منذ أيام أي في السادس عشر من تشرين الثاني لنظيره عام 1970 يكون قد مرَّ على مصادرة حقوق السوريين السياسية والتنظيمات المجتمعية المختلفة، ونواديهم الثقافية وكلمتهم الحرة، نصف قرن وعام واحد، وإن نظرة سريعة، بمناسبة هذه الذكرى، إلى قوائم الحُكّام الذين توالوا على سورية منذ خلافة بني أميَّة التي بدأت مع معاوية بن أبي سفيان إلى “عبد المجيد الثاني” آخِر خلفاء بني عثمان الذي تولَّى الخلافة في تشرين الثاني 1922 إلى شباط 1924، لا يجد الناظر حاكماً طالت مدة حكمه كما طالت مدة حكم حافظ الأسد المستمرة مع ابنه، إذ لا فصل بين حكمَي الأب والابن، وحتى تلك الاستثناءات القليلة التي دامت أشهُراً لدى الابن تماهت مع بدايات الأب التي كانت وعوداً سُرْعان ما تبخرت.. فمن حكم، ويحكم في عهد الابن هو الدولة العميقة ذاتها التي أنشأها الأب مع تنامي دور الفساد والفاسدين، وزيادة حجم الثراء الآتي من نهب الدولة والشعب، واستمرار محاولات تدجين المجتمع، وبالتالي تأخُّر الدولة على غير صعيد..
أما الحكام السوريون الذين تتابعوا بعد الانفصال عن الدولة العثمانية فلم تتجاوز فترة حكم أكثرهم مدة أربع سنوات متصلة وقد بلغ عددهم عشرين رئيساً، عدا المؤقتين، في فترة تماثل حكمَي الأب والابن أي منذ الملك فيصل الأول إلى آخِرهم “أحمد حسن الخطيب” الذي أتى به حافظ الأسد لمدة ثلاثة أشهر وأربعة أيام ليكون ركيزة له ريثما ينجز شكل رئاسته التي يبدو أنه حلم بها منذ دخوله الكلية العسكرية! وهكذا، عندما يكون كرسي الحكم أقصى ما يفكر به الحاكم، وبخاصة إذا كان الحاكم مفجوعاً، فسوف يقود بلاده إلى خراب كلي، وهذا ما حدث لسورية التي لم تلقَ غير التدمير والخراب وتهجير أهلها طوعاً أو كرهاً، ثم الاحتلالات المختلفة التي تهددها بالتقسيم..
يروي الملازم أول “نصر فرج” عَبْر برنامج “الذاكرة السياسية” على قناة سورية، أنه زار حافظ الأسد، بينما كان يرتب عدداً من الضباط بطلب من العقيد الحموي زياد الحريري تمهيداً للقيام بانقلاب الثامن من آذار 1963 وبهدف إعادة الوحدة، وأنه لبى دعوة حافظ الأسد، فزاره في منزله القريب من حي “البحصة” بدمشق.. وكان الأسد مسرَّحاً من الجيش، ويقول إنه أشفق عليه، إذ وجده في حال من البؤس الشديد، ظهر له ذلك من فرش البيت، والطاولة الحديد المستديرة، والغداء الذي تناوله معه، “مفركة البيض والبطاطا”.. لكنه لم يستفد من زيارته، إذ كان الأسد متكتماً، وأوصاه بأن لا ينسوه، إن تمكنوا من إعادته إلى الخدمة.. ولما أخبر نصر قائده الحريري أجابه والله هذا طيار، ويلزمنا.. لكن الأسد ورفاقه عادوا إلى الجيش يوم الثامن من آذار ذاته من خلال رفاقهم الذين شاركوا في الانقلاب، إذ وصل حافظ الأسد إلى قاعدة الضمير خلال حالة الفوضى التي سببها رفض جمال عبد الناصر لطلب الانقلابيين الذين وضعوا شروطاً لعودة الوحدة الأمر الذي أوقع الانقلابيين في حرج وسُوء تدبير، ومكَّن لأعضاء اللجنة العسكرية (جديد ورفاقه) وعدد آخر من رفاقهم الضباط من العودة إلى الجيش ونسبوا الانقلاب لهم بعد أن أطلقوا عليه اسم ثورة..
ويعود “نصر فرج” ليصف حافظ الأسد: بأنه غامض، ومراوغ، ولا يتورع عن ارتكاب أي شيء.. يؤكد هذا الأمر عضو القيادة القطرية الدكتور حبيب حداد في مذكراته السياسية إذ يشير في مواضع مختلفة من مذكراته المعنونة بـ “النهضة المعاقة” إلى أن حافظ الأسد بعد أن قام بانقلابه، وتمكَّن من السلطة، مارس في الواقع عكس ما كان يطرحه في اجتماعات قيادة البعث.. ومن ذلك، أو جوهره، أن حافظ الأسد الذي كان ضد التعاون مع مصر لأن “جمال عبد الناصر” قَبِلَ بمبادرة روجرز المعنية بتطبيق القرار 242.. كما وقف ضدّ بناء سد الفرات الذي سوف يكون هدفاً لإسرائيل.. ولم يكن مع فكرة الجبهة الوطنية التي نُوقشت في القيادة، وكان أن طلبها السوفيت من مجموعة صلاح جديد ورفضوا الطلب، على أن ذلك شأن سوري داخلي..
ومن هنا فإن الأسد لم يَدُسْ بانقلابه رؤوس رفاقه، وقادته فحَسْبُ، بل إنه ابتلع كل مواقفه السابقة ما دام قد كسب تأييد الروس والأمريكان، وتلقى دعم بعض الدول العربية الفاعلة كمصر، والمملكة السعودية اللتين تنظران إلى مجموعة صلاح جديد على أنها يسار متطرف.. وبالطبع كانت إسرائيل مرتاحة فهي المستفيد الأكبر بإنهاء حرب الاستنزاف التي كانت تلحق بها خسائر بشرية.. وكان الأسد قد أمَّنَ كذلك، الفعاليات الاقتصادية السورية، وبخاصة غرفة تجار دمشق بوعود عن انفراج اقتصادي.. ووافق فعلاً على ما كان يطلبه السوفيت بشأن الجبهة! كما كان قد أجرى اتصالات مع الأحزاب الناصرية، بينما تدبر السوفيت أمر الحزب الشيوعي السوري الذي كان يقف بكليته إلى جانب كتلة صلاح جديد..
وفي عودة إلى واقعنا استطاع حافظ الأسد أن يؤسس دولة ديمقراطية المظهر، استبدادية الجوهر، عسكرية الأدوات.. وعمل على ترتيب الجيش معتمداً على الصداقات والقرابات مدغدغاً نزعات هذا الطيف الاجتماعي أو
ذاك.. مُوجِداً بين رجال الدين مَن يباركه ويُمجِّده.. ولم ينسَ شهوات المؤيدين والمبايعين بالرشوة المباشرة أحياناً، وبإطلاق اليد في مؤسسات الدولة، وفي نواحي المجتمع دائماً.. وقد ضبط حركة العمل السياسي من خلال جبهة اسمية حيَّد نشاطها بالقانون مبعداً إياها عن العمل بين الطلاب الذين هم قادة المجتمع لدى تخرُّجهم، مكتسبين العلم والخبرة.. فاتحاً أبواب السجون والمعتقَلات لكل مَن يجاهر بانتقادٍ مَا.. وهكذا أوصل المجتمع إلى حال من الاختناق حتى إذا ما واتت شبابه فرصة الانتفاض، والثورة لم يجد من يأخذ بيده.. ناهيكم بدور الأجهزة الأمنية وبما سولته الأنفس لبعض مدَّعِي الثورة! ولكن هل انتهى الأمر؟ أبداً فدرب الحرية عسير.. إنه درب الحياة لمن أرادها مهما اشتدت وُعورته، وتزايدت عَثَرَاته.. وإن الأنظمة التي تواجه هذا التغير بالعنف، والبطش ما هو إلا إفلاس وعجز وانتهاء صلاحية، وهو رفض لمطالب الحرية والديمقراطية، وأُسُس دولة المواطنة التي تقوم على العدالة والمساواة وسيادة القانون.. لكن الواقع يقول: إن المستقبل كائن في محتوى ذلك التحرك الشعبي في أغلب البلدان التي حكمها العسكر، أو تقاسمتها الطوائف..
المصدر: نداء بوست