في إدلب كما في غزة تجمع سكاني كثيف، وبقعة جغرافية صغيرة، وسيطرة أمنية وسلطوية للقوى الإسلامية الأكثر تشددًا، واستهداف دائم ومتواصل من قبل دولة الاحتلال الاسرائيلي في غزة، ومن قبل دول الاحتلال الروسي والأسدي والإيراني كما في إدلب، علاوة على قيام حالة من الانفصال والتشظي في الوضع الفلسطيني حالت دون إمكانية التوحد مع باقي مكونات الشعب الفلسطيني وفصائله لتكون هناك حكومة في غزة وحكومة أخرى في رام الله، ولأن الوضع في إدلب يتشابه بالضرورة مع واقع غزة فقد أصبحت هنا في إدلب أيضًا حكومة سميت بحكومة الانقاذ، وحكومة أخرى قبل ذلك في باقي الشمال السوري خارج سيطرة النظام السوري سميت بالحكومة المؤقتة.
ويبدو أن حال الشعب السوري وآلامه كلها والمقتلة الأسدية المتواصلة لم تدفع تلك القوى للتفكير بعقلانية ما وصولًا إلى إنهاء حالة الانقسام في غزة ورام الله، وهي أيضًا (أي نفس الحالة) مستمرة بين حكومتين في إدلب للإنقاذ وفي الشمال للمؤقتة.
وبغض النظر عن كل مايقال عن شيطنة الأوضاع في إدلب، فإن الواقع يقول إن إدلب هي قطعة مهمة من ثورة الشعب السوري وجغرافية سورية، التي مازالت خارج سيطرة النظام، وأصبح فيها ماينوف عن 3 ملايين إنسان سوري، الأكثرية منهم من أهالي محافظة إدلب، والبقية من باقي الشعب السوري المكلوم الذي قام نظام الأسد بمعية مسار أستانا ومناطق خفض تصعيده بعملية التهجير القسري (جريمة العصر) إلى إدلب التي أفضت إلى هذا الواقع السكاني المتشكل في إدلب من كل بقاع سورية.
اليوم ولأن الواقع المأساوي للسوريين في إدلب وفي سواها من الشمال السوري، واضح المعالم، ولأن ناقوس الخطر يدق باستمرار، ويقول حسب «الشبكة السورية لحقوق الإنسان» في تقريرها السنوي العاشر إن الانتهاكات بحق الأطفال مثلاً في سورية بمناسبة اليوم العالمي للطفل، تزداد اضطرادًا وإنَّ «ما لا يقل عن 29661 طفلاً قد قتلوا في سورية منذ مارس (آذار) 2011، بينهم 181 بسبب التعذيب، إضافة إلى 5036 طفلاً ما يزالون معتقلين أو مختفين قسرياً». كما أن نفس التقرير قد سجل مقتل 29661 طفلاً على يد أطراف النزاع والقوى المسيطرة «بينهم 22930 قتلوا على يد قوات النظام السوري، و2032 على يد القوات الروسية، و958 على يد تنظيم (داعش)، و71 على أيدي (هيئة تحرير الشام)». وأضافَ، أنَّ «(قوات سوريا الديمقراطية) ذات القيادة الكردية قد قتلت 237 طفلاً، في حين قتلت جميع فصائل المعارضة المسلحة/ الجيش الوطني 996 طفلاً. وهذا غيض من فيض من معاناة السوريين المستمرة، في جل الجغرافيا السورية، وكذلك في الشمال السوري بشقيه. ألا يفترض كل ذلك ونتيجة حالة الاستعصاء والاستنقاع الكبرى التي يعيشها الواقع السوري، والمسألة السورية برمتها، ألا يستدعي ذلك البحث في حلول مؤقتىة ودائمة بدوام هذا الواقع، علها تنتج أوضاعًا معيشية أفضل، وقادرة على مساعدة السوريين في الشمال للخروج من عنق الزجاجة،وقسوة المعاناة.
وإذا كانت السيطرة الأمنية والعسكرية والسياسية على واقع حكومتي الإنقاذ والمؤقتة للإخوة االأتراك، ومن ثم فان الواقع المتحرك في إدلب يمكن أن يلقى تعاونًا وحلًا ما، ويساعد السوريين على القيام بخطوات أفضل وأكثر جرأة مساهمة في الحل المؤقت/ الدائم.
ولنقلها بصراحة وجرأة ومن أجل الشعب السوري الذي مازال يعاني بقوته وغذائه وحيواته كلها، هل بات من الاستحالة رغم وجود الرعاية التركية، الضغط باتجاه حل فصيل هيئة تحرير الشام وإعادة السوريين المنتمين إليه إلى احتضانهم في تشكيل عسكري سوري وطني، يساهم في امتلاك أرضية عسكرية قوية وموحدة، ومن ثم يسمح بإقامة حكومة واحدة تجمع الحكومتين، وكلاهما من السوريين، وباتالي يسهم كل ذلك في الخروج من حالة الاستنقاع التي يعيشها السوري في الشمال.
وهل بات صعبًا لدرجة الاستحالة القيام بمثل ذلك؟ وهل يمكن أن يدخل هذا الأمر في سياقات الحوار الدائر حول الوضع السوري بين الإدارة الأميركية، والدولة التركية في أنقرة منذ أيام.
أعتقد بل أجزم أن الخطوة الشجاعة في هذا الاتجاه باتت مطلوبة وبإلحالح في إدلب والشمال، كما هي مطلوبة بين غزة ورام الله، ويمكن في إدلب أن تنتج حالة شعبية أفضل وأكثر التفافًا على المنتج الجديد فيما لو حصل، ونحن نشهد في السياق التوحيدي الخطوات التي يتخذها الائتلاف كمبادرات جدية كان من الصعب أن نراها، كما رأيناها مؤخرًا من دعوة الائتلاف لهيئة التنسيق الى اجتماعات جدية، وصولًا إلى اتفاقات بينية تفضي إلى إعادة تفعيل هيئة التفاوض المعطلة منذ سنوات.
وعندما يتم طرح بعض هذه الأفكار الصادمة للبعض، في سياق البحث في أوضاع إدلب وإمكانية حلها، فإن مرد ذلك هو البحث الجريء والعقلاني نحو إيجاد حلول لواقع من المعاناة لم يشهد الواقع السوري مثيلاً له منذ سنين، أي منذ ماقبل قيام ثورة الحرية والكرامة.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن الدولة التركية بسياساتها العقلانية والحريصة والرصينة، يمكن أن تكون جاهزة للقيام بمثل هذه الخطوات أو مباركتها على الأقل، وهي ترى انسداد الآفاق الأخرى للحل، وتعثر كل الحلول المشابهة، كما أنها ترى أن إمكانية التعاون والتنسيق والإنسجام بين فصائل الجيش الوطني السوري، وهيئة تحرير الشام كانت وما زالت قائمة، خاصة لحظة الخطر وأيام الاستهداف المباشر والمستمر من قبل النظام السوري وداعميه للشمال السوري. فلم لايكون هذا التنسق والانسجام منتقلًا ومتحركًا باتجاه حكومتين يُفترض بهما أن يعملا لصالح السوريين وليس غير ذلك.
الأوضاع الدولية المتغيرة، وحالة القبول الدولي والاقليمي قد تكون أضحت جاهزة لمثل هذه الحلول، وقد تكون أصبحت مدخلًا ممكنًا، ومن المحتمل أن يساهم جديًا في إعادة إنتاج واقع إنساني وسلطوي في إدلب والشمال أكثر انسجامًا وأكثر توحيدًا، وأكثر حلاً لمشاكل السوريين اليومية التي فاقت كل حد، بعد موجات الغلاء الكبيرة والمتواصلة، وبعد استمرار المقتلة الأسدية لتطال كل الشمال السوري بلا استثناء.
يرون ذلك بعيدًا، وأراه ممكنًا وقادرًا على الحل المؤقت، ولأن أحد تعريفات السياسة انها علم وفن الممكن والمتاح، فإن لتواجد القوات العسكرية التركية الكثيف في إدلب الدور الأهم والمسيطر لإنتاج حالة جديدة تساهم بالضرورة في توحيد السوريين، وتنهي حالات الشيطنة، وتغفر عما سلف، تبني ولا تهدد، وتساهم في تضميد الجراح والتئام الجروح. فهل بات ذلك ممكنًا من قبل السوريين وسياسييهم، ويجد من يمسك به ويدفع بكل الغيرية والحرص على مستقبلات الأيام المأمول أن تكون أكثر إشراقًا للسوريين؟!
المصدر: موقع تلفزيون سوريا