بعد ثلاثة أسابيع من أول هجوم جوي لها على مرفأ اللاذقية في 7 الشهر الماضي (ديسمبر/ كانون الأول)، هاجمت إسرائيل المرفأ ثانية، بصورة أوسع، نجم عنها، سوى الأضرار المادية الكبيرة، سقوط قتيلين وجريحين. المدينة الغارقة في الظلام استيقظت في الفجر (الساعة الثالثة وثلث) على صوت الانفجارات وعلى الحرائق والدخان والرعب.
ماذا تستهدف إسرائيل في مرفأ اللاذقية؟ يقول مسؤولو النظام السوري إنها استهدفت زيوتاً وقطع غيار آليات. إذا صح هذا، يصعب فهم الضربة خارج ما يستقر عليه سوريون كثيرون يحمّلون روسيا مسؤولية ما يجري، ويضعون الهجمات المتكرّرة على مرفأ اللاذقية في إطار رسالة روسية تقول بضرورة أن تستلم روسيا المرفأ كي تحميه، كما استملت مرفأ طرطوس وحمته، وهكذا تضع روسيا يدها تماماً على المنافذ البحرية لسورية، أو أن الرسالة تريد تهميش مرفأ اللاذقية لصالح مرفأ طرطوس “الروسي” الذي لا تجرؤ إسرائيل على قصفه. على هذا، يتعاون “الصديق” مع “العدو” على استباحة سورية.
أما إذا كان كلام مسؤولي النظام السوري كاذباً، وأن في الحاويات المستهدفة أسلحة أو مواد حربية إيرانية يراد خزنها أو شحنها إلى مكان ما، فإن السكوت الروسي يأتي في سياق تحجيم الدور الإيراني المنافس في سورية، أو في السعي إلى مزيد من تطويعه وضبطه في الخط الروسي. في هذه الحالة، يتجلى الاستهتار والإجرام الإيراني عاريين، فإيران لا تمتلك القدرة على حماية “بضاعتها” من الهجمات الجوية الإسرائيلية، ولا تملك القدرة على صيانة حركتها من الخروق الاستخباراتية الإسرائيلية، فقد استطاعت هذه أن تخترق طهران نفسها، وفي أكثر مناطقها حساسية، نقصد الصناعة النووية، ومع ذلك، تضع إيران حياة الأهالي، وما تبقى لهم من أمان ومن موارد، تحت الخطر الذي غالباً أو دائماً ما يقع، على خلفية عجز وتبعية طغمة الحكم التي بات ولاؤها موزّعاً بين ايران وروسيا، تاركة سورية فريسة يتيمة.
ولكن من غير المستبعد أن تكون الصواريخ الإسرائيلية التي ضربت المرفأ هي الذراع التي تتحرّك لتنفيذ إرادة، ليست فقط أميركية، غرضها ردع نظام الأسد عن استخدام المرفأ لشحن مزيد من حبوب “الكبتاغون” إلى شتى جهات العالم، بكثافة وكميات غير مسبوقة، كما كشفت أخيرا صحيفة نيويورك تايمز، في 5 ديسمبر/ كانون الأول، أي قبل يومين من الضربة الإسرائيلية الأولى للمرفأ (بوصفه أداة جريمة)، بعد أن بقي طوال السنوات الماضية في منأى عن القصف الإسرائيلي الذي طاول كل مكان من سورية.
في هذه الحالة، فإن تحوّل طغمة الأسد إلى كارتل مخدّرات، وتحويل الدولة السورية إلى دولة مخدّرات (narco state)، وهو تطور طبيعي لهذا النمط من الدول، أو كما كتب بذكاء أحد المعلقين: “دولة الكبتاغون هي أعلى مراحل دولة الأسد”، نقول إن هذا التحوّل أعطى إسرائيل فرصة أن تأخذ دوراً “أخلاقياً” أمام العالم، وأن تكون ذراعاً أممياً يقمع تجارة مخدّرات تقوم بها طغمة تستخدم مقدّرات الدولة التي تسيطر عليها. تماماً كما وفرت الطغمة نفسها لإسرائيل أن تقوم بدور “أخلاقي” أمام العالم وأمام الشعب السوري بأن تُنجد سوريين هاربين من آلة القتل الأسدية، وتوفر لهم ملاذاً وغذاء وعلاجاً.
في هذه الحالات، أو الاحتمالات كلها، تبدو الأطراف الثلاثة الفاعلة في مناطق سيطرة النظام من سورية (روسيا، إيران، طغمة الأسد) شريكة لإسرائيل في غاراتها المتكرّرة على هذه المناطق، وفي استباحتها السهلة لها من دون أي تبعات. حتى التهديد الفارغ بالرد في الزمان والمكان المناسبين لم يعد يُسمع. وكان وزير خارجية نظام الأسد قد ابتكر، قبل ساعات من العدوان الإسرائيلي الأول على مرفأ اللاذقية، صيغةً تقول إن النظام بات الآن يرد على الغارات الإسرائيلية يومياً، من دون أن يحدّد شكل الرد، بانقطاع الكهرباء والخبز والوقود، أم بمزيد من التشبيح والفساد، أم بفرض ضرائب على الكلاب؟
يمكن وصف تكوين النظام السوري وأشباهه على أنه مقلوب إسرائيل، فهذه عدوانية على محيطها وتصالحية مع الداخل الإسرائيلي، فيما ذاك عدواني على الداخل وتصالحي أو انهزامي مع محيطه. لا غرابة، والحال هذا، أن تكون استجابة النظام على العدوان الإسرائيلي المتكرّر عليه عدواناً “يومياً” على الداخل السوري، بحسب تصريح الوزير.
كل طرف خارجي مهتم أخذ حصة من سورية، وبات الوضع السوري الحالي مكسباً لهذه الأطراف التي صار الصراع فيما بينها يقوم على زيادة الحصة أو مقايضتها. ليس لدى الأطراف، والحال هذا، دافع إلى إيجاد حل قد يعني لكل الأطراف، أو لبعضها، خسارة جزئية أو كلية، يستحسن تفاديها أو المماطلة فيها بالقدر الممكن. هذه فكرة سبق أن أشار إليها ميشيل كيلو قبل رحيله بأشهر.
ما تأخذه هذه الأطراف مجتمعة، يخسره الشعب السوري. وعلى اعتبار أن هذا الشعب بات مشتتاً في وجوده المادي وفي تمثيله السياسي وفي ولاءاته وتطلعاته، فإن قدرته باتت ضعيفة على استعادة ما خسر، سيما أن الدولة التي يفترض أنها تعبّر عن إرادته تخلت عن عموميتها وتحوّلت إلى مجرّد طرفٍ محاصص، واحتفاظها بحصّتها يرتبط باحتفاظ الآخرين بحصصهم. من ناحية أخرى، لا تميل قوى الأمر الواقع المسيطرة في سورية، ومن ضمنها نظام الأسد، إلى إعادة توحيد سورية. إذا عاد الخيار لأي من هذه القوى، فإنها تختار سيطرةً منفردةً فوق أرض أقل، على سيطرة مشتركة فوق أرض أوسع.
قليلة البلدان التي تحوّلت نخبها المسيطرة إلى شركاء للأجانب في صلب البلد وتقطيع أوصاله ونهبه، كما هو حال سورية اليوم. قليلة الشعوب التي تقطّعت بها السبل وتاهت في دروب سياسية عمياء وخاوية، كما حال الشعب السوري اليوم.
المصدر: العربي الجديد