ليس بالفتوى وحدها يحيا الإنسان

علي العبدالله

منح قرار النظام السوري إلغاء منصب مفتي عام للدولة السورية المجلس الإسلامي السوري المعارض فرصة اختيار مفتٍ منه ممثّلا بشخص رئيسه، الشيخ أسامة الرفاعي، علما أن اختيار مفتٍ من المعارضة لا يشكل حلاً لإلغاء منصب المفتي، حيث سينظر إلى العملية في ضوء الصراع على السلطة واغتنام الفرصة لتسجيل نقاط في هذا السياق.

لا يشكّل ملء الفراغ بانتخاب مفت فرقاً جوهرياً بالنسبة للشعب السوري وصراعه مع الفساد والاستبداد، طالما بقي العقل الفقهي السائد في عالم المشيخة السورية والمؤسس على حفظ النصوص الدينية، قرآنا وحديثاً، والمرويات التاريخية وتكرارها في مواجهة مشكلات العصر وقضاياه بتعقيدها الكبير، بتحوّلاتها وتطوراتها المتسارعة والعاصفة، قائما من دون مساءلة وتطوير وتغيير، فالحفظ والنقل ليسا أداتين مناسبتين لمواجهة قضايا العصر الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والعلمية والتقنية والقيمية، عدا عن أنهما يتعارضان مع توجيه القرآن الكريم بإعمال العقل والنظر في الكون والمجتمعات والتفكّر فيها واكتشاف بناها وأنساقها والسنن والنواميس التي تحكمها من أجل تعاملٍ مجدٍ معها وتوظيفها في إعمار الكون، الذي هو غاية وجود الإنسان، بالنمو والازدهار ونشر العدل والمساواة بين البشر، وفي حل المشكلات التي تواجهه. الجوهري في اللحظة الراهنة ليس الشكل، بل المضمون ومناهج البحث والعمل، وهو ما تفتقر إليه المشيخة السورية. ولنا في سلوك المفتي الجديد وأقواله مثالٌ صارخ على ما نقول؛ فقد تجاهل وضع اللاجئين، وغاب عن برنامج زيارته “الميمونة” إلى ريف محافظة حلب، وقد صوّرها مريدوه فتحا كبيرا، زيارتهم في مخيماتهم والتعاطف مع مأساتهم ومعاناتهم والتخفيف عنهم بمشاركتهم بالبقاء بينهم ولو ليوم واحد.

وهذا خير برهانٍ على السلوك النخبوي والطابع الوعظي الذي يعتمده مشايخ المجلس الموقر، فهم خير من يبحر في أحاديث مطوّلة مليئة بروايات عن مواقف السلف الصالح وأخلاقه من دون التفاتٍ إلى الزمن وما جرى خلال القرون الماضية من مآسٍ وكوارث والأوضاع البائسة التي ورثناها، والتي نعيش تحت وطأتها. وقد كشف فحوى كلمته خلال الزيارة عن مدى تهافته، فقد ضخّم من قيمة عملية الانتخاب، وجعلها قرينة للفاعلية والإنجاز. قال: “المفتي حينما يكون منتخباً من العلماء يبذل كل جهده لحفظ البلد من العبث في الدين والأحكام الشرعية ومن امتطاء هذه الأحكام من الحكّام”. وعن الاهتمام بقضية المعتقلين والمفقودين والمهجّرين، قال: “لا يكفي أن نتحسّر على وضع حال المعتقلين والمفقودين والمهجّرين، إنما لا بد من عمل ما يمكن لإنقاذهم، فهم ليسوا غرباء، وهو واجبٌ وليس تبرّعاً، وعلى القوي أن يأخذ بيد الضعيف، والغني يأخذ بيد الفقير”. وعن أهمية توحّد فصائل المعارضة، قال: “ما لم تتحّد صفوف الفصائل فلا نحلم بالنصر”. فالعلاقة بين عمل المفتي وطريقة اختياره بالانتخاب ليست سببية ولا آلية، فالعمدة في عمل المفتي شخص المفتي نفسه، وقدراته النظرية والعملية وبوصلته وبرنامجه وتأثيره على الرأي العام واستقطابه له وحالة المجتمع لجهة الحساسية القيمية والأخلاقية والاهتمام بالشأن العام، علما أن الانتخاب ليس تقليدا في اختيار المفتين منذ استحدثت هذه الوظيفة، وقد مرّ على البلاد الإسلامية مفتون مجتهدون وأحرار خدموا الدين والوطن، وقد عينهم السلاطين والحكام في المنصب، كما أن قدرته على منع الحكّام من امتطاء الأحكام ليست مرتبطةً بطريقة اختياره، بل بالحالة العامة في البلد: المجتمع أهو قوي ناهض أم ضعيف مستسلم، والرأي العام أهو نشط وواع ومستعد للتحرّك، دفاعا عن القيم والمصالح ولعب دور في التصدّي للحكام الجائرين والمنحرفين، أم مستقيلٌ ويبحث عن السلامة بالسلبية واللامبالاة.

يمكن القول إن وجود آلية لمحاسبة المفتي وعزله من مجلس رقابي من العلماء أكثر تأثيرا على عمله والتزامه بطبيعة مهمته من طريقة اختياره، كما يمكن أن تشكل دافعا له يدفعه إلى القيام بدور بنّاء في خدمة الدين والوطن. وهذا غير معهودٍ في عمل مشايخ الوعظ والإرشاد، ولم يتم التفكير به وبأهميته القصوى في اللحظة الراهنة وحساسياتها. أما تبريره للعمل من أجل إنقاذ المعتقلين والكشف عن المفقودين ومساعدة المهجّرين “لأنهم ليسوا غرباء”، فيكشف عن عقل عشائري يربط الموقف بالقرابة، وقوله “على القوي أن يأخذ بيد الضعيف والغني يأخذ بيد الفقير” فلازمة الرطانة المشيخية التي لم تشكل فرقا في سلوك المسلمين، على الرغم من القول بها منذ مئات السنين، لأن المسلمين يرون من مشايخهم، في حالاتٍ كثيرة عكس ما يقولون، باكتنازهم المال والعيش الرغيد والباذخ. وربطه بين وحدة الفصائل وتحقيق النصر ينمّ عن قصر نظر سياسي، حيث جاءت دعوته إلى وحدة الفصائل متأخرة جدا، فقد تكرّست الانقسامات في ضوء نشوء مصالح شخصية لقادة الفصائل، وارتباطهم بعلاقات تبعية مع قوى خارجية لتأمين الدعم لبقائهم قادة ومسيطرين على فصائلهم، ما جعل الوحدة مستحيلة؛ وإن حصل تحت الضغط فلن يستمر طويلا، ناهيك عن غضّه النظر عما تقوم به الفصائل من ممارسات: فساد وتنمّر واعتداء على المواطنين في مناطق سيطرتهم بإذلالهم ونهب أرزاقهم. وأما التلميح إلى حلم النصر، فينمّ عن جهل بقراءة توازنات القوى وتقدير الموقف واستشفاف التوجهات وتوظيفها في إدارة الصراع، لأن الموقف الراهن على الساحة لا يُسمح به بعد خروج القضية السورية من أيدي أصحابها، ووقوعها بأيدي القوى الإقليمية والدولية، حتى بات المأمول الآن ليس أكثر من خفض الكلفة والخسائر.

تتحمّل مشيخة الحفظ والنقل الجزء الأكبر من المسؤولية عن تخلف المجتمعات العربية والمسلمة ومعاناتها على كل الأصعدة، فانفصال هذه المشيخة عن العصر ومناهجه وآليات عمله، وبقاؤها تدور في فضاء أقوال واجتهادات قيلت منذ مئات السنين، وميلها إلى الاستحواذ، وقد تجلى ذلك بوضوح عند انتخاب أعضاء المجلس الإسلامي السوري مفتيا، واختيارهم رئيس المجلس للمنصب، وهذا على الضد من مستدعيات (وشروط) اختيار مفت عام، والتي تقضي بأن يكون المفتي للجميع، وعلى مسافة واحدة من الجميع؛ بحيث يعتبره الجميع مفتيهم، وأن يكتفي بمنصبه في الإفتاء ويتفرّغ له. وهذا لم يتم في حالة الشيخ أسامة الرفاعي الذي بقي رئيسا لرابطة علماء الشام وللمجلس الإسلامي، وصاحب موقف سياسي منحاز لطرفٍ في الصراع، ما يجعله غير مقبول من الموالين للنظام وفتاواه غير معترف بها، فعقلية الحفظ والنقل رتّبت المراوحة في المكان والتخلف عن مسيرة العالم.

كان الأجدى بالمجلس العتيد ومشايخه النظر في المرآة، واكتشاف فواتهم وحاجتهم إلى إعادة تأهيل نظري وعملي، وتعميق ثقافتهم بعلوم العصر وتقنياته، وتغيير مناهج عملهم، المؤسّسة على الوعظ وإصدار الفتاوى، ومعارفهم وخبراتهم عن المجتمعات وسبل سياستها خارج ثنائية الشيخ والمريد، وتعاطيهم مع المشكلات باعتماد خططٍ مدروسة، والانخراط العملي المباشر مع الناس، لمساعدتهم على حل مشكلاتهم، وتسيير حياتهم وجعل تصرّفهم في مواجهتها أسهل وأنجع.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى