في سورية الصراع الأمني أولاً

راتب شعبو

على مدى عقود، كان تاريخ المعارضة السورية تاريخ فشل متكرّر على خلفية خراب بيوت ومصائب ونكبات طاولت معارضين وعائلات ومدناً ثم بلداً كاملاً، من دون أن يفضي هذا التاريخ من المواجهة إلى تحسينٍ في العلاقة بين السلطة والمحكومين ورفع ثقل السلطة، ولو بحدود ضيقة، عن صدور هؤلاء. على العكس، وراء كل جولة مواجهةٍ كانت السلطة تتمدّد أكثر على حساب المجتمع، وتحتل المزيد من هوامش حريته. في سورية الثمانينيات، زادت وطأة سلطة الأسد عنها في السبعينيات، عقب الهزيمة الدموية للحركة الشعبية ذات الطابع الإسلامي الغالب التي واجهت سيطرة سلطة الأسد الأب وتحدّته. ويمكن ملاحظة الأمر نفسه في ما يتعلق بوطأة سلطة الوريث في العقد الأول من القرن الحالي، قياساً عليها عقب اندلاع الثورة السورية التي انتهت إلى حُطام ثورة قبل أن تتمكّن من تحطيم النظام الذي زاد من وسائل سيطرته على محكوميه المنهكين، والذي يرهن اليوم، بعد أن دمّر البلاد حرفياً ومجازياً، مستقبل سورية بمستقبل إعادة تأهيله.

في كل جولة مواجهة مع السلطة، يتراجع المجتمع أكثر أمام السلطة الحاكمة، ويبدو كأن المجتمع يدفع الضريبة مرّتين، مرّة بسبب المواجهة التي أبداها وما يترتب عليها من قمع وبطش مباشريْن، ومرّة بفعل ارتداد السلطة التالي على المجتمع المهزوم بغرض تحصين نفسها بمزيد من التضييق والرقابة وسد المنافذ في وجه إمكانات مواجهة تالية. وقد دخل السوريون في هذه التجربة مرّتين، مرة في نهاية السبعينيات وانتهت بمجزرة حماه في الشهر الثاني من عام 1982، والثانية مع الثورة السورية التي بدأت في مطلع عام 2011، ولا تزال مفاعيلها مستمرة.

على الرغم من الفاصل الزمني بين المرّتين، ومن أن هذا الفاصل قد شهد تطوراً مذهلاً في وسائل التواصل والنشر، وشهد انهيار ما كانت تعرف باسم “المنظومة الاشتراكية” التي كانت تحتضن نظام الأسد، وما نتج عن هذا التغير العالمي الكبير من تراجع الأيديولوجيا الاشتراكية وتقدّم المطلب الديمقراطي في العالم، وزيادة الوعي به، وتحوّل معظم الدول الأعضاء في المنظومة السابقة إلى الديمقراطية، نقول، على الرغم من ذلك كله، فإن التجربتين، مع الأسد الأب ووريثه، تتشابهان في الخط العام وفي النتائج. في الحالتين، يسقط الاحتجاج ولا يسقط النظام، تضيق هوامش الحرية وتزداد سيطرة الدولة على المجال العام عقب محاولة التغيير.

إذا افترضنا أن مشكلتنا في التجربة الأولى (1979 – 1982) كانت في الأحزاب الأيديولوجية التي شغلت ساحة المعارضة السورية خلال العقود التي كان يتكرّس فيها على نحو متزايد استعمار الدولة على يد طغمة أسدية، وتحويل سورية إلى “سورية الأسد”، فما هي مشكلتنا في التجربة الثانية التي كانت صيحتُها الأعلى رفض الأيديولوجيات؟

من نافل القول إنه لا توجد سياسة بدون أيديولوجيا. ببساطة، لأن البشر ليسوا قطعاً مادية صمّاء تتحرّك وفق قوانين فيزيائية، فلكي تسوس البشر تحتاج إلى تقديم “مبرّر” ما لما تفعله، وليست الأيديولوجيا السياسية سوى صناعة هذا المبرّر، حتى لو كان بسيطاً مثل “مكافحة الإرهاب” أو ضرورة طاعة أولي الأمر، من جهة السلطات، أو الحرية أو تحكيم الشريعة، من جهة المعارضات. ولكن قد تفهم الأيديولوجيا أنها نسقٌ كلي من الأفكار التي يجري فرضها على الواقع، فهي تنتهي، والحال هذا، إلى إعطاء الفكر أولويةً على الواقع، وإلى أنها لا تتسع لقبول نسق فكري آخر. بهذا المعنى، تكون الأيديولوجيا مرفوضة بحق.

ليست الغاية هنا مناقشة مفهوم الأيديولوجيا نفسه، ولا نقد فكرة “نهاية الأيديولوجيا” التي دافع عنها دانييل بيل منذ 1961، في كتاب يحمل هذا العنوان. بل تسعى السطور التالية إلى نقد قول دارج ينسب فشلنا العام إلى سيطرة الأيديولوجيات، ذلك أن هذا القول يقفز فوق السؤال: أي قيمة للأيديولوجيا في ظل نظامٍ يحيل كل صراعٍ في المجتمع إلى صراع أمني؟ لنسأل: هل كان يمكن لمعارضة أخرى “غير أيديولوجية” أن تنجح في تغيير نظام الأسد الأب، أو على الأقل في عرقلة مسعاه إلى تطويب البلد باسم عائلته؟ هل كانت المشكلة فعلا في الأحزاب الأيديولوجية؟ أو في انفصال التيارات السياسية المعارضة عن الواقع، وعدم تطابقها مع الإطار الوطني؟ وما هو تفسير غياب الأحزاب أو القوى “غير الأيديولوجية” في تلك المرحلة؟ وما قيمة الأيديولوجيا أو غيرها حين يكون أي قولٍ ناقد، حتى لو كان قصيدة، تحت مرمى العنف المباشر؟

فشل الأحزاب التي عارضت سلطة الأسد الأب يصعب رده إلى أيديولوجياتها، بل إلى تصفيتها المادية بسبب مواقفها السياسية غير الموالية. لم يُسجن الشيوعيون مثلاً لأنهم يؤمنون بأيديولوجيا شيوعية أو ينشرونها، بل لأنهم معارضون. والحال نفسه ينسحب على الإسلاميين (الإخوان المسلمون) وعلى القوميين (23 شباط، بعث العراق). في المقابل، استوعب نظام الأسد، بكل قبول، أحزاباً تحمل أيديولوجيات مغايرة لأيديولوجيا البعث (إسلامية، وقومية، وشيوعية) لأنها كانت موالية. لم يُسجن ويُعدم الإخوان المسلمون لأنهم لا يؤمنون بالقومية العربية، أو لأنهم إسلاميون، بل لأنهم غير موالين. ولا يترتب على هذا الخيار السياسي المعارض مواجهة سياسية مع السلطة، بل مواجهة أمنية.

الضعف الأمني لهذه الأحزاب، وليس شمولية أيديولوجياتها أو اغترابها عن الواقع أو أي شيء آخر، هو ما جعلها ضحيةً سهلةً لأجهزة أمن كلية القدرة، تمتلك كل القدرات التي توفرها الدولة، ومنفلتة في الوقت نفسه من أي قيودٍ قانونيةٍ أو سياسية. هذه الأجهزة لا تصنف الأحزاب والقوى والأفراد بمعيار أيديولوجي، بل بمعيار الولاء والتبعية. على هذا، يُفرض على القوى السياسية خوض صراع أمني لا قدرة لها عليه، وهو صراعٌ يحيل الصراع الأيديولوجي، وحتى السياسي، إلى ملحقٍ ضامر. لا يهم لماذا تعارض أو على أي خلفية فكرية أو وفق أي سبل، المهم أنك تعارض، هذه هي الرائحة التي تحرّك الغريزة الأمنية لافتراسك.

الآلية التي كوفحت المعارضة السياسية بها طوال زمن الأسد الأب هي نفسها التي اشتغلت في مرحلة الثورة على الوريث، مضافاً إليها “تطويرات” فرضتها شدّة المواجهة وتعقيدها. حين يسيطر العنف على المجال السياسي، يصبح الكلام عن صراع أيديولوجي أو حتى عن صراع سياسي، ضعيف المعنى.

 

المصدر: العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى