نعوم تشومسكي: عن نقص أجهزة التنفس الاصطناعي وقسوة الرأسمالية النيوليبرالية

سي. جيه. بوليكرونيو ترجمة: علاء الدين أبو زينة

أخذ “كوفيد 19” العالم بالمفاجأة. مئات الآلاف أصيبوا بالعدوى (ربما أكثر بمرات من الحالات المؤكدة)، وقائمة القتلى تطول بمتوالية هندسية، والاقتصادات الرأسمالية وصلت إلى توقف تام، حيث أصبح حلول ركود عالمي الآن حتمياً من الناحية العملية.

كان قدوم الوباء متوقعاً قبل وقت طويل من ظهوره، لكن الإجراءات اللازمة للتحضير لمثل هذه الأزمة عطلتها الضرورات القاسية لنظام اقتصادي ينظر من زاوية “لا ربح في منع وقوع كارثة مستقبلية”، كما يشير نعوم تشومسكي في هذه المقابلة الحصرية مع “تروث أوت”. وتشومسكي أستاذ فخري في اللغويات في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا وأستاذ فخري في جامعة أريزونا، ومؤلف أكثر من 120 كتابا وآلاف المقالات القصيرة والطويلة. في المقابلة التالية، يناقش تشومسكي كيف أن الرأسمالية النيوليبرالية نفسها هي التي تقف وراء استجابة الولايات المتحدة الفاشلة للوباء.

* *

سي. جيه. بوليكرونيو: نعوم، انتشرت تفشيات مرض فيروس كورونا المستجد في معظم أنحاء العالم، حيث تعاني الولايات المتحدة الآن من حالات إصابة أكثر من أي بلد آخر، بما في ذلك الصين حيث نشأ الفيروس أول الأمر. هل هذه تطورات مفاجئة؟

نعوم تشومسكي: نطاق الوباء مثير للدهشة، بل وصادم في الحقيقة، وإنما ليس ظهوره. ولا هي حقيقة أن الولايات المتحدة لديها أسوأ سجل في الاستجابة للأزمة.

كان العلماء يحذرون من قدوم جائحة لسنوات، وبشكل أكثر إلحاحاً منذ وباء “سارس” في العام 2003، الناجم أيضا عن فيروس كورونا، والذي تم تطوير لقاحات له لكنها لم تتقدم أبعد من المستوى ما-قبل-السريري. كان ذلك هو الوقت المناسب للبدء في وضع أنظمة للاستجابة السريعة استعداداً لتفشي مرض، ولتخصيص الطاقة الاحتياطية التي ستلزم. كان من الممكن أيضًا اتخاذ مبادرات لتطوير دفاعات وأنماط علاجية لظهور محتمل لفيروس ذي صلة.

لكن الفهم العلمي ليس كافياً. يجب أن يكون هناك أحد ما يلتقط الكرة ويركض بها. لكنّ هذا الخيار حظرته أمراض النظام الاجتماعي-الاقتصادي المعاصر. كانت إشارات السوق واضحة: ليس هناك أي ربح في منع وقوع كارثة في المستقبل. كان يمكن أن تتدخل الحكومة، ولكن هذا أيضاً تمنعه العقيدة السائدة: “الحكومة هي المشكلة”، قال لنا ريغان بابتسامته المشرقة، مما يعني أنه يجب تسليم عملية صنع القرار بالكامل إلى عالم الأعمال المكرس للربح الخاص والمتحرر من أي نفوذ لأولئك الذين ربما يكونون مهتمين بالصالح العام. وضخت السنوات التي تلت ذلك جرعة من الوحشية النيوليبرالية في النظام الرأسمالي غير المقيد والشكل المشوه للأسواق التي ينشئها.

تكشف عن عمق المرض بوضوح واحدة من أكثر مظاهر الفشل درامية -وأكثرها فتكاً: الافتقار إلى أجهزة التنفس الاصطناعي، الذي يشكل واحداً من المآزق الرئيسية في مواجهة الوباء. كانت وزارة الصحة والخدمات الإنسانية قد استشرفت المشكلة في السابق، وتعاقدت مع شركة صغيرة لإنتاج أجهزة تنفس غير مكلفة وسهلة الاستخدام. ولكن، عندئذٍ تدخل المنطق الرأسمالي.

قامت شركة كبرى، كوفيديان Covidien، بشراء الشركة الصغيرة، ونحّت المشروع جانباً، وفي العام 2014، مع عدم تسليم أي أجهزة تنفس اصطناعي إلى الحكومة، أخبر المسؤولون التنفيذيون في كوفيديان المسؤولين في وكالة الأبحاث الطبية الفيدرالية بأنهم يريدون الخروج من العقد، وفقاً لثلاثة مسؤولين فيدراليين سابقين. واشتكى المسؤولون التنفيذيون من أن الصفقة لم تكن مربحة بما فيه الكفاية للشركة”.

وهذا صحيح من دون شك.

وعندئذٍ تدخل المنطق النيوليبرالي، مملياً أن الحكومة لا تستطيع العمل للتغلب على الفشل الإجمالي للسوق، والذي يتسبب الآن بالفوضى. وكما أوضحت صحيفة “نيويورك تايمز” الأمر بلطف، فإن “الجهود المتوقفة لصناعة فئة جديدة من أجهزة التنفس الاصطناعي الرخيصة وسهلة الاستخدام تسلط الضوء على مخاطر الاستعانة بمصادر خارجية، مع تداعيات حاسمة على الصحة العامة على الشركات الخاصة؛ حيث تركيزها على تعظيم الأرباح لا يتوافق دائماً مع هدف الحكومة المتمثل في الاستعداد لأزمة مستقبلية”.

مع وضع طاعة الطقوس للحكومة الحميدة وغاياتها التمجيدية جانباً، فإن هذا التعليق صحيح بما يكفي. وربما نضيف أن التركيز على تعظيم الأرباح “غير متوافق دائماً” أيضاً مع الأمل في “بقاء البشرية”، باستعارة عبارة من مذكرة مسربة من بنك “جيه. بي. مورغان تشيس”، أكبر بنك في الولايات المتحدة، والتي تحذر من أن “بقاء البشرية” معرض للخطر في مسارنا الحالي، بما في ذلك استثمارات البنك نفسه في الوقود الأحفوري. وبالتالي، ألغت شركة شيفرون مشروعاً مربحاً للطاقة المستدامة لأن هناك أرباحاً أكثر يمكن تحقيقها من تدمير الحياة على كوكب الأرض. وامتنعت شركة إكسون موبيل عن القيام بمثل ذلك، لأنها لم تفتح أبداً مثل هذا المشروع في المقام الأول، بعد أن أجرت حسابات أكثر عقلانية للربحية.

وقد فعلت ذلك محقة، وفقاً للعقيدة النيوليبرالية. وكما أرشدنا ميلتون فريدمان Milton Friedman وغيره من الشخصيات النيوليبرالية، فإن مهمة مديري الشركات هي تعظيم الأرباح. ومن شأن أي انحراف عن هذا الالتزام الأخلاقي أن يحطم أسس “الحياة المتحضرة”.

سيكون هناك تعافٍ من أزمة “كوفيد 19″، بتكلفة كبيرة وربما مروعة، خاصة بالنسبة للفقراء والأكثر هشاشة. ولكن لن يكون هناك تعافٍ من ذوبان الصفائح الجليدية القطبية ومن العواقب المدمرة الأخرى للاحترار العالمي. هنا أيضًا، تنجم الكارثة عن فشل في السوق -والتي ستكون في هذه الحالة بأبعاد تهز الأرض حقًا.

كان لدى الإدارة الحالية تحذير وافٍ من جائحة محتملة. وفي الواقع، تم إجراء محاكاة عالية المستوى (لمواجهة جائحة) في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي. واستجاب ترامب خلال سنواته في منصبه بالطريقة التي اعتدنا عليها: من خلال إلغاء التمويل وتفكيك كل جزء ذي صلة من الحكومة، وتنفيذ تعليمات أسياده من مدراء الشركات والاجتهاد بإلغاء اللوائح التي تعوق الأرباح، حتى بينما تنقذ الأرواح -وقيادة السباق نحو هاوية الكارثة البيئية، وهي أكبر جرائمه بمسافة- بل في الواقع أكبر جريمة في التاريخ عندما ننظر في نطاق العواقب.

بحلول أوائل كانون الثاني (يناير)، لم يكن هناك شك كبير في طبيعة ما كان يحدث. في 31 كانون الأول (ديسمبر)، أبلغت الصين منظمة الصحة العالمية بانتشار أعراض شبيهة بأعراض الالتهاب الرئوي ناجمة عن مسببات غير معروفة. وفي 7 كانون الثاني (يناير)، أبلغت الصين منظمة الصحة العالمية بأن العلماء حددوا المصدر على أنه فيروس كوروني، وكان لديهم تسلسل الجينوم الذي جعلوه متاحًا للعالم العلمي. وخلال شهري كانون الثاني (يناير) وشباط (فبراير)، كانت المخابرات الأميركية تحاول جاهدة إسماع صوتها لترامب، لكنها فشلت. وأبلغ المسؤولون الصحافة بأنهم “لم يتمكنوا من حملِه على فعل أي شيء حيال الأمر. كان النظام يومض باللون الأحمر”.

لكن ترامب لم يكن صامتاً، مع ذلك. أصدر سيلًا من التصريحات الواثقة التي أبلغت الجمهور بأن الأمر مجرد مسألة سعال؛ بأن كل شيء لديه تحت السيطرة؛ بأنه يحصل على علامة 10 من 10 في تعامله مع الأزمة؛ بأن الأمر خطير للغاية، لكنه كان يعلم بأنه جائحة قبل أي شخص آخر؛ وبقية ذلك الأداء المؤسف. وهذا التكنيك مصمم جيدًا، تمامًا مثل ممارسة استحضار الأكاذيب بسرعة كبيرة بحيث يتلاشى مفهوم الحقيقة نفسه. مهما يحدث، فإن ترامب متأكد من أن أتباعه المخلصين سيبرئونه. إنكَ عندما تطلق السهام بشكل عشوائي، فمن المرجح أن بضعها سيصيب الهدف.

لتتويج هذا السجل الملف، في 10 شباط (فبراير)، عندما كان الفيروس يجتاح البلاد، أصدر البيت الأبيض اقتراح ميزانيته السنوية، والذي يوسع التخفيضات الحادة في جميع الأجزاء الرئيسية المتعلقة بالصحة في الحكومة (في الواقع أي شيء قد يساعد الناس تقريباً) مع زيادة التمويل لما هو مهم حقًا: الجيش، والجدار.

والآن، أصبحت الولايات المتحدة هي المركز العالمي للأزمة.

أحد الآثار هو إجراء الفحوصات متأخرة ومحدودة، وبقدر أقل بكثير من الآخرين، مما يجعل من المستحيل تنفيذ استراتيجيات “الاختبار والتتبع” الناجحة التي منعت الوباء من الخروج عن السيطرة في المجتمعات العاملة. حتى أفضل المستشفيات هنا تفتقر إلى المعدات الأساسية. والولايات المتحدة هي الآن المركز العالمي للأزمة.

هذا يخدش فقط سطح الخبث الترامبي، ولكن لا متسع لذكر المزيد هنا.

من المغوي إلقاء اللوم على ترامب في الاستجابة الكارثية للأزمة. ولكن، إذا كنا نأمل في تجنب الكوارث المستقبلية، فإننا يجب أن ننظر إلى ما وراءها. لقد جاء ترامب إلى المنصب في مجتمع مريض، مصاب بـ40 عاما من مرض النيوليبرالية، وبجذور أعمق أيضاً.

كانت النسخة النيوليبرالية للرأسمالية تعمل منذ ريغان ومارغريت تاتشر، وبدأت قبلهما بوقت قصير. ولا ينبغي أن تكون هناك حاجة إلى تفصيل عواقبها القاتمة. إن لكرم ريغان تجاه فائقي الثراء صلة مباشرة اليوم عندما تكون لدينا خطة إنقاذ أخرى على الطريق. لقد رفع ريغان بسرعة الحظر على الملاذات الضريبية والوسائل الأخرى لتحويل العبء الضريبي إلى الجمهور، كما خوّل أيضاً إعادة شراء الأسهم (1) -وهي وسيلة لتضخيم قيم الأسهم وإثراء إدارة الشركات وفائقي الثراء (الذين يمتلكون معظم الأسهم) مع تقويض القدرة الإنتاجية للمؤسسة.

لمثل هذه التغييرات السياسية عواقب وخيمة، بعشرات تريليونات الدولارات. بشكل عام، تم تصميم السياسة لصالح أقلية صغيرة بينما يتخبط الباقون ويتعثرون. وبهذه الطريقة أصبح لدينا مجتمع يمتلك فيه 0.1 في المائة من السكان 20 في المائة من الثروة، بينما لدى النصف الأدنى صافي قيمة سلبي ويعيشون من الراتب إلى الراتب. وفي الوقت الذي ارتفعت فيه الأرباح وحلقت رواتب المديرين التنفيذيين، عانت الأجور الحقيقية من الركود. وكما يبيّن الاقتصاديان إيمانويل سايز Emmanuel Saez وغابرييل زوكمان Gabriel Zucman في كتابهما “انتصار الظلم” The Triumph of Injustice، فإن الضرائب ثابتة بشكل أساسي عبر جميع فئات الدخل، باستثناء القمة، حيث تنخفض.

لطالما كان نظام الرعاية الصحية المخصخص من أجل الربح في الولايات المتحدة فضيحة دولية، مع كون نفقات الفرد ضعف مثيلاتها في المجتمعات المتقدمة الأخرى ومع بعض من أسوأ النتائج. وقد وجهت العقيدة النيوليبرالية ضربة أخرى، مدخلة مقاييس الكفاءة على الأعمال التجارية: مبدأ “الخدمة في الوقت المناسب” من دون أي دسم في النظام. أيُّ انقطاع وينهار النظام. وينطبق الشيء نفسه على النظام الاقتصادي العالمي الهش المبني على مبادئ النيوليبرالية.

هذا هو العالم الذي ورثه ترامب، وهو الهدف لكبش نطاح. بالنسبة لأولئك المهتمين بإعادة بناء مجتمع قابل للحياة من الحطام الذي ستتركه الأزمة الراهنة، سيكون من الجيد أن يستجيبوا لدعوة فيجاي براساد Vijay Prashad: “لن نعود إلى الوضع الطبيعي، لأن الوضع الطبيعي كان هو المشكلة”.

بوليكرونيو: ومع ذلك، حتى الآن، مع وجود البلاد في خضم حالة طوارئ صحية عامة لا تشبه أي شيء رأيناه منذ فترة طويلة جدًا، يستمر إخبار الجمهور الأميركي بأن الرعاية الصحية الشاملة ليست واقعية. هل النيوليبرالية وحدها هي المسؤولة عن هذا المنظور الأميركي الفريد بشأن الرعاية الصحية؟

تشومسكي: إنها قصة معقدة. كبداية، أظهرت الاستطلاعات، لفترة طويلة، مواقف إيجابية تجاه الرعاية الصحية الشاملة، وأحيانًا دعماً قوياً جدًا. في أواخر سنوات ريغان، اعتقد حوالي 70 في المائة من السكان أن الرعاية الصحية المضمونة يجب أن تكون في نص الدستور، واعتقد 40 في المائة أنها موجودة هناك مسبقاً -حيث يُعد الدستور مستودعاً لكل ما هو صحيح، بوضوح. كانت هناك استفتاءات تظهر دعماً كبيراً للرعاية الصحية الشاملة -حتى يبدأ هجوم الدعاية التجارية، محذراً من العبء الضريبي الثقيل -إن لم يكن الفلكي، على نحو يشبه كثيراً ما شهدناه مؤخراً. وعندئذٍ يتلاشى الدعم الشعبي.

كالعادة، هناك عنصر من الحقيقة في هذه الدعاية. سوف ترتفع الضرائب، لكن إجمالي النفقات يجب أن ينخفض بشكل حاد، كما يظهر سجل الدول القابلة للمقارنة. كم؟ هناك بعض التقديرات الموحية. نشرت مجلة لانسيت المملكة المتحدة، إحدى المجلات الطبية الرائدة في العالم، مؤخراً دراسة تقدر أن الرعاية الصحية الشاملة في الولايات المتحدة “يُرجح أن تؤدي إلى تحقيق وفورات بنسبة 13 في المائة في نفقات الرعاية الصحية الوطنية، أي ما يعادل أكثر من 450 مليار دولار أميركي سنوياً (بناءً على قيمة الدولار الأميركي في العام 2017)”. وتواصل الدراسة:

“يمكن تمويل النظام بأكمله بنفقات مالية أقل مما يتكبده أصحاب العمل والأسر التي تدفع أقساط الرعاية الصحية مقرونة بالمخصصات الحكومية الحالية. سيوفر هذا التحول إلى الرعاية الصحية ذات الدافع الواحد أكبر قدر من الغوث للأسر ذات الدخل المنخفض. وعلاوة على ذلك، نقدر أن من شأن ضمان الوصول إلى الرعاية الصحية لجميع الأميركيين أن ينقذ حياة أكثر من 68.000 شخص و1.73 مليون سنة حياة كل عام مقارنة بالوضع الراهن”.

لكن ذلك سيرفع الضرائب. ويبدو أن العديد من الأميركيين يفضلون إنفاق المزيد من الأموال طالما أنها لا تذهب إلى الضرائب (والتي تقتل بالمناسبة عشرات الآلاف من الناس سنويًا). هذا مؤشر يتحدث عن حالة الديمقراطية الأميركية كما يختبرها الناس؛ ومن منظور آخر، عن قوة النظام العقائدي الذي صاغته قوة الأعمال التجارية وسدنتها الفكريون. لقد كثف الاعتداء النيوليبرالي هذا العنصر المرَضي للثقافة الوطنية، لكن الجذور أعمق بكثير ويتم توضيحها بطرق عديدة، وهو عنوان يستحق المتابعة كثيراً.

بوليكرونيو: في حين أن بعض الدول الأوروبية تعمل بشكل أفضل من غيرها في إدارة أزمة انتشار “كوفيد 19″، فإن الدول التي يبدو أنها حققت نجاحًا أكبر في هذه المهمة تقع في المقام الأول خارج العالم الغربي الـ(نيو)ليبرالي. وهي سنغافورة وكوريا الجنوبية وروسيا، والصين نفسها. هل تخبرنا هذه الحقيقة شيئًا عن الأنظمة الرأسمالية الغربية؟

تشومسكي: كانت هناك ردود فعل مختلفة على انتشار الفيروس. يبدو أن الصين نفسها قد سيطرت عليه، على الأقل حتى الآن. وينطبق الشيء نفسه على البلدان الواقعة في محيط الصين حيث تم الالتفات إلى الإنذارات المبكرة، بما في ذلك ديمقراطيات لا تقل حيوية عن تلك الموجودة في الغرب. كانت أوروبا مماطِلة في الغالب، لكن بعض الدول الأوروبية تصرفت. يبدو أن ألمانيا تحمل الرقم القياسي العالمي في معدل انخفاض الوفيات، بفضل توفير المرافق الصحية والقدرة التشخيصية والاستجابة السريعة. ويبدو أن الشيء نفسه صحيح في النرويج. كان رد فعل بوريس جونسون في المملكة المتحدة مخزياً. وكانت أميركا ترامب في نهاية الصف.

ومع ذلك، لم تمتد عناية ألمانيا المفرطة بالسكان إلى ما وراء حدودها. أثبت الاتحاد الأوروبي أنه أي شيء سوى أن يكون اتحاداً. ومع ذلك، تستطيع المجتمعات الأوروبية المريضة النظر عبر المحيط الأطلسي للحصول على المساعدة. كانت القوة العظمى الكوبية مستعدة مرة أخرى للمساعدة بالأطباء والمعدات. وفي الأثناء، كانت جارتها الأميركية تقلص المساعدات الصحية لليمن؛ حيث ساعدت على خلق أسوأ أزمة إنسانية في العالم، وكانت تستخدم فرصة الأزمة الصحية المدمرة لتشديد عقوباتها القاسية لضمان أقصى المعاناة بين أعدائها المختارين. كوبا هي الضحية الأطول أمداً، منذ أيام حروب كينيدي الإرهابية والخنق الاقتصادي، لكنها نجت بأعجوبة.

بالمناسبة، يجب أن يكون مزعجاً للغاية للأميركيين أن يقارنوا السيرك في واشنطن بتقرير أنجيلا ميركل الواقعي والرصين والمحسوب الذي قدمته للألمان حول الكيفية التي يجب أن يتم التعامل بها مع التفشي.

لا يبدو أن السمة المميزة في الاستجابات هي الديمقراطيات مقابل الأنظمة الاستبدادية، وإنما المجتمعات العاملة مقابل المجتمعات المختلة وظيفياً -ما تسمى في الخطاب الترامبي الدول “القذرة”، مثل ما يعمل جاهداً على صناعته من أميركا تحت حكمه.

بوليكرونيو: ما رأيك في خطة الإنقاذ الاقتصادي لفيروس كورونا بقيمة تريليوني دولار؟ هل يكفي هذا لدرء ركود كبير محتمل آخر ومساعدة الفئات الأكثر ضعفاً في المجتمع الأميركي؟

تشومسكي: خطة الإنقاذ أفضل من لا شيء. إنها تقدم إغاثة محدودة لبعض من هم في أمسّ الحاجة إليها، وتحتوي على صندوق وافر لمساعدة الضعفاء حقاً: الشركات البائسة الجديرة بالشفقة تهرع إلى الدولة مربية الأطفال، قبعاتها في أيديها، وتخفي نسخها من “آين راند” (2) Ayn Rand وتتوسل مرة أخرى من أجل الإنقاذ العام بعد أن أمضت سنوات المجد في تكديس الأرباح الهائلة وتضخيمها بطقس معربد من عمليات إعادة شراء الأسهم. ولكن لا داعي للقلق. سوف يراقب ترامب ووزير الخزانة، اللذين يمكن الوثوق بأنهما سيكونان عادلين ومنصفين، صندوق الرشوة. وإذا قررا تجاهل مطالب المفتش العام الجديد والكونغرس، فمن هو الذي سيفعل أي شيء حيال ذلك؟ وزارة عدل بار Barr؟ الإقالة؟

كان يمكن أن تكون هناك طرق لتوجيه المساعدة إلى أولئك الذين يحتاجون إليها، إلى الأسر، وبحيث تتجاوز المبلغ المتضمن للبعض. وهذا يشمل الأشخاص العاملين الذين كانت لديهم وظائف موثوقة والشريحة الضخمة من الناس الذين كانوا يحصلون بطريقة ما على عمل مؤقت وغير نظامي، وإنما الآخرين أيضًا: أولئك الذين كفوا عن المقاومة، ومئات الآلاف من ضحايا “وفيات اليأس” (3) -وهي مأساة أميركية حصرية فريدة من نوعها- المشردون والسجناء والكثيرون الذين لديهم مثل هذه المساكن غير الملائمة التي لا تسمح بالحجر الذاتي وتخزين الطعام، والعديد من الآخرين الذين يصعب تحديدهم.

لقد أوجز الاقتصاديان السياسيان توماس فيرغسون Thomas Ferguson وروب جونسون Rob Johnson المسألة بوضوح: في حين أن الرعاية الطبية الشاملة القياسية في أماكن أخرى قد تكون أكثر مما يمكن توقعه في الولايات المتحدة، فإنه “لا يوجد سبب لماذا يجب أن يكون لديها تأمين دافع واحد أحادي الجانب للشركات”. ويذهبان إلى مراجعة طرق بسيطة للتغلب على هذا الشكل من سرقة الشركات.

على أقل تقدير، يجب أن تتطلب الممارسة المنتظمة للإنقاذ العام خارج قطاع الشركات تطبيقاً صارماً لحظر عمليات إعادة شراء الأسهم، ومشاركة ذات مغزى للعمال في الإدارة، ووضع حد للتدابير الحمائية الفاضحة لـ”اتفاقيات التجارة الحرة” سيئة التسمية والتي تضمن أرباحًا كبيرة لشركات الصيدلة الكبيرة بينما ترتفع أسعار الأدوية أبعد كثيراً مما كانت لتكون عليه في ظل ترتيبات منطقية.

على الأقل.

*C.J. Polychronio: هو عالم اقتصاد سياسي/ عالم سياسي درس وعمل في الجامعات ومراكز البحوث في أوروبا والولايات المتحدة. تتركز اهتماماته البحثية الرئيسية على التكامل الاقتصادي الأوروبي والعولمة والاقتصاد السياسي للولايات المتحدة وتفكيك مشروع السياسة الاقتصادية النيوليبرالية. من كتبه “التفاؤل فوق اليأس: نعوم تشومسكي عن الرأسمالية، والإمبراطورية والتغيير الاجتماعي، مختارات من المقابلات مع تشومسكي”.

*نشرت هذه المقابلة تحت عنوان: Chomsky: Ventilator Shortage Exposes the Cruelty of Neoliberal Capitalism

هوامش المترجم:

(1)stock buyback، إعادة شراء الأسهم هو مصطلح اقتصادي يعني إعادة ملكية الأسهم المباعة إلى خزينة الشركة الأُم، وتمثل طريقة مرِنة لاستعادة أموال الشركة من حملة أسهمها التي تم طرحها في مرحلة سابقة).

(2) أليسا زينوفيفنا روزنباوم: كانت روائية وفيلسوفة وكاتبة مسرحية وكاتبة سيناريو روسية أميركية. أيدت العقل بوصفه الوسيلة الوحيدة لاكتساب المعرفة ورفضت الإيمان والدين. كما أيدت الأنانية الأخلاقية والعقلانية ورفضت الإيثار الأخلاقي. وفي السياسة، أدانت الشروع في استخدام العنف بأنه عمل غير أخلاقي، وعارضت الجماعية والدولانية وكذلك الفوضوية، وبدلاً من ذلك، دعمت وجود الحكومة مقيدة السلطات والتي تتبع الفلسفة التقليصية ورأسمالية عدم التدخل، التي اعتقدت أنها النظام الاجتماعي الوحيد الذي يحمى الحقوق الفردية.

(3) الوفيات الناجمة عن أمراض اليأس، وهي ثلاث فئات من الحالات الطبية المرتبطة بالسلوك والتي تزيد في مجموعات الناس الذين يعانون من اليأس بسبب الشعور بأن آفاقهم الاجتماعية والاقتصادية طويلة الأجل قاتمة. وأسباب هذه الوفيات هي: تناول جرعة زائدة من المخدرات (بما في ذلك جرعة زائدة من الكحول)، والانتحار، وأمراض الكبد الكحولية.

 

المصدر: (تروث أوت) / الغد الأردنية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى