هبة دباغ : هي المرأة السورية التي توثق في سيرتها الذاتية خمس دقائق.. وحسب، تجربتها في الاعتقال في سجون النظام السوري المستبد، منذ ١٩٨٠م حتى ١٩٨٩م، وذلك على خلفية الاحداث التي حصلت في سورية في ذلك الوقت، حيث حصل حراك سياسي معارض للنظام من جميع القوى السياسية ومنهم الإخوان المسلمين؛ الذين تميزوا عن غيرهم بالعمل المسلح ضد النظام السوري.
تبدأ السيرة خمس دقائق .. وحسب، من سرد هبة دباغ لأحوال مواجهة النظام والإخوان المسلمين في نهاية ١٩٧٩م وبداية ١٩٨٠م، وانها من عائلة حموية، اسرتها كبيرة، وهي تدرس الشريعة في دمشق. وأنها لاحظت مع زميلاتها في السكن الذي تعيش به في دمشق، متابعات ورصد أمني لها ولصديقاتها، اللواتي كان اغلبهم من مدينة حماه، التي كان حراك الإخوان المسلمين وصراعهم مع النظام حاضر أكثر من غيره في بقية المدن السورية. وسرعان ما تحول الرصد الأمني الى اعتقال لهبة وزميلاتها من المنزل القاطنين به وأخذوا إلى أحد الفروع الأمنية في مدينة دمشق، كانت المعاملة منذ اللحظة الاولى قاسية جدا، والتهمة الموجهة لهم الانتساب للإخوان المسلمين، حيث اعتبر ذلك وقتها جريمة، واصبح المنتسب لهم بعد ذلك ضحية حكم إعدام مُسبق. تعرضت هبة وزميلاتها الى التعذيب والتحقيق، للاعتراف بانتسابهم للإخوان المسلمين، اضافة لكون الأمن يطارد ويبحث عن احد اخوة هبة، متهم انه من الاخوان ومطلوب للمخابرات، وطلب منها أن تقدم معلومات حوله وكيف يتم الوصول له واعتقاله، كما اعتقلت أمها ووالدها في البداية.
تسرد هبة كيف كان التعذيب قاسيا والتحقيق معها لتعترف أنها من الإخوان المسلمين، وهي ليست منهم، وأنها لا تملك أي معلومات عن اخوتها المطلوبين أمنيا، لكن ذلك لم يكن ليقنع الأمن، الذي استمر يحتجزها لأشهر طويلة ويكرر طوال الوقت التحقيق معها وتعذيبها لتعترف وتقدم لهم معلومات يستفيدون منها. استطاعت أن تتواصل مع أمها التي سيطلق سراحها وابوها بعد ذلك، وستبقى بالمعتقل، على انها رهينة ليسلم احد اخوتها المطلوبين نفسه للامن، وهذا الاخ يقال انه قد توارى وهرب إلى الأردن. تتحدث هبة عن واقع اعتقالها ومن مر عليها من نساء كثيرات يعشن وضعا مشابها لوضعها. فقد كان النظام السوري قد اتخذ قرارا لاستئصال جماعة الإخوان المسلمين، وبدأ بحملة اعتقالات واسعة في كل القطر لكل من يمت بصلة لهم بما فيهم عائلاتهم، الامهات واحيانا مع اطفالهن والاخوات والزوجات، لقد امتلأت الفروع الامنية بالنساء على خلفية ملاحقة الإخوان المسلمين. بقيت هبة في أحد الفروع الامنية لعدة أشهر، ثم نقلت الى سجن كفرسوسة الذي يعتبر سجنا مع معتقل، كانت المعاملة فيه قاسية جدا، ولم تتوقف فيه جولات التحقيق معها ومع غيرها. التقت فيه بكثير من النساء مثلها، وعلمت بحدة الهجمة من النظام وقسوتها على جماعة الإخوان. كانت المعاملة القاسية لهن في سجن كفرسوسة، مبررا لهم لاعلان اضرابهم عن الطعام، الذي كاد يودي بحياة البعض منهن، ونجحن اخيرا بعد سنة تقريبا من فرض نقلهم الى سجن قطنا المدني للنساء، كان من آثار النقل التغير في المعاملة نحو الأفضل نسبيا، حيث أصبح حالهم اقرب للاحتجاز منه للاعتقال. لكن لم تنتهي الاساءة وذلك حسب الضباط والعناصر، البعض منهم حاقد وبشكل طائفي، والبعض متعاطف معهن، ولكن بالسر، والبعض قدم بعض المساعدة البسيطة التي اسعدت هبة ورفيقاتها، على تواضعها، حيث كانت عندهن ذات اهمية كبيرة. حيث حصل ذلك في المعتقل والسجن وحتى خروجهن. تحدثت هبة باستفاضة عن ظروف الحياة وقسوتها أيام الاعتقال؛ الطعام السيء، والاعتقال في منفردات أو جماعيات تحت الارض، لا تمتلك أي من شروط تلبية حقوق الحاجات الانسانية الأولية، المراحيض السيئة، صعوبة الاستحمام، التحرش الجنسي أحيانا من بعض الضباط والعناصر.
كانت هبة تعبئ وقتها بتتبع أحوال الأعداد الكبيرة من النساء القادمات الى المعتقل او سجن قطنا بعد ذلك، كانوا من كل أنحاء سورية، واغلبهن من حماة وحلب، علمت عن الاعتقالات العشوائية وعن القتل دون رحمة، وكان اقسى ما عاشته عندما علمت بهجوم النظام على حماة، والمجازر التي حصلت، وقتل كل ما بقي من عائلتها هناك. علمت عن سوق الكثير من الشباب الى سجن تدمر ومن ثم قتلهم وإعدامهم.
استمرت هبة في سجن قطنا لمدة أربع سنوات حتى عام ١٩٨٤م، كان تواجدهنّ داخل السجن في غرف خاصة بهن، وكان هناك غرف للسجينات القضائيات، كان ممنوع التواصل بينهن، لكنهن كن يتواصلن عن بعد، كانت غرفهنّ تمتلئ زيادة عن قدرتها على الاستيعاب، انتشرت الأمراض الجسدية والنفسية، عشْن متزاحمات اغلب الاحيان، متحملات ظروف البرد القارس أو الحر الشديد حسب الفصول. لم يكن يمر وقت دون مجيء معتقلات جديدات، اغلبهن امهات أو زوجات او اخوات معتقلين أو متوارين ومطلوبين من النظام، كما حضر بينهم نساء ينتمين الى احزاب يسارية شيوعية، بدأت حملة اعتقالات لهن، لمعارضتهم للنظام، بعضهن علويات او مسيحيات، بعضهن كن متعاطفات مع هبة ورفيقاتها، والبعض كن عدوانيات معهن، لاعتبارات عقائدية، بكونهم محسوبات على الإخوان المسلمين.
كان النظام يدس بعض النساء المخابرات كجواسيس بينهن على أنهن سياسيات، ليحصلنّ من خلالهنّ على معلومات لصالح النظام، لكن سرعان ما يُعرفن، و يسحبهن النظام من الاعتقال مجددا. كانت معاملة النظام للنساء المحسوبات على الاخوان هي الأسوأ، الأخريات زيارتهم اسهل وحصولهن على حاجاتهنّ بصورة أفضل.
كانت المعاملة القاسية والمزاجية تجعل حياة هبة ورفيقاتها اقرب لجحيم مستمر، لكن هبة وزميلاتها كن يعتمدن الصبر وتلاوة القرآن وحفظه مع الحديث وتكرار الأوراد الدينية والحديث المتبادل بينهن يؤدي لتفريغ الاحزان وتحمل حياة الجحيم التي يعيشونها.
سمح لهبة وزميلاتها بعض الزيارات العائلية، حيث زارتها عمتها وخالتها واخاها وزوجته وبعض اقاربها، وكان اغلب من يزورها ممن اخترقوا أمنيا ويعملن مُخبرات عند النظام، حيث كانوا يطالبنها ببعض المعلومات، وكان ذلك مريبا لها، ومن جملة ما قدم لها كحل لوضعها و يتم الإفراج عنها، أن تتزوج ابن خالتها، ولأجل ذلك عليها أن ترسل برسالة لأخيها المطلوب تستأذنه بالخطبة والزواج، كل ذلك ضمن خطة لتوقع به ويعتقل، لكنها اكتشفت الفخ، وأخبرتهم أنها تنتظر أن تخرج من المعتقل اولا، ثم تقرر من تتزوج. عاشت هبة علاقات حميمية مع اغلب زميلاتها بما فيها قط ربوه بينهم واصبح أنيسا لهم.
دام حبس هبة ورفيقاتها في قطنا أربع سنوات حتى عام ١٩٨٤م، ثم نُقلن الى سجن دوما المدني الذي كان أفضل قليلا واستمرت به حتى عام ١٩٨٩م حيث أفرج عنها.
كانت هبة تعيش إحساس باليأس من الإفراج عنها، وكانت تفكر انها قد تساق الى الاعدام في اي وقت، وخاصة عندما أخرجت ورفيقاتها من سجن قطنا الى سجن دوما، اعتقادا منهن أنهن سيؤخذنّ الى حقل الرمي على الطريق حيث يُعدمن، لكن ذلك لم يحصل.
في سجن دوما عادت حياتهم الى روتينها السابق، مجيء معتقلات جديدات وخروج بعض المعتقلات القديمات، حيث لم يظهر الى هبة وبعض رفيقاتها أي أمل في الإفراج عنهن بالأفق، ومن سوء حالها وحظها، إنها اُعيدت لأشهر عدة الى معتقلات الأمن بناء على وشاية مخبرة إنها تملك معلومات، ويجب أن تقدمها للأمن. عادت هبة في تلك الفترة الى معاناتها الشديدة، من الاعتقال تحت الأرض في منفردة، التقت بالمعتقل مع رياض الترك الزعيم الشيوعي الذي اعتقل لحوالي العشرين عاما، كانت زنزانته بجوار زنزانتها، وكان لديه بعض الميزات مثل الراديو وفتح الزنزانة وحصوله على بعض الحاجات بما فيها صنع الطعام الخاص به، كان يقدم لها البعض منه أحيانا. كانت تتعرض للتحرش الجنسي والاساءة، من بعض العناصر، وكل ذلك لدفعها إلى تقديم معلومات لا تملكها أصلا.
أعيدت هبة للسجن في دوما مع رفيقاتها بعد ذلك، واستمر الوضع على حاله، حتى بدأ الحديث عن افراجات تطال النساء وضعهم مثلها، خرج الكثير قبلها، وكانت هي مع بعض رفيقاتها من أواخر من أفرج عنهم، حصل ذلك بعد أن مررن بوعود كثيرة كاذبة، وبعد أن اعدن الى المعتقل أكثر من مرة، وعرضن على لجان امنية، وافقت على الإفراج عن البعض وترك البعض معتقلات، وكن يعشن على اعصابهن، اليوم افراج، لا بل غدا، ثم يؤجل الى وقت آخر. وأخيرا تم الإفراج عن هبة مع حوالي العشر نساء نصفهم من حماة والنصف الآخر من حلب، واخذن مكبلات بواسطة نقل للامن الى حماة ومن ثم حلب، سلمت هبة مع النساء الحمويات الى فرع الامن في حماة، ودعي أقارب كل منهن لإستلام هؤلاء النساء، اما هبة فلم تجد من يستلمها، فقبلت أن يستلمها والد رفيقتها ماجدة، واتصلوا بعد ذلك بعمها الذي أخذها إلى بيته.
عادت هبة الى حماة بعد تسعة سنوات لتجد ان بيتهم والحي الذي كانوا يسكنونه مهدم كله وسوي بالأرض. هنا كان بيتها، وهنا قتل من تبقى من اهلها مع الآلاف من أهل حماة في عام ١٩٨٠م وما بعد.
تحررت هبة لكنها بقيت ممتلئة بمرارة تجربتها وما عاشته من ظلم وقهر وتعذيب وفقدان الكرامة والحقوق الإنسانية.
في تحليل السيرة الذاتية لهبة الدباغ نقول:
٠ تنتمي السيرة الذاتية لهبة الدباغ الى ما يسمى أدب السجون الذي أصبح له حضور كبير في العالم العربي منذ عقود، لما للقمع والاعتقال والسجن من حضور في حياة انساننا العربي في دول القمع العربي قاطبة. كان ذلك منذ رواية شرق المتوسط لعبد الرحمن منيف، إلى القوقعة لمصطفى خليفة، إلى يسمعون حسيسها أيمن العتوم، وليس آخرها تجربة الاعتقال التي عاشها وائل الزهراوي في روايته لهذا أخفينا الموتى، التي أظهرت الوحشية في تصرف النظام المجرم السوري مع المعتقلين من الثائرين عليه في الربيع السوري، فوق ما يتصوره العقل، وكذلك عشرات التجارب والتوثيقات. كل ذلك مهم لفضح القمع العربي بدء من السجّان إلى نظم الحكم الاستبدادية ومسؤوليها، منتظرين محاسبتهم ولو بعد حين. ومهم ايضا هذا التوثيق ليبقى حاضرا في ذاكرة ووجدان الإنسان العربي الذي يتوق للحرية والعدالة والكرامة والديمقراطية والحياة الأفضل، ومستمرا سعيه لتحقيق ذلك.
٠ لم تتحدث هبة الدباغ عن الواقع السياسي لسورية ايام اعتقلت، عن سورية التي حولها حافظ الأسد منذ ١٩٧٠م لدولة له ولعائلته ولبعض من طائفته العلوية ولجيش من الانتهازيين والمستغلين للشعب السوري من كل الفئات، حيث استخدم الجيش والأمن ليكونوا أدوات قمع وتسلط واستغلال واستبداد داخلي، وأدوات استغلال إقليمي ودولي وعلاقات مصالح خارجية. جعلت الشعب السوري وقواه المعارضة من كل الأطياف يفكر منذ نهاية سبعينيات القرن الماضي ان يسقط نظام الاستبداد، وكيف اعتمد الإخوان المسلمين اسلوب العنف المسلح، وكذلك الخطاب الطائفي السني مقابل العلوي، مما أعطى لحافظ الأسد ونظامه المستبد المجرم المبرر ويعتقل كل الفعاليات السياسية السورية المعارضة تقريبا، ويبطش بالإخوان المسلمين و حاضنتهم الاجتماعية، التي وصلت إلى مجازر في حماة وحلب وجسر الشغور وغيرها، راح ضحيتها عشرات الالاف من الناس الابرياء من الشعب السوري، بحيث حول سورية لعقود طويلة إلى جمهورية الصمت والرعب. في هذه الاجواء السورية عاشت هبة الدباغ تجربة اعتقالها ومعاناتها.
٠ أخيرا ها نحن في الربيع السوري بعد عقدين من الزمن تقريبا على خروج هبة الدباغ من الاعتقال، يعود الشعب السوري في ثورته بدء ربيع ٢٠١١ الى الان ونحن في أوائل ٢٠٢٠م مطالبا بذات أهداف حراكه السابق، إسقاط نظام الاستغلال والاستبداد والفئوية والطائفية في سورية، وبناء دولة الحقوق والديمقراطية، وكيف واجه النظام ذاته عبر الوريث بشار الأسد واجه الشعب السوري بأسوأ أنواع العنف والقتل والتدمير في سورية. مئات الاف من الشهداء ومثلهم مصابين ومعاقين، ملايين من المشردين داخل وخارج سورية. مدن بكاملها مدمرة، احتلالات تطال سورية من روسيا وايران وامريكا و المرتزقة الطائفيين وغيرهم. لقد تحولت سوريا إلى جحيم لمن تبقى يعيش بها، وحلم بالعودة الى وطن حر كريم عادل ديمقراطي لمن هرب من ذلك الجحيم.
ما زالت ظروف مأساة هبة الباغ حاضرة في سورية. وما زال مطلب إسقاط الاستبداد وبناء دولة الحقوق الديمقراطية في سورية المطلب الملح كل الوقت.