ولا يُبشر بأن المدن الليبية، وخاصة العاصمة، ستتخلص من سطوة المسلحين.
المصدر: القدس العربي