قراءة في رواية: بلاد المنافي

أحمد العربي

نجاة عبد الصمد روائية سورية متميزة، قرأت لها عملين سابقا، وهذا العمل الثالث. بلاد المنافي: رواية تعتمد أسلوب الكتابة كسرد على لسان أبطالها، أحيانا بلغة المتكلم، وأحيانا متحدثة بصيغة الغائب، كما أنها تبدأها بلسان الكاتبة على أنها جزء من الحدث، إيماء لنا انها تحكي قصة مدينتها السويداء، وواقع ناسها عبر أجيال متتابعة، وعقود طويلة، ومن بقي في البلاد ومن طردته منها بحكم الفاقة والمحْل وغياب فرص العمل وضيق فرص العيش، ليكونوا موزعين في أطراف الدنيا، ويصدق بحقهم عنوان الرواية: بلاد المنافي.

تبدأ الرواية من تذكّر الكاتبة أو الراوية نفسها قبل عقود، وأنها كانت مجايلة للشاعر الكبير المتميز، الذي جذب بشعره وحضوره الكثير من الفتيات، وكانت هي منهم، لفت نظرها، وهي لا تعلم أن كانت لفتت نظره واهتم بتلك الفتاة التي تسير في طريق الشعر على خجل، هاهي العقود تمضي هو اصبح اسما كبيرا وهي مازالت متواضعة الحضور، بعثت له نص روايتها التي بين يديها، ليقيّمها، ويقرر ان كانت صالحة للنشر، طامحة بنشرها.

الرواية تتحدث عن الجد أبو علي الذي كان من أهل مجدل شمس في الجولان السوري، حيث يعمل أهلها بالزراعة وتربية المواشي، وذلك قبل حرب ١٩٦٧م واحتلالها من قبل الكيان الصهيوني، لم تلب القرية بمواردها القليلة طموحات ابو علي بحياة مستقرة أكثر ومؤمن بها فرص العيش من عمل مجزي وسكن وفرصة تعليم الأولاد وتأمين مستقبلهم، لذلك قرر ان ينتقل الى مدينة السويداء في جبل العرب، وهناك بدأ بتعلم مهنة العمار بالحجارة السوداء الممتلئة بها السويداء وريفها، بدأ التدرب على العمل كمساعد لمعلم بهذه المهنة وسرعان ما اتقنها، صار يعمل لحسابه الخاص وأصبح له حضوره وسمعته، ثم اشترى أرضا له وبنى بيتا عليها اولا بأول وسكنه هو والعائلة حيث بدأ يكبر اولاده، ادخلهم المدارس لكن اغلبهم كان لا يحب الدراسة، فقد التحقوا يعملون مع والدهم. كانت الغربة والبحث عن فرص حياة أفضل لأهل السويداء وريفها، فأحد أخوال أبو علي كان قد سافر إلى فنزويلا في أمريكا اللاتينية. تاركا عائلته على أنه سوف يستدعيها إليه عندما تستقر ظروفه، سنتعرف على واقع سفر ذلك الخال في ظروف قاسية جدا، غادر دون أوراق رسمية، ايام العثمانيين، دفع الرشاوي في السفينة وقدم الخدمة والعمل المجاني مع طاقم السفينة، ليسمحوا له بالسفر، بقي يتخفى عن أجهزة الدول التي تمر السفينة عليها، وصل إلى بلاد قريبة من فنزويلا،  إنتقل إليها برا مع آخرين واجه صعاب الغابات ووحوشها، البعض مرض ومات والبعض واجهه الوحوش، قليل من وصل الى تلك البلاد، ولأنه لا يملك أوراقا رسمية، عمل بأدنى الأعمال بلقمة عيشه فقط وفي ظروف سكن قاسية، انتظر الخال سنوات حتى يحسن ظروف حياته ويبدأ يعمل لنفسه ويصنع حياته الافضل، بعث إلى أسرته ليحضرها، زوجته وابنته، زوجته كانت قد ماتت من المرض وابنته رفض أهله سفرها لوحدها. بدأ حياته من الصفر وتزوج امرأة من فنزويلا، انجب منها ولدا، لكن حياته مع زوجته لم تستقر، طلقها ولم يعتني بولده كفاية. استمرت أعماله التجارية بالتحسن حتى دخل في تجارة المخدرات التي تدر عليه مالا كثيرا، اما ابنه فقد أدمن المخدرات، بعث إلى أهله بالسويداء ان يرسلوا اليه زوجة مناسبة، وبالفعل بعثوا له فتاة بصحبة ابن أخته حفاظا عليها في سفرها، تصل إليه الزوجة ويبني عائلة من جديد، استمر يرسل الى بلده المال ليبني قصرا على ارض له، كما يفعل اغلب المغتربين، لكنه لن يرى القصر ولن يعيش به. سيموت بطلق ناري من متعاطي للمخدرات، و ابنه سيموت ايضا من جرعة مخدرات زائدة. كان ذلك قديما، يتابع ابن اخته رعاية عائلة خاله ومصالحه في فنزويلا والسويداء.

وبالعودة إلى ابوعلي واولاده الذين كبروا في السويداء التي لم تستطع استيعاب طموحاتهم، فقد فكروا بالهجرة والسفر، تزوج علي، كانت ابنته الاولى ليلى احبها اكثر من لو كانت ذكرا، وبعدها كرت ولادات أبنائه الذكور، فكر بالسفر بسبب ضيق عيشه ولإيفاء الديون المتراكمة عليه. وكانت وجهته السعودية، مثل كثير من السوريين ممن يقومون بالأعمال اليدوية المجهدة، في ظروف حياة طبيعية قاسية جدا، وفي مساكن جماعية وظروف معيشية سيئة، تحمل سنتين حتى جمع مالا يكفي إيفاء ديونه، عاد لبلده اجازة قصيرة، التقى بعائلته واوفى ديونه، ومن ثم عاد مرة اخرى الى السعودية، ولم يمضي عليه وقت حتى اعتّلت صحته و مرض، فُحص و قرروا إنهاء خدمته مع تعويضات. رجع لبلده واكتشف بالتحليل أنه مصاب بالسرطان، دخل للعملية خرج منها ميتا، ترك زوجته أرملة وأولاده ايتاما.

هذا ما حصل مع علي أما الآخرون من جيله فلم يكونوا أفضل حالا منه، ولو أن طرقهم اختلفت. محسن الذي لم يرتضي اكمال علمه او عمل اهله قرر أن يمشي على طريق خال له،  كان سافر منذ زمن الى ليبيا، وبالفعل ذهب الى هناك، كانت حياة خاله جحيما لكنه ساكت عنها، هناك صحراء والعمالة الدنيا لا تكاد تغطي مصاريف حياة الإنسان، خاله كان قد تزوج فتاة ليبية وأنجب منها، رغم أنه متزوج من بلده، وهذا محرم دينيا ( محرم الجمع بين زوجتين في نفس الوقت عند الدروز)، طالبت زوجته في السويداء بالمجيء إليه، سمح لها بالمجيء مع اولاده الاربعة الصغار، تفاجأت بزواجه، ولا معيل، فتح لها دكانا وقال لها عيشي مع اولادك من ريعها، لم تعد زوجته بسبب زواجه من الليبية، صمدت لبعض الوقت على نقص إمكانيات العيش، و لجأت أخيرا لتعمل بالدعارة حتى تعيل نفسها وعيالها. واجه محسن هذا الواقع المزري لعمه وزوجاته وظروف العمل في ليبيا. أما منير  فقد كان قراره بالسفر الى لبنان ملتحقا بأهله الذين يعملون في الخدمة والزراعة عند باشاوات جبل لبنان. صحيح انهم بالأصول من ارومة واحدة كلهم دروز انتقل البعض منهم الى جبل العرب منذ القديم ولأسباب مختلفة، لكن مستويات العيش مختلفة جدا. لبنان الذي كان كل الوقت موئلا للسوريين الذين يبحثون عن لقمة العيش هناك و يجدوها دوما، في ظروف حياتية اقرب للجحيم، بدء من نوع الأعمال التي يقومون بها، الى الأجور المتدنية التي تكاد تسد الرمق، الى مناطق السكن التي تشبه مخيمات المشردين، مع ذلك يقبل بها السوريون في لبنان، لأنه لا بديل عن ذلك في بلدهم سورية أمهم التي تنفيهم خارجها دوما.

وعند الانتقال إلى الجيل الثالث في الرواية، جيل ليلى ابنة علي التي وعيت نفسها حبيبة والدها، الذي يغدق عليها حب واهتمام، لكن سفره للسعودية، جرحها مجددا، وكانت قمة معاناتها عندما عاد من السعودية مريضا، ومن ثم توفي بعد عملية استئصال السرطان، كان كمال ابن خالة ليلى دواء لمعاناتها لفقدان والدها، سرعان ما حصل بينهما حب، حاولوا تتويجه بخطبة، لم تتحقق بسرعة لان طريق كمال طويل سواء باهتمامه الرياضي او الخدمة الالزامية في الجيش، ومع ذلك خطبها والتحق بالجيش، كانت خدمته في لبنان أيام الحرب الاهلية اللبنانية، كانت خدمته قاسية و طالت لسنوات فائضة في الإحتياط بعد الخدمة الالزامية ، صبرت حتى خرج من الجيش وتزوجا وبدءا رحلة حياة جديدة.

 وبالمقابل نشأ سراج في ذات البيئة المجتمعية في السويداء، التي تميز بها بجمال طلعته وحضوره بحيث جعلته قبلة للكثير من الفتيات، وعندما أصبح في كلية العلوم  في دمشق تعرف على ندى من الساحل تختلف عنه بالطائفة، ظروف حياتها قاسية، والدها فلاح وموارده قليلة، هي وعت نفسها على الدنيا متمردة على ظروف الظلم وعلى النظام المستبد، تشبعت بالأفكار اليسارية، وسرعان ما تلقفها حزب يساري جذري في مواجهة النظام. أما سراج فقد كان حريصا في مواقفه تجاه النظام، قرأ الكثير من الكتب اليسارية الماركسية، التحق بحزب يساري ترضى عنه السلطة، بقي يفكر بمصالحه الخاصة وأنه لن يكون ثوريا بمواجهة النظام، اقنع ندى بعلاقة جسدية كاملة، وهي رضيت بذلك. تملص من موضوع الزواج، لاختلاف الطوائف، وهو لا يريد ان يزعل اهله، سوف عليها بانه سيذهب بعثة الى الاتحاد السوفييتي بدعم من حزبه و يكمل دراسة الطب، وبعد ذلك سيأخذها معه و سيتزوجان، لكن الأمن سيعتقل ندى وتنقطع اخبارها، عاش سراج كثيرا من العلاقات الجنسية المفتوحة مع كثير من الفتيات متغطيا بدعوى الحرية والتحرر ومحاربة التخلف والتقليد الاجتماعي، وانسحب من كل علاقاته وذهب الى روسيا، وقبل سفره يلتقي بليلى التي كانت مخطوبة لابن خالتها، وشجعها ان تكون حبيبته وتلحق به الى روسيا. كان حلما للطرفين ولم يتحقق.

تتحدث الرواية عن كثير من العلاقات المماثلة في كل الأجيال التي غطتها، أن الكاتبة تنتقل كالنحلة من حكاية لحكاية، تجمع أطراف الرواية لتنتهي راسمة صورة عن أجيال واناس وحياتهم في الوطن سورية وفي المنافي.

تنتهي الرواية عندما تعود كاتبة الرواية الى الشاعر الكبير الذي كانت قد أحبته قبل عقود، لتأخذ رأيه في روايتها، وماذا عن إمكانية نشرها؟. ليخبرها ببرود الذي لم يعد يوجد داخل نفسه أي تدفق عاطفي من أيام سابقة، او لنقل كأنه لم يكن عنده أي عاطفة اصلا، أخبرها أن الرواية غير صالحة للنشر. نعم لقد تربع على مؤسسة ثقافية يعطي ويمنع.

 خرجت كاتبتنا محملة بخيبتين الاولى خيبة حب تأكدت انه مات او لم يولد اصلا. والثانية إنكار جهدها وموهبتها الروائية دون أي احترام لما أنتجت. هكذا كما في كل بلاد الظلم والاستبداد.

في تحليل الرواية نقول: اننا امام رواية قد تكون الأولى زمنيا بكتابتها من قبل الكاتبة، وهي كتبت في الداخل السوري، وفي عام ٢٠٠٩م، فيها الكثير من الرسائل. انها تتحدث عن بلاد تطرد أبناءها إلى منافي الدنيا، بدء من أمريكا اللاتينية وصولا إلى السعودية وليبيا و الغرب.. الخ، لتكشف لنا، أن الوطن والنظام الحاكم لم يقدم للشعب فرصة للعيش الكريم، مما دفع هؤلاء الناس للهجرة والعمل في بلاد، تذلهم أو تقتلهم او تسحقهم أو تغريهم بالضياع، فلا يعودون او يعودون حطام. سؤال كبير لماذا يهاجر السوري منذ عقود طويلة ؟. وماذا استفاد من هجرته وغربته؟. وبالحالتين الجواب يعني أن ظروف الحياة والظلم الاجتماعي والسياسي وراء الغربة والتغرب ونتائجه السيئة.

نستطيع القول أن رواية بلاد المنافي التي نشرت قبل الربيع العربي بسنة، هي مؤشر أدبي مهم على أن هذه البلاد وما يعيشه شعبها من ظلم وقهر وفقر وتخلف واستبداد، يتطلب ثورة، وبالفعل حصلت ثورات الربيع العربي وطالت سورية وخرج الناس يطالبون بالحرية والكرامة والعدالة والديمقراطية والحياة الأفضل.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى