
ثبت أن المخابرات الأردنية هي الأشدّ ذكاء ودهاءً على المستوى العربي، أو ربّما على المستوى الإقليمي، فقد استطاعت أن تحيّد جماعة الإخوان المسلمين بهدوء، لم يرافقه أيّ احتجاج من الجماعة، بل قابلت الجماعة ذلك بانسحاب ناعم وصمت مطبق، فلم يظهر أيّ من قيادييها للحديث أو التعقيب أو الاحتجاج، بل رأينا تصرّفاتٍ في غاية الغرابة، إذ بادر المراقب العام للجماعة، مراد العضايلة، بتعديل صفحاته في وسائل التواصل الاجتماعي بحذف صفة “المراقب العام لجماعة الإخوان المسلمين”، التي كانت تتصدّر منصّتي فيسبوك وإكس. وتبع ذلك مؤتمر صحافي لقيادة حزب جبهة العمل الإسلامي، التي تعتبر الذراع السياسي للجماعة، لتعلن عدم علاقتها بالجماعة، وأنها مستقلّة إدارياً ومالياً عنها، علماً أن بعض قيادييها يشغل مواقع قيادية بالجماعة في الوقت نفسه.
ليس الحديث هنا عن أيّ جماعة في الأردن، إنه عن جماعة كبيرة، نشأت تقريباً مع نشأة الدولة، فقد جاوزت الثمانين عاماً من عمرها. والدولة اليوم تحتفل بعيد استقلالها التاسع والسبعين، وهذا يعني أنها تأسّست قبل الاستقلال، وقد كانت أعوام وجودها حافلةً بأعمال كبيرة، استطاعت خلالها أن تثبت وجودها في ميادين الحياة الأردنية ومناحيها كلّها، تاركةً في كلّ ميدان منها بصماتها الكبيرة، فحضرتْ بقوة في الحياة السياسية من خلال البرلمان والمشاركة (أحياناً) في الحكومات، وفي الحياة النقابية، ففازت بانتخابات نقابات كبيرة، كالمهندسين والمحامين والمعلّمين والأطبّاء، فترات متعاقبة، وفي العمل البلدي، إذ فازت بانتخابات أكبر البلديات في المملكة، مثل الزرقاء وإربد والطفيلة، وفي العمل الدعوي والخيري والاجتماعي والتربوي، فقد أسّست الجمعيات والمراكز والمدارس والكليّات والجامعات المنتشرة في كلّ المحافظات والمدن والقرى والبوادي الأردنية، كما أنها لم تغب من الحياة الطلابية بالسيطرة الكاملة على الاتحادات والجمعيات الطلابية، في الجامعات الحكومية وغيرها. هذا الحضور الفاعل والمتميّز، والتاريخ الوطني المشرّف للجماعة، لم يشفعا لها أن تتلقّى موتاً رحيماً على يد الأجهزة الأمنية. ومن جهة أخرى، لم تحدث ضجّة تذكر والحكومة تتّخذ قرارها بحلّها وحظرها ومصادرة ممتلكاتها واعتقال بعض قياداتها. لماذا؟
قرار الحلّ متّخذ منذ عام 2020، لكن الحكومة لم تحرّك ساكناً في تنفيذه، بل تركت الجماعة في حال سبيلها، تتحرّك كما كانت، الأمر الذي رأته الجماعة يعكس قوة وجودها، وبالتالي، كان ظنّ قياداتها وعناصرها أن الدولة لن تُقدم على أمر من شأنه أن يطيحهم، فلم تتخذ الجماعة أيَّ إجراء قانوني أو تدخل في مناورة سياسية، أو حتى تبرم أمراً تنظيمياً في مواجهة هذا القرار المتّخذ والمجمّد مؤقتاً، كأن تفكّر في بديل مناسب يضمن وجودها واستمرارها، حال نفّذت الدولة القرار وفعلته. ومن تلك الخيارات مثلاً أن تفتح خطّاً مع جمعية جماعة الإخوان المسلمين، وهم المجموعة التي ذهبت من قبل إلى تصويب وضع الجماعة القانوني. لم تقف الجماعة مع قرار الحلّ والحظر (قبل تنفيذه) وقفةً جادّةً، بعيداً عن الحالة الخطابية الحماسية، التي أكّد فيها المراقب العام حينها أن بيوت الأردنيين مقرّات مفتوحة للجماعة. ولا يحلّ هذا الخطاب الحماسي المشكلة، ولا يقدّم ولا يُؤخّر.
المخابرات الأردنية لا ترى الجماعة مؤهّلةً لأن تكون طرفاً في حوار أو اتفاق مستقبلي
كانت جماعة الإخوان المسلمين في الأردن بحاجة إلى مبادرات كبيرة، تلتقط فيها الأنفاس، وتتجاوز الأشخاص، وتقدّم المصلحة العامّة، وهذا ما لم يحدث. ما يعكس بوضوح طريقة التفكير لدى قيادة الجماعة، التي لم تتردّد، في الوقت نفسه، بفصل مجموعة كبيرة من “الإخوان” الوازنين، ولم تسعَ إلى استيعابهم، وتجسير الهوّة معهم، ولا إلى الوصول لحلول وسط تجمعهم حفاظاً على متانة الدعوة وقوتها، بل كنتَ تشعر أحياناً أن القيادة كان تستهدف وجود هؤلاء الإخوة من قيادات الجماعة التاريخية، فقد كانت تلجأ إلى أسلوب المناكفات في كثير من مواقفها وقراراتها، وقد واكبتُ كثيراً من تلك المواقف، التي كانت تهدف للوصول إلى نقطة مشتركة للحفاظ على صفّ الجماعة. وهذه المصيبة التي أصابت الجماعة أذهبت ريح الجميع، من فصلوا منها، ومن ظلوا فيها، لأنها سنّة قرآنية ثابتة لا تجامل ولا تحابي: “ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم”. … نعم هذه هي النتيجة الحتمية، الفشل وذهاب الريح؛ “الهيبة والمهابة”، فالذين فصلوا وذهبوا لتأسيس أطر جديدة، لم يستطيعوا أن يكونوا بديلاً مناسباً، ولا أن يشكّلوا حالةً مقبولةً، جاذبةً ومؤثّرةً. والذين بقوا داخل التنظيم، وعرفوا بالجماعة الشرعية، فقدوا كثيراً من جاذبيّتهم وتأثيرهم ووزنهم. وليس صحيحاً أن الجماعة تنفي خبثها، وليس صحيحاً أن من فُصلوا منها هم الخبث، ومن بقي هم الثلة الخيّرة. للأسف، كانت مثل هذه المقولات تلقى رواجاً داخل الجماعة، وبالتالي، يغلقون أبواب الحوار والتواصل الذي من شأنه رأب الصدوع، والدخول في حالة إنكار ورفض عجيبة لأيّ نقد أو نصح، لأنهم يروْن أنفسهم في أحسن حال، ويستشهدون بنتائج الانتخابات النيابية أخيراً، والتي حقّقت فيها الجماعة فوزاً كبيراً بوصفها كتلةً نيابيةً، الأمر الذي أورث الجماعة مزيداً من الغرور والركون، ما جعلها تغفل عن القرار المتّخذ والمجمّد مؤقّتاً، والمبيّت ضدّها إلى حين.
في هذه الظروف، التي لم تكن تخفى على أحد، فضلاً عن جهاز المخابرات الذي يتابع التفاصيل، ويتحيّن الفرصة المناسبة لتنفيذ قرار الحلّ والحظر وتفعيله، بطريقة لا تُحدث ردّات فعل من أيّ نوع على قرار “الإجهاز على الجماعة”، خصوصاً أن ثمّة عاملاً خارجياً دولياً إقليمياً ضاغطاً وغير مرتاح لوجود الجماعة في الأردن، وضدّ هذه المساحة المعطاة لها، وازداد هذا العامل الضاغط قوةً بعد 7 أكتوبر (2023)، والذي شهد ميلاد “طوفان الأقصى”، وقد سبق أن أُخبرت القيادة بهذا الضغط من أعلى السلطات في الدولة. وواضح أن دائرة المخابرات العامّة لم ترد أن توجّه للجماعة ضربة عادية، تحفظ لها صورتها وتاريخها المشرّفين في أذهان الناس، بأن يكون الحلّ قانونياً، أي بسبب عدم تصويب أوضاعها القانونية، بل أرادت أن تغتالها وتاريخها ورموزها، وتعمل على تشويهها تماماً. وكان ذلك واضحاً من خلال إعلان الخلية “الإرهابية” كما وصفت، وبثّ اعترافات أفرادها التي أكّدوا فيها أنهم أعضاء في الجماعة، ولبعضهم مواقع قيادية فيها. ومن خلال الحملة الإعلامية التي شهدت مقابلات ولقاءات ومقالات تحريضية ساخطة، مع تغييب الرأي الآخر تماماً.
كانت الضربة الموجّهة من المخابرات إلى الجماعة ضربة أمنية بامتياز “إنها تستهدف أمن البلاد واستقرارها”، فهل كانت الدولة الأردنية، ممثّلةً بحكومتها وأجهزتها الأمنية، مضطرّة لأن تتعامل مع الجماعة بهذه الطريقة الأمنية الحادّة جداً، لترضي العامل الخارجي الضاغط بقوة لإنهاء ملفّ الجماعة؟… لم تكن الدولة بحاجةٍ إلى هذا التصعيد ضدّ الجماعة، ولا أن تتعامل معها بوصفها ملفّاً أمنياً، لعدة أسباب: أولها أن الجماعة ليست طارئةً على البلد، فهي ليست وليدة سنوات معدودة، بل واكبت (كما ذُكِر) الدولة والنظام في نشأته وتأسيسه. وثانياً، لطبيعة العلاقة بين الجماعة والنظام، التي اتسمت بالقبول والاحترام، ولم تشكّل الجماعة يوماً تهديداً للنظام. بل بالعكس، كانت حليفاً مهمّاً له في بعض مفاصله الخطيرة، وصرّحوا في حضرة الملك ذات يوم: “قد نختلف معك، لكننا لا نختلف عليك”. وهناك (ثالثاً) وضوح منهجهم الإصلاحي المؤمن بالاعتدال والوسطية، ونبذ اللجوء إلى استخدام القوة والعنف والانقلابات. ورابعاً، لانتشارهم الواسع في كلّ محافظات المملكة، ووجودهم الكبير في كلّ مفاصل الدولة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية والخيرية والمدنية والطلابية. ومن جانب آخر، لم ترق الرواية الأمنية، مع كلّ ما رافقها من محسّنات وحملات إعلامية، إلى مستوى التصديق والقبول، لا محلّياً ولا خارجياً، وكل ما تسنّى لكاتب هذه المقالة الاطلاع عليه، يشكّك في هذه الرواية، ويميل إلى عدم تصديقها، إذ إني فوجئتُ بأن لدى كثيرين من عامّة الناس هذا التشكيك وعدم التصديق. ولو أن الدولة تعاملت مع ملفّ الجماعة ملفّاً قانونيّاً، أظنّ أن الأمر سيبقى في أطره القانونية، ولن يذهب بعيداً في تفسيراته وظنونه المشكّكة بمصداقيته، ولأدّت الرسالة والغرض، من دون أن ندخل المجتمع في جدلية عجيبة، انقسم الناس فيها بين متّهم وبريء، ووطني ومارق على الوطن.
لم تكن الدولة الأردنية بحاجة إلى أن تتعامل مع “الإخوان” ملفّاً أمنياً، فالجماعة ليست طارئةً على الوطن
والسؤال الذي يلحّ بالوقوف عنده، بعد السؤال السابق للدولة عن طبيعة وكيفية استهدافها للجماعة، هو سؤال آخر للوقوف على سبب صمت قيادة الجماعة حيال هذا القرار: هل صمت القيادة الإخوانية، وغيابها عن المشهد برمّته وكأنها “فصّ” ملح وذاب، وهي القيادة التي عرفت بأنها تمثّل الجناح المتشدّد “الصقوري” في الجماعة، والذي كان يأخذ على الجناح الآخر مهادنته وليونته في الخطاب والسلوك، هل صمتهم هذا نتيجة اتفاق مسبق أو تهديد مقلق؟ هل صمتوا اتفاقاً وتكتيكاً وتقديماً لمصلحة البلد، حتى تحقّق الحملة ضدّهم أهدافها، فتأتينا المنحة الأميركية كاملةً على سبيل المثال؟ أم هل صمتوا خوفاً من تهديدات أن تتسع دائرة الملاحقات والاعتقالات والمحاكمات، فلا يكتفى عندئذ بحظرها وحلّها ومصادرة ممتلكاتها، بل تُعلَن جماعةً إرهابيةً، وهذا إعلانٌ له متطلبات ثقيلة؟ أو أن الحملة ستمتدّ وتتسع حتى تصل خيوطها إلى حزب جبهة العمل الإسلامي؟
أتوقّع أن سكوت قيادة الجماعة وغيابها، والذي كان محلّ استغراب وتعجّب عند الجميع، وعند أعضاء الجماعة قبل غيرهم بخاصة، أنه كان نتيجة تهديد ووعيد من دائرة المخابرات بتوسيع نطاق حملتها إن خرج القوم وتكلّموا، ولن يُكتفى حينها بالحظر والحلّ، بل ستدرج الجماعة في قوائم الإرهاب. أمّا احتمال وجود اتفاق بين الطرفَين، فأظنّ أن الدائرة العامّة للمخابرات لا ترى الجماعة (بوضعها الذي آلت إليه) مؤهّلةً لأن تكون طرفاً في حوار أو اتفاق مستقبلي، وأرادت أن تستغلّ هذه الفرصة كي تغلق ملفّ الجماعة بالكامل.
سكوت قيادة الجماعة عن قرار حلّ الجماعة، والتزامها الصمت، إقرار به وانصياع له، وتوقيعٌ صامتٌ على ورقة انتهائها. وهذا يسجلّ في سجلّ هذه القيادة الممتدّة لجناح الصقور، والتي بدأت بقيادة همّام سعيد، دورتَين متتاليتَين، شهدت الفترة الثانية منهما انقسام الجماعة وبعثرتها، ثمّ جاءت قيادة مراد العضايلة، بعد أن ترك قيادته أميناً عامّاً لحزب جبهة العمل الإسلامي قبل انتهاء مدّته، ليزاحم على قيادة الجماعة، التي فاز بها بفارق صوت، لتشهد فترته تنفيذ قرار حظر الجماعة وحلّها. وهكذا، يُسجّل لمن في جناح الصقور (حفظهم الله!) في فترات قيادتهم انشقاق الجماعة أولاً، وإنهاء وجودها، وإسدال الستار النهائي على وجودها في الأردن ثانياً. والله غالب على أمره…
المصدر: العربي الجديد