سؤالٌ لطالما كان يجولُ في خاطري: ما الفرقُ بيني وبينَ مَنْ يجلسُ في خيمةِ النزوح؟ سؤالٌ يجب أن نطرحَه جميعًا على أنفسِنا! وهل كان اللجوءُ يومًا خيارًا أم قدرًا؟! وهل إمكاناتنا واجتهادُنا كان له دورٌ في تجنب مصيرِ مَن يجلسُ الآن في خيمة اللجوءِ أم الظروفُ هي من ساقت هذا الإنسانـ إلى مصيره الحالي؟
يوجدُ عبارةٌ سمعتُها في مسلسل سوري مازالت ترنُ في أذني منذ زمن بعيد حين أبدع كاتبُ المسلسلِ وهو يصفُ الألمَ النفسيَّ للنازح حين ذكر على لسان البطلِ (نازح من الجولان) سؤالًا طرحه على صديقه من مدينة دمشق: لو أنّ إسرائيلَ تقدمت ٢٠ كم آخرَ في عام 1967 أماكنت أنا وأنت نازحين! “.
البؤسُ والشقاءُ كلمتان بسيطتان للغاية لوصف حالِ المشردين واللاجئين في وطنهم. بل الوصفُ الأمثلُ لحال المشردين في خيام اللجوءِ هو العيشُ في جنة الشيطان! نعم لمن يزور تلك البقعَ الداكنةَ من العالم التي قلما تجدُ بها الملائكةَ، تدرك معنا هذه الكلمة. المخيماتُ هي ماكينةٌ ضخمة لتحطيم الإنسانِ وصناعةِ الندبِ الجسدية والفكرية التي لن تُمحى لأجيال قادمة.
في لقاء تلفزيوني عن الوضع النفسي في شمال وشمال غرب سوريا وحسب إحصاءاتِ منظمة الصحة العالمية WHO لعام 2016 ذكرتُ للمحاور أنّ الاضطراباتِ النفسيةَ الشديدة تصل إلى 4% والمتوسطة والطفيفة تصل على 20%. أما أعراض اضطرابات ما بعد الصدمة post traumatic stress disorder فتصل إلى 75%.
طبعًا هذا عام 2016 , أما اليوم فأؤكد لكم أن الأعدادَ تتجاوزُ هذه الأرقامَ بكثير وبالتالي فإن حالاتِ الانتحارِ والعنف الأسري والاعتداءات الجسدية والجنسية تكادُ تضعُ الباحثَ في حالة من الذهول والخوف والألم.
طبعًا المشردون والنازحون في وطنهم زاد عددُهم بشكل كبير بعد 2011 , ولكن هذا لا يعني أننا لم نكنْ نعيشُ مشردين في وطننا قبل ذلك التاريخ -حتى لو كنا نعيش في مسقط رأسِنا- الفرقُ فقط هو ألفةُ حالةِ التشردِ قبل ذلك، أما اليوم فنعيش ألفةً جديدة وبوقت قصير لا يسمحُ لأجسادنا وعقولنا بالتكيُّف مع الواقع الجديد.
ربّما تُبذلُ جهودٌ كثيرةٌ لسد حاجاتٍ تعجزُ عنها دولٌ وهناك مخلصون كثرٌ لكنّ الفاسدين أكثر. ضياعُ البوصلة وغيابُ التخطيط والتنفيذ الجماعي هو ما ينقص جهود الطيبين، أما الفاسدون فينعمون بجنة الشيطان التي تناسبُ أخلاقَهم واهدافهم، فتكاد جهودُهم البسيطةُ تجدُ نتائجَ رائعةً على الأرض وكيف لا والحاكم الفعلي (الشيطان) في صفهم.
ربّما تجدُ المئاتِ بل الآلافَ من المقالات التي تتحدث في كلّ ما ذكرت، لكنّ السؤالَ المُهمَّ هل أصبحنا كسوريين وعرب ومسلمين مدمنين على التعاسة عندما نصفُ واقعنا؟!
وفقا لموقع سيكولوجي توداي Psychology today، يمكن التعرفُ على الشخص المدمنِ للتعاسة بسهولة، فهو يميلُ إلى البحث عن أسبابٍ تشعرُه بالبؤس حتى عندما تصبحُ الحياةُ حسنةً طيبةً ، كما أن هذا الشخصَ يفضلُ لعبَ دورِ الضحيةِ وإلقاءَ اللوم على الآخرين بدلًا من تحمُّلِ المسؤولية الشخصية عن اختياراته، ويجدُ صعوبةً في تحديد الأهدافِ وتحقيقِها، ولا يستمتعُ بنجاحاته عندما تحدث، يشعر أيضًا بأنه مستبعدٌ وعاجز عن التغيير، ويشعرُ بعدم الرضا حتى عندما تسيرُ الحياةُ على ما يرام.
لو أسقطنا هذا التعريفَ على دوائرنا الضيقةِ لوجدنا بحسب هذا التعريفِ أننا مدمنون بحقٍّ على التعاسة وهنا ربّما الجوهرُ الذي يجعلُنا عاجزين على العمل بشكل جماعي وإن كنا نمتلكُ نوايا طيبة!
الطبيبُ النفسيُّ الأميركي وليام غلاسر William Glasser ، في نظرية التحكم، عام 1985،يقول إنه من المنطقي أن يختارَ بعضُ الناسِ البؤسَ، وذكر 4 أسبابٍ تجعلُ الناسَ يتخذون مثلَ هذا الاختيار:
- البؤس يجعل الاحتفاظُ بالغضب تحت السيطرةِ:
بدلًا من التعبير عن غضبنا خارجَ ذواتِنا، ربّما بتهديد الآخرين وإيذائهم، فإننا نحولُه إلى الداخل. أحيانًا لا نعرف كيف نتعاملُ مع غضبِنا في الساحات العامة، فنوجهُه إلى أنفسنا.
2.البؤس هو الذي يجعلُ الآخرين يساعدوننا:
بمعنى عندما نظهرُ بائسين أو مكتئبين، يمكن أن يكونَ ذلك مثل صرخةٍ طلبًا للمساعدة، ويمكن أن تكون حالة البؤس جذابة بشكل خاص للرجال الذين لا يحبون في كثير من الأحيان طلبَ المساعدة.
3.البؤس يبرر عدم رغبتِنا في القيام بشيء مفيد وفعال:
بمعنى كلما أصبحنا بائسين أو مكتئبين، أصبحنا أكثرَ عجزًا أيضَا فعندما يغلب علينا البؤسُ نكونُ غيرَ قادرين على فعل الكثير.
- البؤس يساعدنا على استعادة السيطرةِ:
بمعنى عندما نشعرُ بالتجاهل بسبب الطريقةِ التي يعاملُنا بها شخصٌ آخرُ أو بسبب صعوبة الظروف، فإنّ اختيارَ أن نكونَ بائسين أو مكتئبين يمكن أن يزيدَ بشكل كبير من إحساسنا بالسيطرة، فلا أحدٌ يستطيع أن يتحدانا عندما نكون عاجزين.
هذا ربّما تشخيصٌ حقيقيٌّ لواقع ما نعيشُه هذه الأيامَ، وربّما تكونُ معركتُنا مع إدمانِ التعاسةِ هي مفتاحُ النهوض للعمل الجماعي! التغريبة الفلسطينية الأولى كانت منذ 74 عامًا والتغريبة الثانية منذ 55 عامًا ومع ذلك مازالت مخيماتُ اللجوءِ تسمى مخيماتٍ ولو أنها استبدلتِ القماشَ بالأسمنت وبدلًا من أن تنقصَ في العدد والحجم زادت بالعدد والحجم ولجأ إليها المشردون في مدنهم (فكثير من أبناء دمشقَ على سبيل المثال سكن في مخيم فلسطين واليرموك). ومن خرج من هذه المخيماتِ وصنع التغييرَ هو من عالج نفسَه من إدمان البؤسِ افلا نتعظ!
قال تعالى : {وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ (النحل 30)} وقال تعالى:
يَٰبَنِىَّ ٱذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَاْيْـَٔسُواْ مِن رَّوْحِ ٱللَّهِ ۖ إِنَّهُۥ لَا يَاْيْـَٔسُ مِن رَّوْحِ ٱللَّهِ إِلَّا ٱلْقَوْمُ ٱلْكَٰفِرُونَ (يوسف – 87) لله الأمرُ من قبلُ ومن بعدُ.