يناقش طارق متري، في مقابلة معه، المرحلة الانتقالية الشاقة التي تشهدها البلاد منذ سقوط القذافي. طارق متري هو رئيس جامعة القديس جاورجيوس في بيروت. تبوّأ مناصب وزارية عدة قبل أن يعيّنه الأمين العام السابق للأمم المتحدة بان كي مون ممثّلًا خاصًّا له في ليبيا بين العامَين 2012 و2014. مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية الليبية المزمَعة في 24 ديسمبر/كانون الأول، والتي ستتبعها جولة ثانية في 24 كانون الثاني/يناير 2022، أجرت “ديوان” مقابلة مع متري في أوائل كانون الأول/ديسمبر حول قراءته للتطورات التي تشهدها ليبيا، وما تحتاجه حتى تنعم بالاستقرار.
مايكل يونغ: طوال العقد الأخير، شهدت ليبيا مرحلة انتقالية محفوفة بالمخاطر في أعقاب سقوط القذافي، ويبدو أنها لا تزال مستمرة حتى اليوم. ما أبرز الخلاصات التي تستقيها من العقد الماضي بصفتك ممثّلًا لأمين عام الأمم المتحدة في ليبيا سابقًا؟
طارق متري: أثبتت التجارب في مختلف أرجاء المنطقة، وفي ليبيا خصوصًا، أن مسار الانتقال من أنظمة سلطوية إلى أنظمة ديمقراطية أصعب بكثير مما كان متوقعًا. واقع الحال أن العملية السياسية التي أعقبت النزاع الليبي لم تفلح في إرساء السلام أو تحقيق المصالحة أو بناء الدولة انطلاقًا من المؤسسات الأمنية والقضائية. وقد أماط سقوط القذافي اللثام عن مخاطر تفكّك البلاد، لا بل فاقمها. أما المجتمع الدولي – وتحديدًا الدول التي تدخّلت عسكريًا في ليبيا في العام 2011، ومجلس الأمن التابع للأمم المتحدة الذي أضفى شرعية على هذا التدخل – فلم ينجح في درء مخاطر التشرذم، ولم يقدّم دعمًا كبيرًا لإعادة الوحدة إلى ليبيا وبناء مؤسساتها بعد تنحية القذافي.
يونغ: إذا قلبنا السؤال السابق، ماذا كشف سقوط نظام القذافي عن التدخل الغربي للإطاحة ببعض حكّام منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا؟
متري: في الواقع، إن الدور الذي يؤدّيه الغرب في إسقاط أنظمة سلطوية في العالم العربي مبالغٌ فيه في الكثير من الأحيان. لقد شكّلت الحالة الليبية استثناءً، وهي لم ولن تتكرّر. صحيحٌ أن الحملة الغربية ارتكزت في تدخّلها على مسؤولية المجتمع الدولي بحماية السكان المدنيين، بيد أنها انطلقت أيضًا من دوافع أخرى. ومع أن تغيير النظام كان لا مفرّ منه، إلا أنه لم يُستتبع بإرساء الاستقرار في البلاد. فما لبث النظام أن سقط وأُلحقت الهزيمة بالقوات العسكرية التابعة له، حتى سارعت القوى الدولية التي تدخّلت في ليبيا بالخروج من البلاد، مخلّفةً وراءها خرابًا وفوضى. ولم يقوّض تملّص هذه القوى عن تحمّل كامل مسؤولية أفعالها شرعيةَ التدخل العسكري فحسب، بل أيضًا المبدأ القائل بـ”مسؤولية الحماية”.
يونغ: شهدنا سلسلةً من الانتكاسات في مختلف أنحاء العالم العربي منذ العام 2011، إذ نجحت أنظمة سلطوية في إعادة فرض نفسها في دول كانت أطاحت بحكّامها الدكتاتوريين، كما في مصر وتونس والسودان. وفي ليبيا، عاد سيف الإسلام القذافي مجدّدًا إلى قائمة المرشّحين لخوض الانتخابات الرئاسية في البلاد. ما دلالات ذلك برأيك؟
متري: صحيحٌ أن الديمقراطية لم تسُد في الدول العربية، حتى في الحالات التي بدا فيها التغيير نهائيًا، أو أقلّه كان كذلك. لكن الصحيح أيضًا أن العودة إلى الحكم السلطوي الذي كان سائدًا قبل الانتفاضات أمرٌ مستحيل (باستثناء حالة مصر كما قد يؤكّد البعض). فالتحولات التي أفرزتها الانتفاضات العربية لا مفرّ منها، حتى لو لم تكن جذرية بما يكفي لإطلاق عمليات انتقال ديمقراطي ناجحة. من هذا المنطلق، تبدو العودة إلى النظام القديم في ليبيا، أو إلى نسخة “متجدّدة” منه، مستبعدة للغاية. ومع أن كثرًا في ليبيا ودول أخرى يحنّون إلى زمن الاستقرار، وإن كان ذلك في ظل نظام قمعي، لن يُترجم هذا الحنين بالضرورة على الصعيد السياسي أو في صناديق الاقتراع، وما من مؤشرات واضحة على أن أصحاب هذا الموقف يشكّلون غالبية.
يونغ: ليبيا اليوم ساحةٌ للتجاذبات الإقليمية، إذ يدعم كلٌّ من تركيا وقطر حكومة طرابلس، فيما تدعم مصر والإمارات، وإلى حدّ ما روسيا وفرنسا، المشير خليفة حفتر. ويبدو أن تركيا تحاول تطبيع العلاقات مع الإمارات ومصر، وإن بحذر. ما هو برأيك تأثير هذه الديناميكيات على الوضع الليبي؟
متري: بُعيد التدخل العسكري في العام 2011، باتت ليبيا ساحة معركة خاضت فيها الميليشيات (والكثير منها عبارة عن كتائب الثوّار التي نصّبت نفسها بنفسها) حروبها الصغيرة، وحروبًا بالوكالة نيابةً عن قوى إقليمية، وحتى عن قوى دولية في بعض الحالات. تُعتبر روسيا وتركيا لاعبَين جديدَين نسبيًا في ليبيا، على الرغم من انخراطهما العسكري غير المسبوق هناك: الأولى من خلال إرسال مرتزقة تابعين إلى مجموعة فاغنر، والثانية من خلال مجموعات مسلحة بطلب من الحكومة في طرابلس.
طالب المجتمع الدولي المقاتلين الأجانب كافة، بمن فيهم المرتزقة الذين جنّدهم حفتر من السودان وتشاد ودول أفريقية أخرى، بالانسحاب من ليبيا، لكن لم تُمارَس حتى اليوم ضغوطٌ كافية لضمان حدوث ذلك. لذا، يأمل الكثير من الليبيين أن تكون القيادة السياسية الجديدة التي قد تفرزها الانتخابات المُقبلة في وضع أفضل يخوّلها حشد الدعم الدولي اللازم من أجل تحقيق انسحاب القوات الأجنبية. في هذا السياق، وقد تقرّر تركيا على ضوء مساعيها الحديثة في المنطقة، حصر نفوذها في ليبيا على المجالَين السياسي والاقتصادي.
يونغ: هل من المرجَّح أن نرى ليبيا موحّدة من جديد، وما المطلوب لتحقيق ذلك؟
متري: عبّر معظم الليبيين مرارًا عن رغبتهم في رؤية بلادهم أكثر وحدةً مما هي عليه راهنًا. ثمة أقليات، وبخاصة في برقة، فضّلت خيار الفدرالية في البلاد. لكن هذه القوى التي تسعى إلى الابتعاد عن الدولة المركزية تنشط أيضًا في جميع أنحاء البلاد، وليس في شرقها فحسب، فيما يجري ترسيخ الهويات المحلية ما دون الوطنية بشكل متزايد. من نافلة القول إن هذه العوامل تؤثّر على التنافسات السياسية، وقد يفاقم السباق الانتخابي المُقبل هذا الوضع. لذا، ثمة أسباب كثيرة تدعونا إلى القلق من أن تؤدي الانتخابات إلى توسيع هوة الانقسامات في البلاد، كما حدث في العام 2014. فطالما أن ليبيا لا تزال مجرّدة من قطاع أمني محايد سياسيًا ومن قضاء مستقل، لن تحرز الانتخابات بالضرورة أي تقدّم في مسار العملية الانتقالية نحو دولة ديمقراطية وموحّدة.
وفي ظل غياب الثقافة الديمقراطية، لن يؤدي نهج الغالب والمغلوب سوى إلى تعميق الانقسامات وزيادة الإقصاء المجتمعي. إذًا، ليبيا بحاجة إلى إطلاق عملية سياسية جامعة تهدف إلى بناء دولة موحّدة وفاعلة. والانتخابات ليست بديلًا لمحاولة التوصل إلى توافق وطني حول القضايا الكبرى التي يختلف حولها الليبيون منذ العام 2011، والتي أحدثت انقسامات داخل مؤسسات الدولة كافة.
المصدر: مركز مالكولم كير- كارنيغي للشرق الأوسط