مع انطلاق ثورات الربيع العربي طفى في الفضاء الاجتماعي والسياسي حوارات غير معتادة في الوسط، تتعلق بماهية المواطنة والمفاهيم المدنية المرتبطة بأسس التعاقد الاجتماعي الذي ستبنى عليه أحلام دول المنطقة الديمقراطية الحديثة.
وقد تحوّلت هذه الحوارات في الكثير من الأحيان إلى صراعات بينية بين مؤيد ومعارض لمفاهيم تعتقد شريحة أنَّها لا تتناسب مع ثقافة المنطقة والمجتمعات، وفي خضمّ هذه التجاذبات المستمرة حول مفهوم المواطنة ولا سيما في سوريا التي كان لها النصيب الأكبر منها، ناهيك عن اعتبار البعض أنّ المفهوم المطروح غير مناسب، هناك شريحة تحفّظت عليه لأنّه مثالي وغير قابل للتحقيق بسبب الاختلافات والفوارق العقلية والجسدية بين الناس.
في الواقع، هذا النقاش المفتوح لم يكن وليد اللحظة فهو جدلية فلسفية تعود جذورها إلى ما قبل الميلاد، ويمكن تكشّف بذورها من “المدرسة الروايقية” خلال الحقبة اليونانية القديمة التي أطلقت مفهوم المواطنة “الكوسموبوليتية” أي المواطنة العالمية، حيث تعتقد هذه المدرسة في الفكر السياسي بأنّ الناس ينتمون إلى مجتمع واحد ومتشابه وذلك على أسس الأخلاق والمبادئ والقيم الإنسانية المشتركة والاحترام المتبادل للعقائد المختلفة في إطار الانتماء “العالمي”، مما يُسهّل إقامة دولة المواطنة العالمية.
مع ذلك، كان هناك كثر من الفلاسفة اعتبروا هذا الطرح مثالياً للغاية ولا يمكن تحقيقه، قبل عودة جان جاك روسو وتأصيله للمفهوم في كتابه “مشروع السلام الدائم” الذي حاول فيه جعل فكرة المواطنة أكثر قابلية للتحقيق من خلال اعتماد دول العالم نظام دولة موحد “جمهوري” وبناء علاقات ودية من خلال تعزيز التبادل التجاري والإقامات المتبادلة “المؤقتة”.
في هذا الإطار، قدم جان جاك روسو أطروحة واقعية بعض الشيء حيث استفاض في كتابه “أصل التفاوت بين الناس” في الحديث عن حالة التفاوت بين البشر وإمكانية موازنتها بطرق مختلفة عن طريق التعاقد ومفهوم المواطنة وما سمّاه “الإرادة العامة” والتي تتمثل في التعليم، وهذا ما نقضه غوستاف لوبون فلم يرَ أنّ التعليم قادر على رفع مستوى الوعي لدى الجماعات/ الأفراد، بالتالي من الصعب أن يكون هناك مجتمعات جماعيّة متساوية من حيث القدرات والإمكانيّة الجسديّة والعقليّة إلّا في حالات طارئة، وهي “الحاجة” لذلك وهذا قد يعيق القدرة على الوصول إلى الدولة المدنية المنشودة سواء كانت محلية أو عالمية.
الحاجة التي ينطلق منها لوبون ربما تكون مدخلاً لتجسيد المواطنة في دول ما بعد الربيع العربي، وإن كان يصعب ذلك نظرياً وهذا ما كان يعتقده أنصار محاكم التفتيش والملكية الثيوقراطية المطلقة في عصر التنوير في أوروبا قبل معاهدة “وستفاليا” التي وضعت حجر الأساس الأول لدول المواطنة، والتي نرى نتائجها في دول العالم الأول بعدما تحولت منتصف عشرينات القرن المنصرم لدول إقليمية متجاوزة المواطنة المحلية؛ كالاتحاد الأوروبي على سبيل المثال رغم التناقضات الفكرية والدينية والقومية الكبيرة في أوروبا.
إنَّ محاولة الانسياق مع تطور نموذج المواطنة بشقّيه في مناطق مختلفة من العالم دفع الوطن العربي لتطبيق نماذج مشابهة عندما تم إنشاء “الجامعة العربية”، ومن ثم “مجلس التعاون الخليجي”، إلّا أن هذه المشاريع لم تحقق النجاح المطلوب وذلك يعود لتغيب/ القفز على ما يسمى “المواطنة المحلية التشاركية”، فمن الصعب أن يكون هناك مشاريع تتجاوز حدود المواطنة المحلية للإقليمية دون أن يكون هناك تعاقد محلي يؤسس على بنية متينة تكون فيه المواطنة الجامعة أساساً تعاقدياً، وهذا ما عوّلت عليه ديكتاتوريات المنطقة “مواطنة قومية” على أساس العرق دون أن يكون هناك حاجة للديمقراطية، وهذا بطبيعة الحال صعب تحقيقه، وحتى من الصعب أن يتحقق في إطار دولة ذات سيادة ما لم يكن هناك مشاركة من قبل المركز للأطراف بصلاحيات سياسية واجتماعية واقتصادية وقانونية، أي “مشاركة السلطة” على أساس المواطنة وليس المحاصصة.
في الحقيقة، إنَّ أول ما يجب التركيز عليه عند الخلاص من ديكتاتوريات المنطقة تحديد ماهية الهوية الوطنية وخاصةً في سوريا، ومبادءَها الأساسية دون أن يكون هناك انحياز استباقي – بالرغم من وجود بعض من طرح تلك المبادئ إلا أنَّها ما زالت خلافيّة- بالتالي من المفترض أن يأخذ أيّ طرح في هذا السياق اعتبارات للمقومات المشتركة بين طوائف وقوميات المجتمع السوري، والتغيرات الفكرية التي طرأت على المواطن السوري خلال سنوات الثورة المستمرة، والابتعاد عن الجدليّة لأن الشعب السوري بحاجة لهذا التعاقد، أو سيكون من الصعب بناء دولة المواطنة التي يراها كثر “دول الحلم” وهذا الحلم لا يجب أن يبقى مثاليّاً لأنّ الشعب السوري بحاجته.
ومما لا شك فيه عند نهوض سوريا سيكون هناك فرصة كبيرة “عدوى الديمقراطية والمواطنة” لدول الجوار بتجاوز واقع الأنظمة الشموليّة المترسخة، وهذا سيؤدي إما لسقوطها أو إجبارها على إصلاحات سياسية وهذا ما تقوم به بعض دول المنطقة خوفاً من أي تغيير قادم ومفاجئ.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا