مشكلة “دولة داخل الدّولة” في المنظومة السّياسيّة الجزائريّة

أزراج عمر 

تميّز هذا الأسبوع بانطلاق الانتخابات البلدية والولائية في الجزائر، وتمهيداً لذلك عقد الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، يوم الجمعة الماضي، لقاءً دورياً مع ممثلي الصحافة الوطنية، أكد فيه أن مشروعه الأساسي يرتكز على بناء الدولة العصرية التي يرى أن انطلاقها مشروط بتغيير خلية المجتمع الأولى والأساسية، وهي البلدية والمجالس الولائية الأكثر قرباً من الشعب ومشكلاته الأساسية.

في اللقاء أشار الرئيس تبون الى أن 900 بلدية جزائرية من بين 1541 بلدية تعاني الفقر وقلة الإمكانات، وعلى هذا الأساس أوضح أن الأولوية في برنامجه التنموي ستعطى لرفع مستوى دخل هذه البلديات وإخراجها من وضعها الصعب، وذلك بتشجيع أسلوب التنمية الذاتية وتوفير المبالغ المالية لها، وتمكينها من توظيفها لخلق الثروة المحلية في مختلف القطاعات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والصناعية.

وما دامت مؤسسة الرئاسة الجزائرية تولي اهتماماً استثنائياً لهذا اللقاء الذي يعقده الرئيس تبون دورياً، فإن مجموعة من خبراء جزائريين لهم تجربة طويلة سابقاً في تسيير مؤسسات الدولة على مستوى جهاز الحكومة والأحزاب ومؤسسات المجتمع المدني، وبخاصة المؤسسات المتوسطة والكبيرة في الجزائر العميقة، قدموا مداخلات في مختلف وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، ودعوا إلى فتح فضاء هذا اللقاء الدوري على الكفاءات والمتخصصين في إدارة شؤون الدولة وفي قضايا التنمية بكل أنماطها الزراعية والصناعية والسياحية والثقافية والتعليمية، وذلك بإشراك عناصر مثقفة ومفكرة من المجتمع المدني وأهل الاختصاص في شتى ميادين التنمية في هذه اللقاءات، لإنجاح مهمة حصر المشكلات الأساسية، والبحث عن الحلول التي يمكن أن تقدم للمسؤولين في أجهزة الدولة التنفيذية وفي المؤسسات السياسية المنتخبة، وفي صدارتها مؤسسة رئاسة الجمهورية.

 ولا شك في أن إشراك هؤلاء في هذه المناقشات الدورية سوف يسهم في إغناء الحوار، وتجنب مونولوج أسئلة هذا الممثل أو ذاك التابع للصحافة الوطنية التي تموّلها الدولة أو يديرها القطاع الخاص بأموال مؤسسة الإشهار التابعة لوزارة الاتصال (الإعلام) الحكومية أيضاً.

وفي الحقيقة، فإن النقاش الذي دار بين الرئيس تبون وممثلي الصحافة الوطنية، مسّ نقاطاً حساسة، أهمها محاربة التحايل في الانتخابات وممارسة الرقابة أثناءها وبعدها على ملفات المترشحين، وإقصاء كل من تثبت التحقيقات تورطه في ارتكاب أعمال معادية لمصالح الشعب الجزائري، ومن هذه النقاط أيضاً وعد الرئيس تبون بمراجعة قانوني البلدية والولاية (المحافظة) وصلاحيات رؤساء البلديات وإمكانات كل بلدية اقتصادياً، والإبقاء على الدعم الاجتماعي، والتكفل لمصلحة الشرائح الاجتماعية الفقيرة وذات الدخل المحدود، فضلاً عن تطبيق المنحة الشهرية القريبة من الأجر الوطني الأدنى المضمون لفائدة العاطلين من العمل، وذلك في إطار رقابة صارمة،  ومواصلة تدريس 12 مليون تلميذ مجاناً، وإطعامهم وتوفير الإمكانات لأكثر من 100 جامعة ومركز جامعي عبر الجزائر، وإنشاء مفتشية عامة في رئاسة الجمهورية تراقب فجائياً مدى تنفيذ القرارات في الميدان، كما تشجيع الاستثمار الوطني والأجنبي الذي لا يضر بالسيادة الوطنية.

إلى جانب ما تقدم، فقد ركز الرئيس تبون مراراً على الأهمية المفصلية لمؤسسة البلدية، باعتبارها الخلية الصلبة التي يمكن أن تنطلق منها عمليات تحديث المجتمع مادياً وثقافياً وروحياً. وفي هذا الخصوص، يرى الرئيس الجزائري أن انتخاب شريحة الشباب الجامعي والمثقف النزيه على رأس البلديات في المدن والأرياف ضرورة وأولوية للدولة، ويمثل الخطوة الأولى للمضي قدماً في الانطلاق في تحديث المجتمع الجزائري.

وأثيرت أيضاً مسألة حساسة أخرى، لعبت دوراً مفصلياً هداماً على مدى سنوات الاستقلال، وتتعلق بوجود ثنائية متضادة داخل بنية المشهد السياسي الجزائري. وتتلخص هذه الثنائية السلبية في وجود “دولة داخل الدولة”، الأمر الذي ساهم ولا يزال يساهم في خلخلة الاستقرار السياسي حيناً، وخلط أوراق التنمية الوطنية مراراً، الأمر الذي أدى ولا يزال يؤدي إلى العمل بمعيار المحاصصة وتشكيل حكومات تمثيلية لأجنحة الصراع والولاءات والجهوية. إن هذه التجربة السلبية نتج منها الدوران في فلك تسيير الصراعات، ما قلل من حظ ضمان نقل الجزائر إلى مرحلة العصرنة والحداثة.

لا شك في أن المواطنين الجزائريين يريدون مناقشة هذه المشكلة الخطيرة وذيولها المتشعبة بوضوح، للكشف عن الأشخاص والجهات التي تفرّخ وتعيد تفريخ شكل “الدولة داخل الدولة” التي تعني حتى لدى المواطن العادي وجود صراعات أجنحة داخل منظومة الحكم نفسها، وانتشار اللوبيات المتحاربة على نحو مضمر في الغا13ب، وتتسبب في إصابة البلاد بشتى أنماط الشلل.

وفي الواقع، فإن مشكلة “الدولة داخل الدولة” في المشهد السياسي الجزائري التي طرحت في هذا اللقاء الدوري، طرحتها من قبل تظاهرات انتفاضة الحراك الشعبي وأحزاب المعارضة أيضاً، ولكن لم يؤد ذلك إلى تحديد المسؤولين، عنيت استمرار الشكل السياسي الذي يمثل مرضاً مزمناً في الحياة السياسية الجزائرية.

وفي تقدير محللين سياسيين جزائريين، فإن هذا الشكل السياسي الصراعي للدولة ليس نتاجاً لأسلوب لامركزية التسيير الذي بدأت الجزائر تطبيقه باحتشام، أو عرضاً من أعراض تعدد وجهات النظر حول المفاصل المكوّنة للهوية الوطنية، بل هو بالدرجة الأولى صورة من صور انعدام التجانس في منظومة الحكم، وثمرة لغياب التوافقات المبدئية جراء تكريس فسيفساء متناقض، يتحول في الغالب إلى صدامات تضع البلاد كلها في حلبة المصارعة.

المصدر: النهار العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى