حظي مقال الكاتب السوري، مضر الدبس، “بيان تأميم سورية.. محاكاة قرار تاريخي لحل نهائي”، المنشور في “العربي الجديد” (22/11/2021)، باهتمامٍ شبابي وثوري يستحق التوقف عنده، كما أبدت المعارضة الرسمية تجاهلا له يستحق التوقف عنده أيضاً. والمقال هو آخر ما نشره كاتبه في “العربي الجديد” من مقالات بحثت المسألة السورية وطبيعة الحل النهائي، وقدَّمت المفهومات الجديدة التي استند إليها مضر الدبس في التأصيل للحل السياسي، أهمها: إعادة تعريف الصراع السوري من صراعٍ بين نظامٍ ومعارضة، إلى صراعٍ بين ذهنيتين الأولى تنتمي إلى ما قبل 2011، والثانية إلى ما بعد 2011. والمفهوم المهم الثاني “السوري العادي”، والثالث “تأميم السياسة السورية”.
نادراً ما حظيت مقالة في السياسة باهتمام واسع من السوريين هذه الأيام، ويبدو أن مردّ الاهتمام بهذه المقالة بالتحديد القبول العام لما جاء في مضمونها، وتلاقي الرأي العام السوري مع هذا المضمون، حيث أسّس بعضهم غرفَ حوارٍ بشأنها في فضاء الإنترنت، سعياً إلى تحويل ما جاء فيها إلى حقيقة ومسار عمل، أي ترجمة المحتوى إلى خطوات عملية. وعبَّر بعضهم عن رؤيته بأن تحقيق ما جاء في المقالة وتنفيذه يتطابق مع أهداف الثورة السورية التي أراد السوريون من خلالها استعادة وطنهم أو “تأميمه”، كما جاء في المقال الذي سيشار إليه هنا بالبيان، وهو ينطلق من مسلّمتين” تقول الأولى إن الحل في سورية يبدأ من السوري العادي وينتهي إليه، لأنه مالك الوطن والقرار، وهو الطرف الأقوى في السياسة إذا ما قرر العودة إليها. وتفيد الثانية بأن النخب السياسية التي تمثل السوري العادي كارثية غير قادرة على الإنتاج. وبناء على هاتين المسلّمتين، وتكملة لما جاء في مقالات للكاتب، فإن البيان هو خلاصة تنظيرات تقدّم، في النهاية، محاكاة تشبه في روحها بيان استقلال سورية عام 1920، كما ذهب الكاتب نفسُه.
حدّد البيان مبادئ وطنية عمومية، اعتبرها السوريون في منصّات التواصل بوصلةَ عمل، بعد أن تداعى سوريون منشغلون بالشأن العام، ويائسون بطبيعة الحال أمام المآلات الكارثية التي بلغها مسار الثورة السورية، إلى نقاش أفكار البيان، ومحاولة استخراج شيء عملي منه. وجد هؤلاء في هذا العنوان العريض “تأميم سورية” شعاراً يتطابق مع روح الثورة السورية، باعتبارها كانت الفرصة الأبرز التي أتاحت للسوري العادي الانخراط في الشأن العام، والعمل على تحديد مصير بلاده وامتلاك القرار فيها، وذلك قبل أن تطغى لغة الحرب على المشهد الذي دفع فيه السوري العادي وحيداً أثماناً باهظةً. ويستحقّ اليوم أن تدعم تحرّكاته في استعادة قراره، وأن تتعاظم قدرته في التأثير في مسار الأحداث، واستعادة وطنه.
يحيل مصطلح “تأميم” على تجارب مريرة للسوريين مع التأميم في نهاية الخمسينات وبداية الستينات، والتي فرّغت من معناها ودلالاتها الفعلية، بعد أن جُرّد مواطنون من ملكياتهم الخاصة، ليسيطر عليها آخرون تحت عناوين مختلفة، وهذا ما عبّر عنه عددٌ من المتفاعلين مع البيان، إذ توقفوا عند الأثر السلبي المحتمل للمصطلح، لكن للمفارقة فإن محتوى البيان، وبوضوح جلي، يعيدُ إلى المصطلح معناه الحقيقي، وهو مشاركة السوري العادي في إدارة وطنه بعد امتلاك مؤسّساته السياسية، وتقرير مصيره، وتأميم قرار الحرب والسلم، وامتلاك السياسة والسيادة. وإعادة هذا المصطلح إلى حقيقته بعيداً عن حمولاته التاريخية فعلٌ ثوري حقيقي، لأن المفارقة تكمن في أن رفض صور التأميم الاقتصادي الذي قام به “البعث” لا تمر إلا عبر تأميم السياسة، بل يمكن أن نذهب أبعد من ذلك، لنقول إن خصخصة الاقتصاد غير ممكنة إلا بتأميم السياسة.
يركّز البيان أيضًا على السوري العادي. ولطالما أسر هذا المصطلح كاتب هذه السطور، فمن قام بالثورة السورية منذ أشعلت جذوتها، ومن دفع الأثمان الغالية، ومن ترك أثره الواضح في شعارات الثورة وأخلاقياتها، هو السوري العادي، المواطن الذي لا ينتمي لأي حزب أو تيار أو طائفة أو عرق، والذي شارك في الثورة بوصفه إنساناً عادياً، وباعتباره يشكل جوهر الثورة وضميرها، وفي الحقيقة هو ضمير المجتمع والشعب، وهذا ما عبّرت عنه شعارات الثورة كلها. السوري العادي يحب الحياة والآخر، غير مسلحٍ ببندقيةٍ ولا بأيديولوجيا ولا يستقوي بطائفةٍ أو بقبيلة. ويرى البيان أن السوري العادي هو صاحب الثورة وصاحب السياسة. وبتقديرنا هذه فكرة ضرورية للخروج من مأزق تمثيل الثورة في ميدان السياسة والعكس.
يمكن الاستفاضة أكثر في الحديث عن البيان، لكنه الآن في مرحلةٍ أكثر تقدّماً، حيث يسعى متطوعون استجابوا إلى نداء البيان إلى ترجمته عملياً، كي لا يبقى مجرّد فكرة وحلم صعب المنال، وتتركّز النقاشات حالياً بالفعل. وبحسب ما أتيح لصاحب هذه الكلمات الاطلاع عليه في إحدى المجموعات على خطوات التنفيذ، هناك اتفاقٌ على طرح البيان أكثر على السوريين العاديين للحصول على مصادقتهم. وهذا يبقى رهن النقاشات العميقة التي يمكن أن تثار، إلى أن يحقق الإجماع العمومي المطلوب. وبالطبع، يبقى التنفيذ التحدّي الأكبر. وفي هذا السياق، نترك مجموعة من التساؤلات الضرورية لاستكمال هذا المسار المدهش: كيف سيعمل المشرفون على التنفيذ؟ هل سيتسلل أبناء السلطات الوليدة من رحم المعارضات الكارثة إلى هذا الجسم الوليد؟ هل ستكون هناك مناعة كافية ضد أمراض المعارضة التنظيمية والتصنيفية والسياسية؟ .. إلخ.
هل سيتفادى القائمون على تنفيذ البيان ما حدث من كوارث، وينجحون في انتزاع السياسة من المعارضة والنظام وتسليمها إلى السوريين؟ ومن ثم هل سيتمكّن هذا المسار من الاستحواذ على اعتراف دولي يؤهل هذه الفكرة العمومية الوليدة لتكوين هيئة حكم انتقالي بناء على قرار مجلس الأمن 2254؟ هل تكفي النيات الطيبة، وهي نقطة ضعف السوري العادي، لتحقيق هذا الهدف أم يستلزم المزيد من الشجاعة والمبادرة والتنظيم، وبالطبع الإرادة؟ أسئلة كثيرة وتحدّيات كبيرة بانتظار القائمين على البيان، لا سيما كاتبه وصاحب المبادرة؛ فهل سنرى السوري العادي ممتلكًا قراره يومًا ما في سورية الشعب لا الأسد؟
المصدر: العربي الجديد