لا أعرف إن كان الأستاذ عبدالله السناوى سيصدق أننى قرأت كتابه «أخيل جريحًا»، الذى صدر أخيرًا عن دار «الشروق»، فى 369 صفحة، فى يومين اثنين فقط، لكن هذا ما جرى على أى حال.
تمثل تلك المخطوطة المشحونة بالصدق والوضوح، والمؤّصلة بالضبط والتوثيق، مقاربة من أفضل المقاربات التى
اجتهدت فى سبر صورة ناصر وسيرته، من زاوية التحليل الاجتماعى، الذى اتخذ منحى إنسانيًا ونفسيًا وأدبيًا، من دون أن يتجاهل السياق السياسى والتاريخى الذى ظهرت خلاله تجربة هذا الزعيم.
من ناحية الأسلوب، فقد حافظ السناوى على موقعه كأحد كبار المغردين المبكرين، وببساطة شديدة، فإن هذا الكاتب القدير، ، استطاع أن يتقن لغة تحقق القصد والإيجاز، فخرجت سطوره كأنها تغريدات على «تويتر»، تحسبها طازجة رغم أن موضوعها قديم، وتجدها مركزة كأنه يتفادى تخطى حاجز الحروف المرصود سلفاً، ويفاجئك ما تنطوى عليه من وضوح وحسم، كأنه لن يكتب شيئاً بعدها.
من جهة الموضوع، يصعب جداً أن تنطوى أى محاولة لتذكر وقائع ناصر ومثالبه أو أمجاده على جديد، إذ أُهرق الكثير من الحبر فى مديح الرجل وذمه. وكيف لا؟،
وقد ملأ الدنيا وشغل الناس، ومازال، لكن ما فعله «أخيل جريحاً» فى تخطى هذا العائق شيئان، أولهما مزاوجة الأدب بالسياسة، عبر تهيئة الأول عنصراً دالًا فى التحليل السياسى الموضوعى، وثانيهما التركيز على جوانب الخلل، واستكشاف الثغرات، التى تم من خلالها النفاذ إلى هذه التجربة المدهشة، وتقويض بعض أهم مكتسباتها، وصولًا إلى زعزعة أركانها، وإبقائها عرضة للتشكيك.
يضع السناوى ناصر ويوليو فى «أخيل جريحًا» فى موضعهما اللائق، فيوليو، رغم الشعور الذى يُراد له الرواج بأن ما بقى منها قليل، واحدة من أهم أربع ثورات عرفها التاريخ، وشاهدها السياسى أنها
بقيت طويلًا فى موضع الإلهام كلما جاء ذكر الاستقلال والتحرر الوطنى،
أما شاهدها الإنسانى والاجتماعى،
فلأن «الفقراء لم ينعموا بالأمان والأمل، كما حدث فى عهده».
لماذا «أخيل»؟
يعيدنا السناوى إلى الميثولوجيا الإغريقية، التى خلدها «هوميروس» فى «الإلياذة»، حيث قامت والدته «ثيتيس» بغمر جسده الوليد فى نهر مقدس، لكنها نسيت أن تغمر قدميه حيث حملته منهما، فلم يمس كعبيه ماء، وهو ما يجسد بطلاً ظافراً محصناً، إلا من موضع صغير، أتاح استهدافه، والنيل منه.
يقول السناوى: «يلخص المشير عامر (كعب أخيل) الأول، فهو صديقه الأقرب، بل هو توأمه الإنسانى، وسنده فى حسم صراعات السلطة، حتى أصبح نفسه مقتل التجربة بالطريقة التى كان يدير بها القوات المسلحة فى لحظة حرجة من التاريخ المصرى، ويمثل السادات (كعب أخيل) الثانى، الذى نفذ انقلاباً كاملًا على مشروع يوليو، وأظهر رغبة جامحة فى التشهير بكل ما ينتسب إليها».
ولماذا جريحًا؟
يجيب: الهزيمة أثرت على صحته من دون أن تنال من عزيمته. لم يكن صريع الهزيمة لكنه كان جريحها. وقد كانت سنوات ما بعد الهزيمة من أفضل سنوات حكمه.
يلخص السناوى مبتغاه من «أخيل جريحًا» بقوله: «يوليو لا تمثل نظرية يقاس على نصوصها، بقدر ما تلخص مشروعاً يقاس على قيمه. وقيم يوليو تربط بين الإرث والمستقبل، حتى يكون ممكنًا أن نقف من جديد على أرض صلبة».
فى استعارة «أخيل» ما يُحمل الأقدار المسؤولية عن الهزيمة والخلل، ويُبقى البطل فى موضع الحصانة، وبحس موضوعى، فقد كان «الكعبان» اختيار «أخيلنا»، وليسا غفلة من «ثيتيس».. أو هكذا سيقول النُقاد.
المصدر: المصرى اليوم .