لم تترك الثورة السورية أي مجال من مجالات الحياة السورية إلا وأثرت به بشكل كبير، وأدت الى تغيرات جذرية فيه. تعتبر الأسرة السورية النواة الاولى والاقوى في عصبة العلاقات الاجتماعية المتنوعة والواسعة في سورية، علاقات العمل والقرابة والجوار.. الخ.
يعتبر الأب عماد الأسرة ومركزها، الداعم المالي والمعنوي لها، أما الأم فهي الحاضن المعنوي والانساني للاسرة، علاقة التراتبية مهمة من الاكبر للاصغر في الأسرة السورية ، الاحترام والطاعة وتلبية المطالب…الخ.
كان تحرك الشباب السوري في بداية الثورة السورية آذار ٢٠١١م بداية تخلخل في سلسلة الانضباط العائلي التقليدية، الاهل جميعهم يعون بنسب متفاوتة حجم قمع وبطش السلطة الاستبدادية في بلدهم، كلهم يلتزمون خوفا بقواعد عدم البوح بحقيقة موقفهم مما يحدث في بلدهم، وخاصة عدم نقد النظام وأفعاله الداخلية والخارجية علنا ابدا، الكل لديه معلومات عن من حاول أن يعارض وماذا كان مصيره من اعتقال وسجن وقتل احيانا. الاهل ربوا أولادهم على نظرية الصمت والتقية والنفاق ان اضطّر الامر، لكن بداية حراك الربيع السوري قلبت الموازين الداخلية للاسرة السورية، الشباب والصبايا كانوا الاغلب ممن تحرك بالمظاهرات والاعتصامات وصناعة الحراك بكل أبعاده، الأهل واجهوا أولادهم بحزم واستعطاف وترجّي، الأولاد لم يستجيبوا لطلب الأهل، بل تحايلوا عليه، ثم بدأت حملة الاعتقالات وبداية سقوط الشهداء، كان ذلك مقدمة تغير نوعي في موقف الأهل من حراك ابنائهم، البعض انخرط بالحراك مع الأبناء، البعض آثر الانتظار مع العجز عن منع الأولاد من الحراك، البعض بدأ يفكر بالهروب بعائلته من المناطق الساخنة الى مناطق هادئة، لكن سورية كلها اصبحت ساخنة والحراك شملها، بعض الأهل استسلم للأمر الواقع والبعض آثر الهروب بأسرته خارج سورية وكانوا في البداية قلائل. حراك الثورة ازداد والنظام الاستبدادي المجرم واجه الحراك الثوري بالقوة المسلحة شملت المناطق المتحركة عموما ضربا وتدميرا وقتلا عشوائيا، استعمل جميع انواع الاسلحة.
في هذه المرحلة أصبحت الأسرة السورية كلها معرضة الى أسوأ ظروف الحياة، بعض الأسر استشهد اولادهم في التظاهر أو تحت التعذيب، والبعض اعتقل والبعض تحول للعمل المسلح، الكثير تدمرت بيوتهم، وفقدوا مصدر رزقهم.
أصبحت حياة السوريين كلها مرتبطة بالصراع بين الثوار والنظام، وانعكس هذا الصراع على حياة الكل. اعتمد النظام استراتيجية سحق الثورة والثوار و حاضنتهم الاجتماعية، البيوت دمرت والأحياء هجر أهلها، الناس أشلاء تحت المباني، الأسر لا تعرف اين تهرب، اغلب العوائل فقدوا المعيل او ابن او ابنة والكل حمل ما يستطيع حمله وانتقل إلى أي مكان آمن داخل سورية او في دول الجوار العراق والأردن ولبنان وتركيا او على الحدود بين سورية وتلك الدول، حيث لم تعد تتقبل تلك الدول ملايين النازحين السوريين الذين شكلوا بالنسبة لهذه الدول عبئ اجتماعي وسياسي احيانا. الأسر تشردت وعاش الكثير في المخيمات، حيث خيام لا تمتلك القليل من الظروف الانسانية، الأطفال عانوا من الأزمات النفسية، هذا عدا عن ان اغلبهم لم يعد يتابع تعليمه المدرسي بما يعني من كارثة على مستقبله. لقمة العيش أصبحت صعبة المنال، فقدان المعيل الاب او الام جعل حياتهم مقترنة بالمأساة دوما. حاولت المنظمات الدولية والإقليمية مع بعض التبرعات الذاتية أن تقدم بعض العون، لكن ذلك كان لا يغطي إلا القليل من حاجة ملايين الأسر الموزعة في بعض الدول أو على حدودها، لقد دخل السوريون في محنة وجود ومستقبل مجهول لم يُعرف ما هو بعد ذلك.
الدول مختلفة فيما بينها داخل سورية وعليها، والضحية الشعب السوري، لا يهمهم ما آل إليه الناس في سورية، وبعض التحليلات تقول ان ما حصل مقصود لجعل الشعب يقبل بالاستبداد مع كل تبعاته، وأن لا يفكر بالحرية والكرامة والعدالة والديمقراطية والحياة الأفضل بعد الآن.
استطاع بعض السوريين -على قلّتهم- أن ينتقلوا الى أوروبا بعد مغامرة البحر والغرق، ومن ثم بداية حياة جديدة في دول تحاول أن تقدم ما يساعد هؤلاء الناس، على اختلاف بين الدول ومدى مساعدتها للاجئين السوريين ومدى قدرتهم على التكيف وامكانية الانطلاق في رحلة الحياة من جديد.
القليل القليل تمكن كأسر أن يحافظ على نفسه ويبدأ رحلة حياة وعمل في دول الجوار السوري تركيا والأردن ولبنان، واغلبهم من التجار وذوي الإمكانات الاقتصادية التي استطاعوا تهريبها للخارج وبداية حياة جديدة.
هؤلاء قلائل لا يعتد بهم في التحليل عن مصير الاسرة السورية والشعب السوري عموما.
لا يفوتنا الحديث عن الاسرة السورية في حاضنة النظام، ولمن بقي داخل سورية من الشعب السوري ولم يستطع أن يهرب لأسباب مختلفة، ذات المأساة حصلت معهم، في كل بيت تقريباً ضحية، والاستدعاءات للجيش والاحتياط اكلت كل الشباب، الأمن والجيش استحوذ على كل شيء، الفاقة الاقتصادية والمعاشية، حياة ساءت عشرة أضعاف عما كانت عليه، واغلب الناس في بلادنا كانوا يعيشون على حد الفقر او دونه.
كل ذلك دلّ على أن الحساب الختامي للصراع بين النظام الاستبدادي المجرم والشعب السوري وثورته كانت كارثيّة على الشعب السوري وسورية عموما، وأن محاولة إعادة تأهيل النظام وإضفاء الشرعية عليه مجددا، تعني اعادة الوضع في سورية الى ما كان عليه سابقا مع تراكم كل كوارث القتل والتشريد والدمار على الشعب السوري الضحية.
هذا الحساب الختامي لما حصل حتى الآن، والعالم كله بقواه المسيطرة يرى ويعلم ويفعل ما يؤدي لذلك ويثبّته…انه عار العالم المجسّد في سورية.
المصدر: الرافد