كورونا وفرص تغيير النظام العالمي
لا شك أن جائحة فيروس كورونا المستجد كوفيد 19 أحدثت مأساة على المستوى العالمي، لا يستوعبها الحديث عن حجم الضحايا والمصابين، وقد تجاوز عدد المصابين حتى الآن مليوني مصاب، وعدد الوفيات 120 ألف وفاة، ونحن ما زلنا لا نرى غير قمة جبل الجليد، ويقصر عن إدراك أبعادها الحديث عن الخسائر الاقتصادية، والركود الذي بات يخيم على الاقتصاد العالمي. ومن الصعب أن نتخيل المدى الذي ستمتد إليه هذه الآثار لاجتياز هذه المرحلة، والنجاح في التصدي للفيروس.
لقد انكشف العالم أمام كوفيد 19، انكشفت فرية الأمن الجماعي والتعاون الدولي، انكشفت أكذوبة العولمة التي من شأنها أن تولد لهذه “القرية الصغيرة” التي باتت توصف بها الكرة الأرضية، ولهذا المجتمع العالمي الموحد، ولهذا الاقتصاد الدولي المحكوم بآليات واحدة ، قيما إنسانية تحكم البشرية كلها، وتوجه النظم كلها، وتعبر عن خطوط حمراء تلتزم بها كل الدول دون استثناء، وتحرسها مؤسسات دولية تكون قيمة على هذا كله، لقد انكشف هذا كله، وظهر خواؤه، وعجزه، وأن كل هذه التوصيفات كانت تغطي روحا من الأنانية والعدوانية والعجز الذاتي.
كثير من القوى السياسية والاجتماعية وكثير من الباحثين والعلماء كتبوا عن هذا العالم الجديد المرتقب بعد الانتصار على الفيروس، عن هذه العولمة التي استبشروا بها، ولم ينتبه هؤلاء أن هذه النظام الوليد سقط مبكرا وفي الاختبارات الأولية له وقبل كورونا، سقط بكل مكوناته الجديدة، وبكل مراكز القوة والسيطرة التي ظهرت عند أركانه، لكن تحدي كورونا سلط الضوء بقوة على هذا الانكشاف.
كذلك لم ينتبه المتابعون إلى أن الحديث عن “العالم الجديد بعد كورونا” يختلف من باحث لآخر ومن سياسي لآخر تبعا لاختلاف هؤلاء في إدراك ما الذي كشف عنه تحدي كورونا؟. وبقدر هذا الاختلاف يختلف أولئك في تصور النظام المرتقب.
ومع ذلك فإن عناصر كشف عنها تحدي كورونا وأظن أن الجميع بات يدركها، ومن أهم هذه العناصر:
1ـ أن تحدي كورونا صفع العالم كله، بمختلف تشكيلاته وتصنيفاته على سلم التقدم، وبإحتلاف تنوع ايديولوجياته، وأديانه، وعرقياته، وحين نقول الجميع فإنه يعني الجميع، أفرادا ومجتمعات، وتكتلات دولية، وقيما.
2ـ أن التكتلات الدولية القارية مثل الاتحاد الأوربي والعابرة للقارات مثل التكتلات الاقتصادية والأمنية الكبرى ” مثل حلف الناتو” والدولية مثل الأمم المتحدة ومنظماتها، لم تظهر أي فاعلية في مواجهة الفيروس، وقامت كل دولة من الدول المكونة لهذه التكتلات تتصرف بصفتها الذاتية ولا تعير كبير أهمية للتكتل التي تنتمي إليه.
3ـ أن شبكة الأمان الطبية في جميع دول العالم المتقدم والمتخلف أثبتت أنها أعجز من أن تواجه حالة صحية طارئة مثل الحالة التي مثلها الفيروس، وأن مراكز البحث العلمي والشركات المرتبطة بها متخلفة عن تلبية احتياجات مواجهة أي تحدي صحي طارئ.
4ـ أن تحدي كورونا أظهر أن القطاع الصحي هو قطاع استراتيجي يتقدم كل القطاعات الأخرى في المجتمع، وعلى المستوى الدولي، لقد أمسك تحدي كورونا بزمام القطاع الاقتصادي الانتاجي والخدمي، خنق القطاع الاقتصادي، دفع بالاقتصاديات المختلفة المتقدمة والمتخلفة إلى هاوية الركود، دمر فرص العمل، حبس الناس في بيوتهم، وأصاب كل القطاعات حتى تلك الأكثر تقدما وأمنا، ووفق البيانات المعلنة فقد حيد الفيروس اثنتين من كبريات حاملات الطائرات العاملة بالطاقة النووية في العالم، حاملة الطائرات الفرنسية شارل ديغول في 9 / 4، وقبلها حاملة الطائرات الأمريكية “يو إس إس ثيورد روزفلت”في 30 /3، وأخرجتهما من الخدمة بعد أن ضرب الفيروس الطاقم العسكري عليهما، وبالإجمال فرض الفيروس على الدول أن تخصص تريليونات الدولارات لمواجهة خطره على نحو لم يسبق له وجود في التاريخ.
5ـ أن الدول التي رفعت يدها عن القطاع الصحي ومكوناته وما يتصل به، وحولته إلى قطاع خاص تحكمه قوانين العرض والطلب قد ارتكبت خطأ استراتيجيا، وهي بذلك كأنها حولت القطاع العسكري والأمني في المجتمع إلى القطاع الخاص المحكوم بقانون العرض والطلب. إن الدولة بمثل هذا السلوك تكون قد تخلت عن واحدة من مسؤولياتها الرئيسية التي وجدت من أجلها، فمثل هذه القطاعات الاستراتيجية يجب أن تحكمها ـ أولا وقبل كل شيء آخرـ احتياجات المجتمع كله، استقرار المجتمع وأمنه ومستقبله، وهي كقطاعات استراتيجية تكون ممولة من المجتمع ككل باعتبارها من أسس وجود هذا المجتمع.
6ـ أن كل ما قامت به دول العالم على اختلاف قدراتها حتى اليوم هو محاولة درء تفشي الفيروس، بالحجر والتباعد الاجتماعي والنظافة، وإتاحة الفرصة الممكنة للمصابين بتخطي مرحلة الخطر وذلك بتقوية المناعة الذاتية، ومقاومة الآثار الجانبية للفيروس والاختناقات التي تنتج عن مهاجمته للجهاز التنفسي، أما مواجهة الفيروس علاجيا والقضاء عليه، فليس مقدرا أن يتم إلا بعد أشهر عدة أقربها ـ وفق تقديرات العلماءـ مطلع العام القادم، ووفق منحنى تطور الإصابات والوفيات فإن ذلك يعني أرقاما غير محدودة من الضحايا، وخسائر وتهالك في الاقتصاد يصعب تقديره، كما يصعب تحديد من هي الدول التي ستصمد في هذا النزيف المادي والبشري.
7ـ أن الحديث عن الأمن الانساني”أمن المجتمعات البشرية” باعتباره أمن عالمي مشترك، ظهر أنه حديث واقعي جدا، بل هو الحديث الواقعي والمؤكد، فالفيروس ضرب الجميع وتجاوز كل الحواجز، ولم يعترف بأي تقسيمات، وإذا نظرنا إلى هذا الفيروس من زاوية أنه سلاح بيولوجي، أي أحد أسلحة الدمار الشامل، فإننا أمام خطر داهم، سلاح تَمَلُكُه يسير، وغير مكلف للدول والمنظمات والأفراد، وأماكن ومختبرات إنتاجه متوفرة في مواقع عديدة في العالم، وانتقاله وتخزينه وإطلاقه لا يحتاج إلى أي تكلفة بالقياس الى الأسلحة الأخرى، بل إنه يمكن إطلاقه من عشرات ومئات المواقع في الوقت نفسه، أو على شكل سلسلة من البؤر الفيروسية، ثم تتكفل طبيعة النظام العالمي بانتشاره إلى كل مكان، وإذا كان فيروس واحد فعل في المنظومة البشرية ما نراه، فكيف إذا شهدنا هجوما فيروسيا متعدد المواقع والأنواع؟.
8ـ أن صورة الدولة العظمى القادرة على القيام بدور القائد والموجه للنظام العالمي، صورة سقطت في امتحان هذا الفيروس، وبدت الولايات المتحدة ـ وهي الدولة العظمى في هذه المرحلة ـ عارية، وضعيفة، ومرتبكة، ومندفعة بقوة في جحيم الوباء، لتكون الأولى بلا منازع وتسبق العالم كله في عدد الاصابات وعدد الوفيات، وهي بحاجة للمساعدة رغم كل ما يختزنه المجتمع الأمريكي من عناصر قوة. ولقد ساعد قيادتها الحالية على أن يكون هذا الانكشاف فاضح إلى درجة تثير الشفقة.
9ـ أن الحديث عن قيم عامة فوق قومية “قيم إنسانية حاكمة”، وهو ما شاع في الفكر السياسي في المرحلة السابقة، حديث لم يظهر له أساس في مواجهة هذا التحدي، بل إن دولا كبرى بعينها أظهرت أنانية في تأمين احتياجات التصدي للفيروس بشكل معيب قد لا تفعله حتى العصابات، وباتت كل دولة تقول “ربي نفسي”، ولم تظهر أي قيمة أو وزن على المستوى العالمي للمنظمات الأممية المعنية بحقوق الإنسان واحتياجاته، وقد أظهر عدد من قادة الدول استسهالا معيبا وغير أخلاقي، وهم يتحدثون عن أن هذا الفيروس لا يقلق كثيرا، إذ أنه يصيب أكثر كبار السن، أي أولئك الذين باتت لرعايتهم تكلفة عالية، وفي الوقت نفسه باتوا غير منتجين في مجتمعاتهم.
إذا كانت الملاحظات السابقة صحيحة وواضحة لبعض ما تكشف من هجوم فيروس كورونا المستجد، وأظن أنها كذلك، فما هي الجوانب التي يمكن أن تتغير في النظام العالمي الذي سيعقب تحدي كورونا؟، ماذا نتوقع من النظام المرتقب، نظام ما بعد كورونا؟!.
** هل يمكن أن يتم تصحيح منظومة الصحة في العالم ليكون لها وللقائمين عليها مكانة استراتيجية متقدمة في تركيبة أي نظام، وأن تستعيد الدولة سيطرتها على هذه المنظومة، وعلى ما يتصل بها من مختبرات وأبحاث وبنى مختلفة حتى توفر جميعها الاحتياجات الحقيقية للمجتمعات بعيدا عن قانون العرض والطلب، بعيدا عن مفهوم التجارة، وفكرة المنفعة والثمن.
** هل يمكن تصور ولادة مؤسسات ومنظمات دولية حاكمة تكون قادرة على ضبط وتوجيه كل المؤسسات القطاع الخاص والمؤسسات الوطنية لضمان أمن الإنسانية في مواجهة السلاح البيولوجي” الجرثومي والفيروسي …”، بعد أن فشل النظام الدولي في تأمين ذلك بالنسبة للسلاح النووي والكيميائي.
** هل يمكن تصور بناء نظام انذار عالمي لمواجهة أي أزمة قادمة كمثل الأزمة التي نعيشها، نظام يقوم على فكرة التضامن والتدافع لمواجهة هذا التحدي من لحظة ظهوره وبكل التكاليف المقدرة، باعتبار ذلك نوعا من أنواع حماية النفس، بلا منة، ولا استخفاف، وبكفاءة يستأهلها هدف حماية البشرية.
** هل نتصور أن فكرة القطب الواحد عالميا ستنزوي مفسحة المجال لمجتمع دولي متعدد الأقطاب، يجعل من مهمته أن يمثل المصالح والقيم العليا للبشرية جميعها بتنوع ثقافاتها، وتعدد احتياجاتها، وتباين نظمها السياسية والاجتماعية. مجتمع دولي لا تقف الصين فيه إلى جانب واشنطن في قيادة العالم، كما بات يشاع، وإنما يقف العالم بقاراته ودوله المركزية ليحدد مسارات المجتمعات الانسانية وليحقق لها العدل الممكن، والتقدم اللازم، والأمن الضروري.
بعض من هذه التساؤلات طرح حديثا في أعقاب تحلل الاتحاد السوفياتي، وظن البعض أن الفرصة باتت مواتية لتصحيح بنية الأمم المتحدة لتكون أكثر قدرة على تمثيل الدول التجمعات الدولية، وتم تحضير اقتراحات لتعديل بنية مجلس الأمن الدولي، وتم العمل على توليد بعض المؤسسات المهمة في هذا المسار من المحكمة الجنائية الدولية 2002، إلى مجلس حقوق الانسان 2006، إلى باريس للمناخ 2015، الى منظمة التجارة العالمية 1995، لكن تبين تدريجيا أن كل هذه التوجهات والمنظمات والمؤسسات معطلة ومرهونة بإرادة “الدولة العظمى”، التي ظنت الولايات المتحدة أنها تمثلها وقادرة على القيام بأعبائها. بعد أن سقط نظام القطبين وتم تعطيل مجموعة عدم الانحياز.
وقد اختبرت أمتنا ومنطقتنا كل تلك الفرص ـ التي جاءت بعد تحلل الاتحاد السوفياتي ـ وتبين لها أنها فرص خلبية لا فائدة منها، ولا قدرة فيها على توليد نظام عالمي آخر أكثر عدلا وإنسانية، وأشمل تمثيلا، وأقل عنفا، نظام يمتلك خطوطا أخلاقية حمراء لا يسمح بتجاوزها.
في المرحلة التي نشير إليها تم غزو وتدمير العراق على نحو لا سابقة له، وبمبررات أقل ما يقال فيها أنها كاذبة، وغير أخلاقية، وكذلك تم تدمير ليبيا عبر التدخل المباشر لحلف الناتو وبطريقة مشابهة لما حدث في العراق. واستخدمت الولايات المتحدة الفيتو في مجلس الأمن نحو عشرين مرة حماية للكيان الصهيوني، ورمت خلف ظهرها بكل القرارات والمواقف الدولية، الخاصة بالحق الفلسطيني واعترفت له بضم القدس المحتلة، وجعلها عاصمة لكيانه وضم المستوطنات ـ وهي جميعها غير شرعية بحكم القانون الدولي ـ واعتبارها جزء من الكيان الصهيوني.
ومثلما فعلت واشنطن استعملت روسيا حق النقض في مجلس الأمن الدولي أكثر من 18 مرة لتعطل كل مشاريع القرارات الدولية التي حاولت أن تفرض وقفا لإطلاق النار في سوريا، والتي تضمنت إدانة لنظام القتل والإرهاب في دمشق الذي استخدم الأسلحة الكيماوية وارتكب جرائم حرب متعددة الأشكال.
وفي غير منطقتنا وباستهداف غير امتنا في اوربا وفي امريكا الجنوبية كانت نتائج اختبار هذا النظام مزرية…… فهل نتوقع ولادة نظام مختلف عقب الانتصار على كورونا؟!
نحن ندرك أن تحدي كورونا والمؤشرات التي أظهرها، والفرص التي أشار إليها، قد تكون أبعد واشمل من كل التحديات التي أعقبت مرحلة تحلل الاتحاد السوفياتي،
لكن شروط ولادة نظام دولي جديد تتطلب إقرار الدول الكبرى القائمة بعجزها عن مواجهة هذا التحدي وطنيا، بعجز أنظمتها، وآلياتها، وقيمها، عن مواجهة هذه التحدي. وكذلك إقرارها بالحاجة إلى نظام دولي فعال يغطي هذا العجز، ويشكل قوة مضافة لكل نظام قائم ليس وقت الحاجة فقط وإنما بشكل استباقي، وهذا لم يحدث بعد، ولم تظهر مؤشرات لحدوثه.
قد تتاح مثل هذه الفرصة بعد أن يتبين أكثر آثار هذا الهجوم الفيروسي…. قد يؤدي اضطراب اجتماعي عنيف ينتج عن ظروف هذا التحدي إلى فرض نظام دولي جديد ….. قد تبرز تحديات جديدة في أوقات لاحقة تفرض التغيير في النظام الدولي، قد يحدث هذا بعد عقود عدة، وحين يحدث لن يكون بسبب كورونا المستجد لوحده وإنما بسبب ما سيظهر من تحديات جديدة، أمنية وصحية واقتصادية، لكن شيئا من هذا لم يتوفر حتى الآن.
كل ما كتب بهذا الشأن من مفكرين، وكل ما صدر من قادة سياسيين حول نظام جديد يتولد على وقع جائحة كورونا لا يعدو أن يكون حديثا عن انزياحات في مراكز القوة والسيطرة في النظام الدولي الراهن، وهذا لا يعني تغييرا حقيقيا، وكثير مما صدر تعبير عن رغائب وتطلعات أكثر مما هو نتاج مؤشرات أو دلائل تسمح بمثل هذا التطلع.