تتسارع خطوات “الحرس الثوري” الإيراني من أجل ترسيخ نفوذه في سوريا، وتسابق المساعي الروسية من أجل خفض قدرة طهران على التأثير في مركز القرار في دمشق، بموازاة إصرار الدول الغربية على أن تشمل جهود إحداث تقدم في الحل السياسي انسحاب القوات الإيرانية من بلاد الشام، كشرط من شروط التعاطي المختلف مع الوضع في سوريا.
إلا أن اشتراط الدول الغربية أن تتعاون روسيا معها في الضغط على إيران كي تسحب قواتها من الميدان السوري يصطدم في كل مرة بعدم قدرة موسكو على تحقيق ذلك، بسبب اتساع وعمق الوجود الإيراني على الأراضي السورية، في وقت يرى محللون سوريون أن الكرملين ليس في وارد الضغط على طهران في سوريا حتى إشعار آخر، لأنه يعتمد على وجودها على الأرض من أجل تثبيت رئيس النظام السوري بشار الأسد في الحكم، طالما لم يحصل اتفاق نهائي بينه وبين الإدارة الأميركية، سواء على سوريا أو على قضايا إقليمية ودولية جوهرية أخرى. ويرى هؤلاء أن موسكو تحاول تحسين موقعها على الأرض من وقت لآخر، في إطار تناقض المصالح.
تفوق إيراني عقاري وبالتعبئة الدينية
وعلى الرغم من التنافس المتواصل بين روسيا وإيران على النفوذ في دمشق، فإن بعض المراقبين السوريين يعتقدون أن طهران استطاعت في السنوات الأخيرة، بعمل دؤوب وخطط بعيدة المدى، أن تكسب وجوداً اقتصادياً وعقارياً في العديد من المناطق السورية، سواء في الجنوب أو في الشمال الشرقي، وصولاً إلى مدينة حلب عن طريق إنشاء الجمعيات وعمليات التشييع وشراء العقارات التي تنشئ بيئة اجتماعية يجري فيها زرع القواعد العسكرية من مقاتلي الميليشيات الذين استقدمتهم من العراق وأفغانستان وباكستان ولبنان.
وإذا كان محيط بعض المقدسات مثل مقام السيدة زينب في دمشق أحد الأمثلة على التوسع العقاري لهذا المعلم الديني الذي كان قبل الحرب السورية في عهدة عائلات سنية تخدم الحج إليه، ثم تحول بعدها إلى منطقة تحيط بها القواعد العسكرية الأخيرة الإيرانية والتابعة لـ”حزب الله”، فإن التقارير أخذت تتحدث في الآونة عن موجة شراء “الحرس الثوري” العديد من العقارات في محيط دمشق تمكنه من إحكام نفوذه في منطقتها الجنوبية الشرقية.
توسع البيئات الحاضنة للقواعد العسكرية
لكنه استطاع أيضاً إنشاء مواقع دينية أخرى في مناطق في وسط سوريا وفي الشمال الشرقي، سنية بمعظمها، مثل محيط مدينة حمص حيث أقيم مزار تحلقت من حوله منافع اقتصادية لما بقي من سكان فيها، حملتهم الضائقة الاقتصادية على تأجير أبنية أو بيع أراض، وعلى القبول بالتشيّع في بعض الأحيان، من أجل الإفادة المالية والتجارية الناجمة عن تمركز الميليشيات التي تستقر فيها. ويقول هؤلاء إن معظم المناطق التي تتكرر أسماؤها على أنها تعرضت للقصف الإسرائيلي الدوري (آخرها قبل 3 أيام في 8 نوفمبر “تشرين الثاني” على وسط وغرب سوريا ومطار الشعيرات جنوب غرب حمص) لاحتوائها على مستودعات أسلحة إيرانية، أو على قواعد للحرس الثوري و”حزب الله” ولميليشيا “فاطميون” و”زينبيون”، هي مناطق تعرضت لتغييرات ديموغرافية ودينية، فصارت حاضنة لمواقع عسكرية بطريقة أو بأخرى.
وهذا يشمل الشرق السوري حيث ازداد عدد الأفغان الهزارة (لا سيما بعد انتقال أعداد منهم إلى سوريا إثر الانسحاب الأميركي من أفغانستان) ومطار “تي فور” ومحيطه، ومنطقة الميادين والبوكمال على الحدود العراقية السورية حيث يوجد مقاتلو “حزب الله” العراقي و”عصائب أهل الحق” ومجموعات من “الحشد الشعبي” العراقي، وتحولت تلك البقعة الحدودية إلى منطقة تبادل تجاري.
ويسجل المراقبون السوريون وجود بعض الميليشيات الموالية لإيران في جنوب غرب منطقة دير الزور، وفي بعض المواقع على المجرى الجنوبي لنهر الفرات بحيث يتم التحكم والقدرة على التدخل، على الطرقات إلى حلب، وتدمر وحمص.
استغلال الضائقة الاقتصادية خلافاً لروسيا
يختصر الذين يرصدون هذا التوسع عبر استئجار أو شراء الأراضي في هذه المناطق بالقول إن إهمال الدولة السورية السكان وتدهور معيشتهم في ظل الأزمة الاقتصادية جعل المنافع الاقتصادية التي يقدمها الجانب الإيراني وإغراءات التشيّع سبباً لهذا التوسع. وهو أمر سبق أن حصل في الجنوب السوري في محافظات درعا، حيث سعى الجانب الروسي خلال الصيف الماضي إلى الحد من توسع الانتشار الإيراني عبر الاتفاق الذي رعاه بين النظام والمجموعات المسلحة المعارضة له. هذا بالإضافة إلى محافظة السويداء التي تشهد غلياناً متواصلاً جراء التغلغل الإيراني ووجود مجموعات تابعة للنظام، والقنيطرة، حيث تمكن السخاء الإيراني بالإنفاق ليس فقط من إنشاء حاضنة محلية لتأسيس قواعد عسكرية، بل لإقامة جمعيات ومجموعات مسلحة موالية إما مباشرة أو حليفة، عبر دعم انخراط هذه المجموعات في “قوات الدفاع الوطني” التابعة للنظام السوري، التي لطهران تأثير عليها، فضلاً عن أنها أسهمت في تمويلها. وهذه المجموعات هي التي تتعرض للقصف الإسرائيلي بين الفينة والأخرى لوجود مستودعات أسلحة بحمايتها، أو بحماية الفرقة الرابعة في الجيش السوري، التي يقودها شقيق الرئيس السوري ماهر الأسد.
يتميز الوجود الإيراني عن الوجود الروسي في بعض المناطق بتوظيف الإنفاق المالي في دعم الحضور ذي الطابع الديني، لانتشار “الحرس الثوري”، خلافاً للقوات الروسية التي تعتمد على الدور العسكري والاستخباراتي لترسيخ النفوذ، بالعلاقة مع الجيش ومع الدولة السورية. المتابعون للفارق بين وجود الدولتين يشيرون إلى أن الجانب الروسي قام مثلاً بصرف موظفين من مصنع الفوسفات الذي حازت موسكو على عقد استثماره، ما تسبب بنقمة لدى عشرات العائلات. وهذا ما حصل أيضاً عند تسلم الجانب الروسي عملية تشغيل مرفأ طرطوس، بعد استبعاد إيران من التزام إدارته.
تسهيل النظام للتمدد الإيراني
وفي وقت يعمل الجانب الإيراني بنفس طويل وفق مخطط مدروس يوائم بين تنمية الحضور الديني والاستثمار المالي والتغيير الديموغرافي لمناطق عديدة لترسيخ الوجود العسكري، فإن كثراً من الذين رصدوا الأسلوب الذي يعتمده “الحرس الثوري” يرون أن الغياب العربي عن الساحة السورية في السنوات الماضية أفسح المجال أمام ملء طهران الفراغ. ولو وظفت الدول العربية المقتدرة المال لشراء الأراضي والمساحات المبنية من أصحابها الذين يعانون الضائقة الاقتصادية لكانت هذه الدول حالت دون استفراد طهران بسوق العقارات.
إلا أن هؤلاء يشيرون إلى أن النظام السوري سهَّل لطهران استحواذها على تلك المساحات، وتحويلها إلى ما يشبه بيئة الحزب في الضاحية الجنوبية للعاصمة اللبنانية، مقابل دورها في تثبيت الأسد في السلطة. فحاكم دمشق سبق أن سلم أوراقه بالكامل لإيران. ومن الأمثلة على ذلك ترخيص السلطة قبل أسابيع، لإقامة جمعية كشفية تحت عنوان الصداقة الإيرانية السورية تستقطب الشباب والفتية وفقاً للعقيدة الإسلامية الشيعية. ويلفت هؤلاء إلى أن رئيس النظام السوري الراحل حافظ الأسد كان ألغى قبل سنوات من وفاته جمعية كشفية كانت تنشط تحت جناح ما سمي “طلائع البعث” التي كانت علمانية، أي إن الأسد سمح بهذا الترخيص الذي يسمح بتعبئة جيل من الأطفال بالفكر الديني.
الفريق الرئاسي الحاكم يرد على مطالبة بعض الدول العربية له بفك ارتباطه مع إيران بالقول إن الأخيرة دافعت عنه حين كان معظم الدول العربية إما يتفرج على محاولة إسقاطه، أو يمول المعارضة ضده. كما أن الأسد انحاز في نهاية المطاف إلى ما يريح إيران في سوريا، إزاء المطالبة الروسية له بمجاراة سعيها إلى الحلول السياسية، وفق القرار الدولي رقم 2254.
التشجيع الروسي على عودة العرب
لطالما سعت موسكو إلى إقناع دول عربية بالانفتاح على الأسد حتى لا تترك الساحة لإيران. وتعمل القيادة الروسية على عدم الاعتماد الضمني فقط على الاستهداف الإسرائيلي القواعد ومستودعات الأسلحة الإيرانية، بتشجيعها الدول العربية منذ سنوات على استعادة العلاقة مع نظام الأسد للتخفيف من ملء طهران الفراغ.
ويؤكد سياسيون سوريون ولبنانيون على صلة بالقيادة الروسية أنه كان لها مساهمة فاعلة في انفتاح دولة الإمارات العربية المتحدة على دمشق، بدءاً بفتحها سفارتها في العاصمة السورية في عام 2018 . فموسكو تلح على دول الخليج منذ سنوات أن توجد في سوريا إذا كانت تريد إبعاد النفوذ الإيراني. وهي تشجعها على الاستثمار الاقتصادي فيها في ظل الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تمر بها. وكذلك يفعل عدد من الفعاليات السورية منذ سنوات، التي تعتبر أنه بغض النظر عن الانفتاح على النظام أو عدمه، فإن الوجود العربي ولا سيما الخليجي يمكن أن يقطع الطريق على توسع النفوذ الإيراني عبر التوظيفات المالية في المجال العقاري، لأن السوريين يفضلون الخليجيين إذا احتاجوا إلى بيع عقاراتهم، على الإيرانيين. ويرى هؤلاء أن التعامل مع بعض المجموعات المسلحة غير الموالية للنظام وتمويلها لتحافظ على استقلاليتها المالية يحول دون اجتذابها بالمال من قبل “الحرس الثوري” و”حزب الله”، لأن من مغريات التقارب الإيراني معها وعدها بحمايتها من بطش النظام وتأمين المال لها. وفي المعلومات أن بعض الدول العربية استجاب لنصائح كهذه وأسهم في تمويل بعض التشكيلات التي قامت بالمصالحات مع النظام لا سيما في الجنوب السوري.
زيارة عبد الله بن زايد
واللافت في زيارة وزير خارجية الإمارات الشيخ عبد الله بن زايد آل نهيان إلى دمشق في 9 نوفمبر الحالي، اصطحابه وفداً اقتصادياً والإعلان عن اتفاق على تمويل بناء محطة لتوليد الكهرباء بالطاقة الشمسية في ريف دمشق.
وفي سياق الدور الروسي في الانفتاح الخليجي تفيد المعلومات أن بعض الاجتماعات التي جرت بعيداً من الأضواء تمت برعاية روسية، إلى درجة أن طائرة روسية هي التي نقلت أحد المسؤولين الأمنيين السوريين إلى إحدى العواصم العربية للاجتماع إلى نظرائه فيها.
ويقول المطلعون على خلفية دور الجانب الروسي إنه أبلغ بعض المسؤولين العرب أن الحل السياسي في سوريا سيؤدي في نهاية المطاف إلى الانسحاب العسكري الإيراني، لكن قاعدة النفوذ الاقتصادي التي بنتها طهران تتطلب منافستها كي لا تلعب دوراً في ترسيخ نفوذها على سوريا ما بعد الحرب. كما أن إعمار ما هدمته الحرب يحتاج إلى استثمارات طائلة لا يمكن تأمينها من دون دول الخليج العربي، قياساً إلى إيران. وفي التعاون الروسي الخليجي من هذا المنظار فائدة لموسكو التي تطمح أن يكون لشركاتها دور رئيس في هذه المرحلة عندما يأتي أوانها، التي تحتاج إلى التمهيد لها منذ الآن. وإذا كانت دول الخليج قد ترددت في الانفتاح الاقتصادي سابقاً بسبب العقوبات التي يفرضها قانون “قيصر” الأميركي على التعامل مع النظام السوري، فإن الشركات الروسية لديها وسائلها للالتفاف على هذا القانون.
من يملأ فراغ الانسحابات؟
لا تقتصر أسباب تشجيع روسيا الدول الخليجية على الوجود في سوريا على الحاجة إلى ملء الفراغ الذي احتلته إيران حتى الآن، بل تتعداها إلى سعيها للاحتياط منذ الآن لاحتمال حصول انسحاب أميركي من شرق الفرات، تنوي إيران الإفادة منه لتوسيع نفوذها في تلك المنطقة الغنية بالنفط، ولتغييرات في الشمال السوري، حيث تتقاسم تركيا الميدان مع تحالف “قسد” بقيادة الحزب الديمقراطي الكردستاني وفصائل كردية أخرى حيث توجد قوات أميركية. وفي وقت تتهيأ إيران إلى ملء الفراغ هناك والتسلل إلى الشمال عبر حشد ميليشياتها في منطقة حلب فإن موسكو تعمل على تجنب العملية العسكرية التركية التي تنوي أنقرة القيام بها من أجل احتلال منطقة سيطرة “قسد”، عبر اتفاقات تعمل على صوغها في لقاءات تنظمها في موسكو مع قيادة الأخيرة، ومع قادة العشائر العربية لتقليص رقعة السيطرة الكردية، بحيث تتولى قوات روسية الحدود مع تركيا مع قوات من نظام الأسد، تحت رعايتها، لضمان أمن الحدود مع تركيا بحيث تستغني الأخيرة عن فكرة العملية العسكرية ضد المنطقة الكردية.
وبهذا المعنى فإن أحد أوجه الانفتاح الإماراتي على دمشق هو المخاوف من أن تملأ تركيا الفراغ الذي يمكن أن يتركه الانسحاب الأميركي من مناطق شمال سوريا.
المصدر: اندبندت عربية