رُبّما كانت زلةُ لسانِ كوندليزا رايس التي تحدثت فيها عن الفوضى الخلَّاقةِ (Creative Chaos) في مطلع عامِ 2005 هي تتويجٌ لعصرٍ جديدٍ عنوانُه الفوضى، وهذا في جوهره أمرٌ تاريخيٌّ يتعدّى موضوعَ الشرقِ الأوسط والعراقِ بل يتجاوزُه إلى العالم قاطبةً , وههنا يصحُّ أن نصفَ المستقبلَ ليس بعصر صراعِ الحضارات أو الحربِ العالمية الثالثة أو عصرِ الروبوتات والذكاءِ الاصطناعي ،ولكن بكلِّ جرأةٍ يمكنُ أن نطلقَ على المستقبل حقبةَ إدارةِ الفوضى.
وهنا لا نتكلمُ عن نظرية المؤامرةِ أو الأجندة التوراتية-الأنجلوسكسونية أو حتى حقبةِ الصراعِ المسيحي-الإسلامي ،ولكن نتكلم هنا عن مفهوم اجتماعيٍّ سياسيٍّ ثقافيٍّ بل وحتى دينٍيٍ! ولكنْ قبلَ الغوصِ في التفاصيل نريدُ أن نسألَ سؤالًا مُلِحًّا : مادافعُ مَن يحكمون العالمَ حين يصنعون الفوضى أو يظنّون أنهم قادرون على إدارة الفوضى التي يصنعونها لصالحهم؟ حقيقةً هذا سؤالٌ مُحيِّرٌ ربّما أستطيعُ تخمينُه ،لكن لا يوجدُ لديَّ يقينٌ من إجابته! قد يكونُ دهاءً شيطانيًّا أو كبرًا بشريًّا لمن ظنّوا أنهم يُحيوا ويميتوا ،أو قد يكونُ خيارًا مرًّا لأهون الضررِ بحسب مراكزِ دراساتِهم التي تتنبأُ بموت الغرب وتلاشي حضارته .كتاب موت الغرب The Death of the West للمؤلف الأمريكي باتريك جيه بوكانن Patrick J. Buchanan الذي نشر عام 2002 يبشرُ بموت وانتهاءِ الغرب. والمؤلِّفُ في هذا الكتابِ ينبِّهُ إلى أنّ الموتَ الذي يلوحُ في أفق الغربِ هو في الواقع موتان: موتٌ أخلاقيٌّ بسبب السقوطِ الأخلاقيِّ الذي ألغى كلَّ القيمِ التربويةِ والأسرية والأخلاقية التقليدية، وموتٌ ديموغرافيٌّ وبيولوجيٌّ (النقص السكاني بالموت الطبيعي). ويظهرُ هذا -بحسب رأي الكاتب- بوضوح في العائلة وفي السجلات الحكوميةِ التي تشيرُ إلى اضمحلال القوى البشريةِ في الغرب ،وإصابةِ ما تبقى منها بشيخوخةٍ لا شفاءَ منها إلا باستقدام مزيدٍ من المهاجرين الشبان، أو بالقيام بثورةٍ حضاريةٍ مضادةٍ تعيدُ القيمَ الدينيةَ والأخلاقيةَ إلى مكانتها التي كانت من قبل.
لكن كلُّ ما سبق من تكهنات هل يعني حتميةَ عصرِ الفوضى في المستقبل ؟ للجواب على هذا التساؤلِ يمكنُ استشعارُ أمرين : الأمرِ الأولِ هو المنحى المتدهورُ للمشهد العالمي و الرغبة الحقيقية لدى صناعِ القرارِ العالمي لقوننة الفوضى وهذا أمرٌ خطيرٌ للغاية , حيث يكفيك -عزيزي القارئ-رؤيةُ علمِ للمهجرين والمشردين يرفرفُ في الأولمبياد لاستشعار هذا ,أو مراقبة إدارة الملفاتِ الشرقِ أوسطية أو ملفاتِ صناعة وتوزيعِ الطاقةِ أو حتى ملف التغيرِ المناخي أو حتى قوننةِ جيوشِ المرتزقة عبر العالم ….الخ , الأمر الثاني الاستشهادُ بالسنن الكونية التي أبلغنا فيها تفضلًا ربُّ العباد حين ذكر لنا السنةَ الكونيةَ المفتاحَ لهذا المشهد :{وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً}[الإسراء 16], وكذلك رغبةُ الشيطانِ العميقة بدفع البشريةِ للهلاك( قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ ۖ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ) [الأعراف 16-17],( وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ ۚ وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا ) [النساء 119]. وهنا يبدو أنّ السننَ الكونيةَ تتجهُ لهذا المشهدِ الذي نتلمسُ دينامياتِه في وقتنا الحالي!
لكن مادورُنا نحن وكيف ننجو من خبث الشيطانِ ومكر البشر الذي يقعُ ضحيتَه أكثرُ أهلِ الأرض ? يقول جيمس جليك James Gleick في كتابه الفوضى: صنعُ علمٍ جديدٍ, Chaos: Making a New Science “ لا ترى شيئًا حتى يكونَ لديك الاستعارةُ الصحيحةُ التي تسمحُ لك بإدراكه”, وكذلك يقول في الكتاب نفسِهِ “الأفكارُ التي تتطلبُ من الناس إعادةَ تنظيمِ صورتهم للعالم تثيرُ العداء.” من المتعارف عليه أنك إن لم تصنعْ نظامًا فأنت تصنعُ الفوضى, لكنِ السؤالُ الهامُّ أيّ نظامٍ نصنعُ وهل تكفي الشعاراتُ والتنظيرُ الفلسفيُّ القرآنيُّ لبناء هذا النظامِ الذي يحاربُ الفوضى ؟ تبدو الإجابةُ عن هذا السؤالِ معقدةً، وقد أفردت للجواب عنها كتابًا كاملًا صدر حديثاً بعنوان “بين الديمقراطية والثيوقراطية أين تكمن الحقيقة؟” ومنه اقتبسُ الخاتمة:
“في النهاية، نجزمُ أنّ روعةَ الدستورِ الإلهي تكمنُ في أنه صاغَ الغائيةَ والقواعدَ العامة فأصبح أوسعَ من أيِّ نظريةٍ بشريةٍ بل يكادُ يمتصُّ كلَّ النظريات (بما فيها نظريات فوكوياما وهنتنغتون وألينسكي..) والتي بالطبع ستكون إبداعيةً بشريةً بطبيعتها ومتبدلةً بحسب الزمان والمكان وما يفرضُه من علاقات اقتصادية ومادية وتكنولوجية، لكن بشرط ألا تخرجَ عن الغاية والقواعد العامة (السنن الكونية)؛ ﴿فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا﴾ [فاطر: 43]. وهذا يثبتُ أنّ اخضاعَ الديمقراطيةِ الليبرالية للكنيسة الغربية كان نتيجةَ عجزِ الكنيسة عن تحقيق الغائية، وإبداعَ الوسيلة التي تحققُ كرامةَ الإنسان وتؤمِّنُ نجاحَ البشرِ في مهمة الاستخلافِ، والإسلامُ السياسي سيفشلُ بالتأكيد إذا سلك نفس الطريق! وهذه دعوةً مفتوحةً في سبيل إرساءِ معالمَ لنظريةٍ تُغنينا عن استجداء النظرياتِ من هنا وهناك، تلك النظرياتُ التي جعلتنا نتحرّجُ من تعريف ذاتنا كأُمّة.
النظرياتُ الإبداعية التي نتطلعُ إليها تلتزمُ بالنسق السنني في القرآن الكريم والذي يسيرُ في جدلية مضبوطةٍ توجهُ الحركةَ الإنسانية صوبَ أهدافٍ ومآلاتٍ ملتزمة بالغائية ولا تتصلبُ عند شكلِ الوسيلة مادامت ضمنَ القواعدِ العامة، بل تتفوق على النظريات الصلبةِ الحالية (من أمثال النيوليبرالية ـ Neoliberalism) بمرونتها وتكيفها مع الزمان والمكان.