تضمن مشروع ميزانية وزارة الدفاع الأميركية لعام 2022، مواداً تنص على تمديد صلاحيات البنتاغون لتقديم الدعم للفصائل السورية المعارضة التي تقاتل تنظيم “داعش.”
كما تضمن المشروع مادة تطلب من وزير الدفاع تقديم تقرير عن وفورات التكلفة المقدرة نتيجة الانسحاب الكامل المحتمل للولايات المتحدة من العراق وسوريا، بعد أفغانستان، مقارنة بالمصاريف التي كلّفها التواجد في هذه المناطق عام 2021، والتكاليف التقديرية لتعويض الانسحاب بزيادة الفاعلية التقنية، حيث يطلب المشرعون تقدير التكلفة المالية لزيادة عدد السفن وتطويرها وتزويدها بمعدات جديدة، وكذلك الطائرات والأسلحة النووية والموظفين الرئيسين والتكاليف التشغيلية الأخرى..
إضافة هذه المواد تشكل تطوراً ومؤشراً آخر على تصاعد التوجه في الأوساط السياسية الأميركية نحو استمرار التواجد العسكري في الشرق الأوسط، على عكس ما كان عليه الحال قبل ستة أشهر، وعلى ما يبدو فإن الانسحاب الأميركي بالشكل الذي ظهر عليه في أفغانستان وارتدادات ما بعد هذا الانسحاب، والتحليلات العسكرية التي اعتبرت أنه خطوة خاطئة، ساعد على تغيير التوجه الذي كان سائداً من قبل والذي يدعم الإنكفاء الأميركي والانسحاب من مناطق النزاع في العالم، بما فيها الشرق الأوسط.
الولايات المتحدة أعلنت استراتيجيتها بوضوح حول سوريا لمكافحة الإرهاب ودعم الاستقرار والحفاظ على مناطق خفض التصعيد واستمرار تدفق المساعدات الإنسانية عبر الحدود، ولكن بالتأكيد وراء هذه العناوين تخفي واشنطن رغبتها الحقيقية وتطلعاتها بعدم إخلاء هذه المنطقة لخصومها الروس والصينين والإيرانيين، بل وحتى لحلفائها الأوربيين بأن يملؤوا الفراغ الذي يمكن أن تخلفه، كما فعلت هي بعد خروجهم منهكين من الحرب العالمية الثانية.
إلا أن الإدارات المتعاقبة على البيت الأبيض خلال السنوات العشر الماضية، لم يكن لديها حتى الآن استراتيجية متبلورة وواضحة حيال القضية السورية والمنطقة، والدليل عل ذلك مطالبة مجلس النواب الأميركي في اجتماعه الأخير الرئيس بايدن بتقديم استراتيجية أميركية تتضمن الدبلوماسية والدفاع عن سوريا، ونص البند على “أنه يجب على الرئيس الأميركي الذي يعمل من خلال وزير الخارجية وبالتنسيق مع وزير الدفاع، أن يقدم للجان الكونغرس المناسبة تقريراً يحتوي على وصف للاستراتيجية الأميركية عن الدفاع والدبلوماسية تجاه سوريا”، وهذا ما يؤكد غياب استراتيجية واضحة بالنسبة لسوريا خلال الفترة السابقة.
وربما يعود سبب غياب هذه الاستراتيجية بأن القضية السورية باتت ملحقة بالملف الإيراني وليست قضية قائمة بحد ذاتها، وهذا ما حذّر منه المبعوث الأميركي الأسبق جيمس جفري عندما قال إن استراتيجية واشنطن ببقاء القضية السورية في الخلف ستزيد من التوغل الروسي الإيراني في سوريا.
سوريا هي امتداد للنفوذ الروسي التقليدي، ورغم وقوعها تحت الهيمنة الروسية-الإيرانية، إلا أن أهميتها الجغرافية والجيوسياسية كبيرة بالنسبة لكل الأطراف، فهي جزء من طريق الحرير كما تطرحه الصين، وعقدة مهمة لنقل الغاز كما تعتبرها دول الغاز. وهذا الموقع الجيو-استراتيجي جعلها نقطة جذب لكل القوى العالمية، وخاصة الولايات المتحدة، فسوريا تقع في منطقة وسط بين مناطق النفوذ الأميركي غرب العراق وجنوب تركيا، والأهم قربها من إسرائيل وايران.
بالإضافة إلى الهدف المعلن بمحاربة الإرهاب المتمثل بتنظيم “داعش”، هناك ثلاثة اهداف لبقاء هذه القوات في سوريا، إحداها سياسي، واثنان عسكريان.
الهدف السياسي يرتبط باقتراب الانتخابات النصفية للكونغرس والخشية من تكرار خطأ إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن بالانسحاب من أفغانستان، وبالتالي خسارة جديدة في الشرق الأوسط لصالح خصومها، ما يعني خسارة مزيد من الأصوات في الكونغرس لصالح الجمهوريين، إضافة الى اعتبار سوريا بقعة استنزاف لروسيا، والبقاء في منطقة الجزيرة السورية (شرق الفرات) يعتبر ورقة هامة تمسكها أميركا لإعاقة فرض روسيا رؤيتها للحل في سوريا على الطريقة البوتينية كما حصل في الشيشان.
بالنسبة الهدف العسكري الأول، فالفكر الاستراتيجي الأميركي، الذي يعتبر روسيا العدو الأول، يعتمد على عدم اخلاء أي منطقة ساخنة في العالم لهذا الخصم، وعدم السماح لموسكو بالتمدد في أي مكان، وبالتالي الانسحاب من سوريا يعني زيادة التوغل الروسي-الإيراني، على حساب الوجود الأميركي في هذه المنطقة، الذي يشكل أيضاً عمقاً استراتيجياً لقواعدهم وقواتهم في غرب العراق وإقليم كردستان.
فيما يرتبط الهدف العسكري الثاني بأن البقاء في هذه المنطقة وربطها بمنطقة التنف المقابلة لها في البادية السورية حيث القاعدة الأميركية والحليف من الجيش الحر المتمثل بمغاوير الثورة، من أجل مراقبة التمدد الإيراني في سوريا، وتبديد حلم الغاز الإيراني الذي تسعى إيران لإيصاله الى شواطئ المتوسط عبر العراق والبادية السورية وصولاً الى بيروت، وقطع الطريق عليها في حال التصعيد العسكري أو حصول أي صدام متوقع إذا ما فشلت مباحثات الملف النووي. وبالتأكيد لا يغيب عن بال المسؤولين الأميركيين أن تركيا قد لا تسمح باستخدام قاعدة أنجرليك الجوية ضد إيران، كما فعلت أثناء الغزو الأميركي للعراق عام 2003، ما يجعل احتمالية تعزيز التواجد والبقاء أكبر.
ما يعزز فكرة التراجع عن الانسحاب أيضاً، هو قلة المخاطر التي يمكن أن تتعرض لها تلك القوات مقارنة بمخاطر انسحابها التي تعتبر أكبر بكثير نتيجة ملء الفراغ من قبل خصومها الروس والإيرانيين، إضافة لذلك فإن كلفة تواجد تلك القوات منخفضة جداً، وأغلب تكاليفها مغطاة من الدول الموجودة فيها كدول الخليج العربي، بالإضافة لصندوق التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب.
ضمن كل هذه المعطيات المنظورة ورغم أن المشهد مركب ومعقد ودائم التحرك، ألا أنه لم يعد لدينا ما يوحي اليوم بانسحاب وشيك للقوات الأميركية من المنطقة وسوريا، خاصة أن إدارة الرئيس بايدن ربما يكون لها رؤية أوضح حيال سوريا والمنطقة خلال الأشهر القادمة، وما يدلل على ذلك تصريحات منسق البيت الأبيض للشرق الأوسط وشمال افريقيا بريت ماكغورك في فعالية استضافها معهد دول الخليج العربي قبل أسابيع، عندما أكد لأن القوات الأميركية ستبقى في سوريا لأن داعش لا يزال قادراً على إعادة تجميع صفوفه وتنفيذ هجمات. وأضاف أن إدارة بايدن أجرت مراجعة للسياسة الأميركية في سوريا بقيادة باربرا ليف، المديرة الأولى للبيت الأبيض لشون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وحذر ماكغورك الإدارة الأميركية من أن شبكات داعش والقاعدة لا تزال على الأرض ويمكنها إعادة تشكيل نفسها.
المصدر: المدن