ليست أوضاع الدول العربية، بصورة عامة، على ما يُرام. هذا معروفٌ لدى المهتمين المتابعين، بل واقع ملموس بين أوساط الناس العاديين لكون الموضوع قد أصبح جزءاً من منغّصات حياتهم اليومية في مختلف الميادين. وربما يختلف الساعون إلى تحديد بواعث هذه الظاهرة المستدامة وخلفياتها وآثارها حول بعض التفصيليات والأسباب؛ ولكنهم يتوافقون بشأن مأساوية الظروف التي يعيشها الناس في معظم تلك الدول التي يعاني بعضها من خلافات داخلية وصراعات حول السلطة، كما الأحوال في السودان وتونس وليبيا؛ بينما يعاني بعضها الآخر من توتراتٍ بينية، كما هو الوضع بين الجزائر والمغرب. هذا في حين أن جملة من تلك الدول قد باتت ضحية التدخلات والمشاريع الأجنبية، لا سيما الإيرانية منها، كما هي الأحوال عليه في سورية ولبنان والعراق واليمن. وهناك دول تعاني من صعوبات اقتصادية تثقل كاهل الناس، وترفع حدّة التذمّر لديهم، ويتجلى ذلك في مثالي مصر والأردن.
وحدها دول مجلس التعاون الخليج تتمتع باستقرار معقول، وهي تمتلك إمكانات مالية ضخمة، وطاقات ومؤهلات بشرية واعدة، كما تتمتع بوزن مؤثر عربياً وإسلامياً ودولياً، غير أن ما نشهده اليوم من مبادرات وتحرّكات فردية من هذه الدولة أو تلك من الدول المنضوية تحت لوائه في التعامل مع قضايا بالغة الحساسية والتأثير، يؤكد أن الأمور داخل المجلس هي الأخرى ليست على ما يُرام، على الرغم من الانطباع السائد بوجود صيغةٍ من التفاهم والتنسيق في المواقف، فما حصل بالنسبة لموضوع التطبيع مع إسرائيل أثار تساؤلاتٍ كثيرة، تمحورت، في معظمها، حول الموقف السعودي الفعلي مما جرى ويجري.
موضوع السلام مع إسرائيل حيوي محوري، عُقدت من أجله اجتماعات كثيرة، وطُرحت مبادرات كثيرة، لعل أهمها مبادرة السلام العربية التي أطلقها الملك الراحل عبدالله بن عبد العزيز، وتبنتّها القمة العربية في بيروت عام 2002، وهناك قرارات دولية أممية في هذا الشأن، سيما قرار مجلس الأمن 242 لعام 1967. ومن شأن الوصول إلى حل عادل لهذا الموضوع أن يفتح الآفاق أمام تنمية مستدامة لصالح جميع دول المنطقة وشعوبها وأجيالها المقبلة. ولكن مثل هذا الحل يستوجب موقفاً جماعياً، يراعي الحقوق الفلسطينية المشروعة. أما المواقف والصفقات الفردية فتُضعف الموقف العربي، ولا تساهم في تعزيز الأمن والاستقرار في المنطقة. كما أن المواقف الفردية تفتح المجال أمام القوى الإقليمية والدولية للتدخل، وتمكّنها من تجيير المواقف بما يتناغم مع حساباتها واستراتيجياتها؛ وهذا ما تفعله على سبيل المثال إيران من خلال ما يُعرف بـ “محور المقاومة والممانعة”. والأمر كذلك فيما يخص التعامل مع ملفات مختلف الدول العربية، سواء في سورية واليمن والعراق أو في لبنان وليبيا وتونس، أو في السودان وفلسطين.
مناسبة هذا الحديث زيارة وزير الخارجية الإماراتي، عبدالله بن زايد، إلى دمشق، ولقاؤه مع بشار الأسد، وتبادل عبارات المجاملة معه، وسط تكهنات بانفتاح عربي رسمي على النظام، يكون مقدّمة لإعادته إلى جامعة الدول العربية. وبعد جملة من الخطوات التعويمية ضغطت روسيا من أجلها في مختلف الاتجاهات، بهدف تسويق الأسد مجدّداً. وكان لافتا الترحيب الإيراني بالزيارة، وقول الأمين العام لحزب الله، حسن نصرالله، إنها أكّدت “هزيمة المشروع الإرهابي”، وذلك في إشارة إلى الثورة السورية التي كانت على استبداد الحكم الأسدي “عماد محور المقاومة” وفساده. هذا في حين أن الولايات المتحدة أعلنت على لسان وزير خارجيتها، أنتوني بلينكن، عن قلقها من الإشارات التي ترسلها الزيارات الرسمية إلى سورية، كما بيّن بلينكن مجدّداً أنهم لا يدعمون التطبيع مع النظام، ودعا شركاء أميركا إلى تذكّر الجرائم التي ارتكبها النظام المعني بحق السوريين، وذلك في المؤتمر الصحافي المشترك الذي عقده مع وزير الخارجية القطري محمد بن عبد الرحمن آل ثاني في واشنطن. بينما أكد الوزير القطري عدم استعداد بلاده للتطبيع مع نظام الأسد؛ بل أضاف أن بلاده ترى ضرورة محاسبة النظام المذكور على جرائمه التي ارتكبها في حق الشعب السوري. .. وهذا مع العلم أن قانون قيصر الأميركي يفرض العقوبات على الجهات التي تساهم في مشاريع إعادة الإعمار مع نظام بشار، وذلك قبل حدوث عملية انتقال سياسي حقيقية تأخذ بالاعتبار حقوق السوريين.
جاءت الخطوة الإماراتية بعد خطوات ومشاريع فسّرت بأنها تمهيد لفك العزلة عن النظام، منها: مشروع نقل الغاز من مصر إلى لبنان عبر الأردن وسورية؛ والاتصال الذي تم بين بشار الأسد وملك الأردن عبدالله الثاني، والاتصال الذي تم بين الأول وولي عهد أبوظبي، محمد بن زايد، واللقاءات التي تمّت بين وزير خارجية النظام، فيصل المقداد، ووزراء خارجية دول عربية عديدة في نيويورك. ولكن الأنظار جميعها متجهة اليوم نحو السعودية في انتظار معرفة موقفها الرسمي من هذا الموضوع. هل تعتبر هذه الخطوات مجرّد بالونات اختبار في انتظار التوافق الروسي والأميركي بشأن سورية، وهو توافق من المفروض أنه سيأخذ بالاعتبار مواقف القوى الإقليمية الكبرى، كما أنه سيتفاعل معها من جهتي التأثير والتأثر؟
بكلام آخر: هل السعودية موافقة على الخطوة الإماراتية ومباركة لها، أم أن هذه الخطوة مجرّد مبادرة فردية، يسوّغها مبدأ الحق السيادي، فهي نتيجة اجتهاد شخصي تمليها الحسابات الخاصة بالإمارات وحدها؟ هذا في حين أن ما يجري في سورية والمنطقة من تدخل إيراني شمولي سافر يؤكد أن الحسابات الفردية لا تكون مجديةً عادة في التعامل مع قضايا استراتيجية كبرى تهم الجميع، وتلحق نتائجها السلبية الضرر بالجميع، وتستلزم حلولها تضافر جهود الجميع وتكاملها.
السوريون جميعهم، وفي منأى عن المصطلحات النمطية (موالاة ومعارضة وغيرهما) يرون أن الحل السياسي هو المطلوب في سورية، غير أن هذا الحل لا يمكن أن يكون عبر الإقرار بصوابية مواقف مَنْ أوصل السوريين وبلدهم إلى وضعيةٍ كارثيةٍ غير مسبوقة بكل المقاييس. وما زال يفكر بعقلية انتقامية ثأرية، ويخوّن غالبية الشعب السوري، بل يسخر من دول الخليج ومجتمعاتها، ويتهمها علناً باشتراكها في “المؤامرة الكونية” التي استهدفت نظامه، ودوره المفصلي في “محور المقاومة” الذي خلخل المجتمعات، ودمّر العمران في المنطقة.
ولعل من نافل القول هنا التذكير مجدّداً بأن كل هذا ما كان له أن يحصل لولا سلبية المجتمع الدولي، وتراجعه أمام الإصرارين، الروسي والإيراني، على الاحتفاظ بالأسد عبر دعم نظامه بكل أشكال الدعم. .. من تسبّب في تهجير أكثر من نصف السوريين، وقتل أكثر من مليون سوري، ودمر المدن والبلدات السورية، وقضى على مستقبل جيل كامل، لا تجوز مكافأته بذريعة أن ذلك سيبعده عن النظام الإيراني، والجميع يعلم أن العلاقة بين النظامين أكثر من عضوية، ولا تشمل سورية وحدها، بل تمتد إلى لبنان واليمن والعراق وفلسطين، وتستهدف المزيد. وهناك حديثٌ عن مبادرات وتوافقات و”لا أوراق”، لكن ذلك كله يصطدم بتناقضه مع الوقائع، وتجاهله طبيعة هذا النظام الذي أدمن التقية، وأثبت في جميع المراحل عدم التزامه بأي وعد أو تعهد.
مجلس التعاون الخليجي، بقيادة السعودية، يمكنه التأثير في المواقف العربية والإقليمية والإسلامية، ويستطيع، بفضل تأثيره في الميدان الدولي، أن يتدخّل لإعادة التوازن إلى الوضع المختل في المنطقة، وهذا ما سيكون في مصلحة دوله ومصلحة المنطقة بأسرها. وهو يستطيع، من خلال حوارات إقليمية معمقة مع جميع الأطراف، أن يدفع الأمور نحو تفاهمات وتوافقات، تأخذ بالاعتبار مصالح شعوب المنطقة ودولها، وتمهّد الأرضية لحلول سلمية تضع حدّاً للآثار المدمرة التي تركتها النزاعات والحروب التي تعيشها منطقتنا منذ عقود. ولكن هذا كله يستوجب توحيد المواقف، والتقدّم باستراتيجية متكاملة مبنية على الحلول العادلة التي تقدم معالجة حقيقية، معالجة تتجاوز بدعة المبادرات الفردية التي تشوّش البوصلة، وتهدر الإمكانات والطاقات، ولا تؤدّي إلى المطلوب.
المصدر: العربي الجديد