نغرق هذه الأيامَ بالعشرات لا بل بالمئات من التحليلات التي تحاول فهمَ وتحليلَ واستشرافَ المستقبلِ في الحرب الأوكرانية والصراع الغربي، وقبلها عانينا من نفس الموضوعِ مع كورونا والاقتصادِ العالمي. لكنّ السؤالَ الذي لطالما كان يجول في خاطري وقد كتبتُ العشراتِ من المقالات، هل الناسُ تبحث عن الحقيقة أم تبحث عن التحليلات والآراء التي تسعدُها وتنسجم مع العالمِ الذي تعرفُه وتألفه وهو غالبًا ما يكون- خصوصًا في دولنا -بعيدًا عن الواقع؟!
ظاهرةُ الوهمِ المريحِ ظاهرةٌ علميةٌ تحدثْنا عنها في مقالات سابقةٍ، وهي ميلُ الطبيعةِ البشرية بعدم الغوصِ في العمق، والرغبة في التمسك بالأسهل والأريح، وإن كان مخالفًا للحقيقة والواقع . يقول نجيب محفوظ: “ربّما اختلف اثنان، وكلاهما على صوابٍ”، فمن ناحية وجهاتِ النظرِ، والأمورِ التي يحتار فيها العقلُ، ويختلف فيها السابقون والحاضرون جميعًا، نختلف نعم ونتفرق، ولا تجمعنا رؤيةٌ ربما، وقد يكون كلٌّ منا على صواب، ولكن في الأمور الواضحة، التي هي إمّا حقٌ وإمّا باطل، لا يمكن أن نختلفَ إلا إذا كان أحدُنا على حقٍ والآخرُ على باطل، يقول الغزالي -بصرَنا اللهُ بعلمه: “ما أحسبُ المتفرقين على حقِّهم أصحابَ حقٍّ، فطبيعةُ الحقِّ أن يجمعَ أهلَه، وإن أعدادًا كثيرة من السائرين تحت لواءِ الحقِّ، يكمنُ في باطنهم أباطيلُ كثيرةٌ، فهم يحتشدون بأجسادهم فقط تحت رايةِ الحقِّ، ويبدو أنّ المآربَ الكثيرة، والأغراضَ المختلفة، تجعلُ لكل منهم وجهةَ نظرٍ هو موليها”. فالقولُ واضحٌ، والبيانُ معلنٌ، ولعلهم يفقهون.
العجيبُ في قصص القرآنِ أن الحقيقةَ الجليةَ لطالما تغاضى عنها البشرُ، لا لشيء إلا لأنها تأتي بالتغيير الذي لا يمكن التنبؤُ به، والذي يهدمُ العالمَ المريح نسبياً لعقولهم، ومثال ذلك في قصة سيدِنا يوسفَ، فرغم أنه ثبتَ للجميع أنه بريءٌ من جريمة الزنا بإمرأة العزيزِ، فقد ألقي به في السجن! كذلك قومُ سيدنا إبراهيمَ (عليه السلام ) فرغم أنه أدهشهم بحجته أن من حطم أصنامَهم هو كبيرُ الأصنامِ ، فقد ألقوه في النار لا لشيء، إلا أنه يهدم عالمًا افتراضيًّا ارتاحوا له وآنسوه وأدركوا أبعادَه! الشيءُ نفسُه في صراع أمتنا مع مستبديها ومناصريها في وقت واحدٍ، فلا عالم يعلوا على العالم والمفاهيم التي زُرعت وزرعناها نحن أفرادًا وجماعاتٍ في عقولنا!
نشر ستيفن هوكينج عام 2006 سؤالًا دون إجابة على الإنترنت مفادُه: “كيف سيتمكن الجنسُ البشريُّ من الدوام لمائةِ عامٍ أخرى في ظل عالمٍ تملؤُهُ الفوضى السياسية والاجتماعية والبيئية؟”. وأوضح معقبًا على السؤال فيما بعد بقوله: “لا أعرف الجواب. ولهذا السببِ طرحتُ السؤالَ لأحملَ الناسَ على التفكير في الأمر وليكونوا واعين إزاءَ الأخطارِ التي نواجهها الآن.
سنة 1974 برهن “ستيفن هوكينغ” نظريًّا على وجود إشعاعِ هوكينغ، وهو إشعاعٌ حراريٌّ تتنبأ الفيزياءُ بأنه يصدرُ عن الثقوب السوداء، ويعتقد أنّ إشعاعَ هوكينغ هو ما يتسببُ في تقلص الثقوبِ السوداءِ واضمحلالها بل و حتى موتها، وهذا وضعَ العلماءَ وخصوصًا علماءَ ميكانيكا الكمِّ في حيرة كبيرة، فقد كانوا مرتاحين لعظمة نظريةِ اينشتاين التي تتحدث عن حتمية المعلومةِ وعدم اختفائِها تحت أيِّ سببٍ. أما نظريةُ هوكينغ فتنبأت بموت الثقوبِ السوداءِ واندثار كلِّ المعلوماتِ التي امتصتها خلال حياتِها.
تلك الحادثةُ كدكان التحليلاتِ الحالية تضعُنا أمام خيارين؛ هل نستسلمُ للمعلومة التي تريحُنا وتجعلُنا سعداءَ متصالحين مع ذاتنا ومع مَن حولنا، وقد عشنا معهم لقرون عديدةٍ متناغمين منسجمين في عالم يشبهُ ميتافيرس، أم نضعُ الحقيقةَ البينةَ أمامنا، وإن كانت مزعجةً ومحطمةً لعالمنا. لقد أبدع فيلمُ ماتريكس The Matrix في تجسيد هذه الحالةِ، وحددها بخيارين: الحبةِ الزرقاء، والحبةِ الحمراء!
الأمرُ ليس بالسهولة التي نظنُّها فستيفن هوكينغ نفسُه دخل في هذا الصراعِ، وأراد أن يجدَ السلامَ الداخلي، فأخرج أخرَ نظرياته التي تحاولُ جمع العالمين قبل موته بسنوات قليلة، حيث قال: إن المعلوماتِ تُخزَّنُ على سطح الثقبِ الأسودِ عند اصطدام الأجسامِ بسطحه قبل أن تختفيَ للأبد! وبذلك لا تضيعُ المعلوماتِ عن الزمان والمكان، عن التاريخ والمستقبل!
سيدُنا إبراهيمُ عليه السلام والأنبياءُ جميعًا عانوا هذا الشيءَ، لكن ثبتتْهم الإرادةُ الإلهيةُ في حادثة الطيرِ مع سيدِّنا إبراهيمَ، ورؤيةِ الخالقِ مع سيدِّنا موسى، والإسراءِ والمعراج مع خاتمِ الأنبياءِ سيدنا محمد (ص).
ستيفن هوكينغ في مؤتمر زايتجايست Zeitgeist الذي نظمته شركةُ جوجل عام 2011 قال: إن “الفلسفة ميتة”. حيث يعتقدُ هوكينغ أن الفلاسفةَ “لم يواكبوا تطوراتِ العلمِ الحديثة”، وقال: “أصبح العلماءُ حاملين لراية الاكتشافِ في سعينا وراء المعرفة”. وعبّر عن اعتقاده بقدرة العلمِ على حل القضايا الفلسفيةِ العالقةِ، خصوصًا نظرياتِ العلمِ الجديدة “التي ستقودنا صوبَ صورةٍ جديدةٍ ومختلفةٍ للغاية عن الكونِ وموقعنا فيه”.
إذن ما الحقيقةُ في تلك الدكانةِ المليئةِ بالتحليلات؟ هل التحليلاتُ التي تعطينا جرعةَ تفاءلٍ، ولا تزعجُ السلامَ الداخليَّ الذي نعيشُه داخل عقولنا، أم التحليلاتُ التي تتبع الحقيقةَ ولو كانت مزعجة ومؤلمة ، أم تلك الطريقةُ التي أشار لها هوكينغ بأن نجعلَ الدينَ يتبع العلم؟! سؤال علينا التفكير به، لكن مما لا شك به، أن عظمةَ الكونِ الذي هو حقيقةٌ دامغةٌ في حجمه ودقته المتناهيةِ التي تجعل كميةَ العلمِ التي نمتلكُها غيرَ كافيةٍ ضمن أعمارِنا البشريةِ القصيرة لجعل الإيمانِ تبعًا للعلم، تجعل الإيمانَ بوصلةً حقيقيةً ثابتة، وهنا تأتي عظمةُ القرآنِ متلازمة مع حقيقةِ الجهلِ العميقِ لمن يدَّعون الإسلامَ، وهم في آخر درجاتِ العلمِ والتفكير! إذا إن كنت تبحث عن الحقيقة ،فنصيحتي ألا تبحث عنها في ذلك الدكان …فغالبًا لن تجدها!