إمبريالية الكومبرادور

جيسون مورغان* ترجمة: علاء الدين أبو زينة

يعمل بعض الأشخاص النافذين كوسطاء بين واشنطن وعواصم أجنبية، ويبيعون ثروات إمبراطورية آخذة في الانهيار… وقد أصبحت الطريقة التي تعمل بها الحكومة الفيدرالية الأميركية على أعلى المستويات، الآن، طريقة كومبرادورية بشكل أساسي. هنا يعمل الأشخاص الأقوياء -آل كلينتون، بطبيعة الحال، ولكن أيضًا لاعبون بأسماء أخيرة مثل بوش، وماكونيل، وكيري، وبايدن، وترامب- كوسطاء بين “الاقتصاد السياسي” لواشنطن وبين الاقتصادات السياسية للعواصم الأجنبية. وهناك طبقة مزدوجة من الكومبرادورية تجعل كل هذا قانونيًا إلى حد ما. هناك مؤسسة كلينتون، هانتر بايدن، إيلين تشاو، كريستوفر هاينز: إنه ليس الشخص الكبير نفسه هو الذي يأخذ الرشوة بشكل مباشر؛ إنها “المنظمة الخيرية”، أو الزوج، أو الابن، أو ابن الزوج الذي يجمع “التبرعات” أو “رسوم التحدث” أو الاستثمار في “شراكة استراتيجية”.

* * *

ليس وصف أحد بأنه “رأسمالي كومبرادوري” إطراءً بالتأكيد. فالمصطلح يشير إلى تاجر في بلد فقير، يعمل سمساراً يتوسط في إبرام الصفقات مع الأجانب، ويستغل معرفته بالظروف المحلية واتصالاته مع التجار الأجانب لتحقيق أرباح هائلة لنفسه.

وحتى -وعلى وجه الخصوص- عندما، يستقر الأجانب في مراكز تجارية، ثم يبدأون في السيطرة على حكومة المنطقة واستغلالها -أو حتى البلد بأكمله- يستمر الرأسمالي الكمبرادوري في اللعب على كلا الجانبين. وهو يقدم نفسه على أنه الوسيط الأبدي؛ مستودع العالم الغريب الذي يريد الأجانب السيطرة عليه، والشخص الأساسي الذي لا غنى عنه للمفاوضات بين السلطات المحلية المستبدة والإمبرياليين الغزاة.

ومهما يكُن ما يريد الأجانب بيعه، حتى لو كان سُماً يدمر المجتمع مثل الأفيون، فإن الرأسماليين الكومبرادوريين سيجدون مشتريا له. ومهما يكن ما يريد الأجانب شراءه، حتى لو كانوا العبيد لتدوير قوادس سفنهم أو للكدح في حقولهم في الوطن، وحتى النساء في غرف نومهن، فإن الرأسماليين الكومبرادوريين سيجدون بائعًا.

خطر في بالي تاريخ الرأسمالية الكومبرادورية عندما كنت أقرأ في كومة من الكتب مؤخرًا عن الفساد في الحكومة الأميركية. وهناك العديد من هذه الكتب، بلا شك لأن هذا الموضوع غني يكاد لا ينضب. ومن بين الكتب البارزة الأحدث، ثمة كتاب بيتر شفايتزر الصادر في العام 2018 والمعنون “الإمبراطوريات السرية” Secret Empires، الذي يصف ظاهرة كان شفايتزر قد حقق فيها عن كثب في كتابه الصادر في العام 2015، “نقود كلينتون” Clinton Cash.

إن الطريقة التي تعمل بها الحكومة الفيدرالية الأميركية على أعلى المستويات هي، الآن، طريقة كومبرادورية بشكل أساسي. ثمة أشخاص أقوياء -آل كلينتون، بطبيعة الحال، ولكن أيضًا لاعبون بأسماء أخيرة مثل بوش، وماكونيل، وكيري، وبايدن، وترامب- يعملون كوسطاء بين “الاقتصاد السياسي”، وهو تعبير ملطف عن “بالوعة نفايات”، لواشنطن، والاقتصادات السياسية للعواصم الأجنبية.

وثمة طبقة مزدوجة من الكومبرادورية تجعل كل هذا قانونيًا إلى حد ما. مؤسسة كلينتون، هانتر بايدن، إيلين تشاو، كريستوفر هاينز: إنه ليس الشخص الكبير نفسه هو الذي يأخذ الرشوة بشكل مباشر؛ إنها “المنظمة الخيرية”، أو الزوج، أو الابن، أو ابن الزوج، هم الذين يجمعون “التبرعات” أو “رسوم التحدث” أو الاستثمار في “شراكة استراتيجية”.

ولكن، تمامًا مثلما كان حال تجار الكوهونغ في كانتون عصر تشينغ،(1) فإن الشيء الرئيسي هو أن تكون المفصل الذي يصل بين مستويين متعارضين. والنقطة التي تترابط فيها القوة مع القوة مربحة للغاية، ويعرف الرأسماليون الكومبرادوريون بالضبط كيفية تعظيم الربح أثناء الملاحة والتنقل في مسالك حقائق السلطة.

ولكن، عندما فكرت في هذا أكثر قليلاً، بدا لي مصطلح “الرأسمالية الكومبرادورية” بعيداً عن وصف الحالة؛ لأن ما يتم شراؤه وبيعه في القرن الحادي والعشرين في أميركا ليس في الحقيقة صناديق الشاي والخزف، وإنما هو القوة نفسها. خذ حالة سانت وفيكرام شاتوال وعامار سينغ. يوضح الفصل الرابع من كتاب شفايتزر، “نقود كلينتون” كيف تمكن هؤلاء الهنود الداخليون المطلعون على بواطن الأمور، بالغو الطموح، وذوو الصلات القوية في دوائر السياسة الهندية، من التوصل إلى تقارب مع آل كلينتون -حرفيًا، كما كان الحال في مقعد الشرف الذي خُصص لسينغ بالقرب من آل كلينتون في سهرة مبادرة كلينتون العالمية للعام 2005- وكيف حصلوا على تصريح لصفقة الأسلحة النووية التي كانت الحكومة الهندية تطمح إليها. ويركز الفصل الثامن، “اقتصاديات زعماء الحرب”، على العلاقات الحميمية لعائلة كلينتون مع رجال أقوياء فاسدين بطريقة شفافة إلى حد هزلي تقريباً، في إفريقيا. ولا يمتلك آل كلينتون أنفسهم قدرات خاصة إلى جانب العبقرية في النصب. إن ما يتوفر لديهم بمقادير هائلة هو كاريزما السلطة الفيدرالية. إنهم ينضحون برائحة سجاد الطاووس الأزرق وأثاث الماهوغني والأقمشة الرئاسية. هذه هي عملة المملكة الإمبراطورية المتأخرة: الزخارف الحنينية للإمبراطورية المترنحة التي ما تزال لديها، مثلما كان لدى مملكة تشينغ حوالي العام 1890، القطع المناسبة لإثارة إعجاب مقدمي المناقصات بثقل الماضي الميت.

نعم، ثمة مكافآت مادية ومالية يمكن كسبها من كل هذا، وهي ما يسعى إليه التابعون الذين يتملقون عائلة كلينتون. لكن ما يبيعه آل كلينتون أنفسهم ليس الذهب أو الماس أو النفط أو اليورانيوم، أو أي شيء آخر يريده الطُفَيليون الذين من حولهم. إن آل كلينتون يبيعون هالة القوة الأميركية. إنهم يبيعون شفق القوة؛ ما تخلف منها بعد الغروب. إن “كوهونغ” عائلة كلينتون يتاجرون بالإمبراطورية الأميركية نفسها، ويقايضون الوصول إلى هياكل القوة المتفككة للإمبراطورية بالمال والشهرة والمجد وكل البقية.

وهذا يختلف عن الرأسمالية الكومبرادورية. هذه إمبريالية كومبرادورية. وقد أصبحت الطريقة الافتراضية، وربما الطريقة الوحيدة، لممارسة الأعمال التجارية في المستويات العليا لهرم السلطة الفيدرالي.

إن الإمبريالية الكومبرادورية هي “بيوريزما” Burisma،(2)، ولوحات هنتر بايدن المرسومة بالأصبع، وحافظات بطاقات التعريف الأوكرانية الدوارة الغريبة لرودي جولياني، وحتى الاندفاع بين كوادر الحزب في بكين لجلب أبنائهم من الأمراء الصغار إلى جامعة هارفارد وجامعة نيويورك. إن الإمبراطورية الأميركية هي الآن صورة باهتة، لكنها طالما تستمر، فإن هناك الكثيرين في العالم من الذين يريدون أن يستمتعوا بضوئها المحتضَر. ثمة أناس في كل قارة مأهولة يتدافعون ليحصلوا لأنفسهم على أيقونية شيء لم يعد موجودًا، على اليافطة المرصعة بالنجوم المتلألئة المعلقة عالياً فوق مبنى، بينما الشوارع في الأسفل مغطاة بإبر تعاطي المخدرات والبراز، وفي الداخل، ثمة شركات النفط التي تتاجر بمشتقاته والتي لا تستطيع تحمل حتى كلفة إبقاء الأضواء مشتعلة.

هذه الرغبة في التقاط الصور مع النافذين من أجل الاستعراض؛ هذه القوة السحرية التي تنبع من الاقتراب من زوجين ببقايا قوة مترهلة، أو من الكلمات الرقيقة التي تخرج من فم سيناتور من كنتاكي، هي ما يقدمه الكومبرادوريون الإمبرياليون. والناس يشترون. لحظة عظيمة. وقد تلقى هانتر بايدن ورفاقه مليارات الدولارات من الشركات الصينية التي لها علاقات عميقة مع الحكومة المركزية في بكين.

ولكن، ليس التقاط الصور مع العلم الأميركي هو ما يريده الصينيون حقًا، بطبيعة الحال. لقد رأى الصينيون الشوارع الملطخة بالبراز والمليئة بإبر تعاطي المخدرات ورفضوا الليبرالية الجامحة التي تمنح العالم مثل هذه الهدايا. والصينيون لا يهتمون بمستقبل القوة الأميركية، وإنما فقط باستمرار أفولها. إنهم يريدون تقويض الإمبراطورية الأميركية حتى يتمكنوا من أخذ مكانها كقوة مهيمنة على العالم. وهم يفعلون ذلك مسبقاً، لكن ذلك سيعمل بكفاءة أكبر إذا قام شخص ما داخل المتجر بإدارة عملية بيع ما تبقى بعد الحريق.

السياسيون الهنود، المافيا الأوكرانيون، أمراء الحرب الأفارقة، المليارديرات الكنديون -كلهم يريدون الحصول على هذه الخردة، أيضًا. إن “التدهور المُدار” ليس كما كنا نظن أنه كان. ثمة أحد يديره، وهو ليس الحكومة. إنهم إمبرياليو الكومبرادور، أولئك الذين يرتدون بدلات باهظة الثمن ويبرمون صفقات مع شخصيات سيئة للغاية في أجزاء من العالم لا يهتم حتى مستخدمو الإنستغرام بزيارتها. هل تعتقدون أنني قصدت كينشاسا؟ لا، لقد قصدت سان فرانسيسكو.

ولكن ها أنت ذا. كانت سان فرانسيسكو هي المكان حيث تم التوقيع على “ميثاق الأمم المتحدة”. وهي الآن بشكل أساسي عبارة عن وكر للأفيون بحجم مدينة. تجار “كوهونغ” في الواقع. وهذا التفريغ من الإمبراطورية هو نظرية التبعية لسمير أمين، وإنما في الاتجاه المعاكس. كان الهامش يعتمد في يوم من الأيام على العاصمة الإمبراطورية. والآن، أصبحت العاصمة القذرة تعتمد على الهامش. ولأن الهامش سيكون ملكًا في القريب. و”البرجوازية الكومبرادورية”، كما أطلق عليها ماركس، تبيع، مرة أخرى، على عكس النظرية الأصلية، بلدها الكبير إلى “البرجوازية القومية” في العالم الثالث.

إن الإمبراطورية تلتهم نفسها، والإمبرياليون الكومبرادوريون هم الذين يقسمون ويوزعون الحصص.

*Jason Morgan: أستاذ مشارك في جامعة ريتاكو في كاشيوا باليابان.

*نشر هذا المقال تحت عنوان: Comprador Imperialism

هوامش المترجم:

(1) الكوهونغ Cohong، التي تُلفَظ أحيانًا “كيهانغ” أو “غونغانغ”، عبارة عن نقابة من التجار الصينيين أو الـ”هونغ”، الذين كانوا يديرون احتكار الاستيراد والتصدير في منطقة كانتون (قوانغتشو الحالية) خلال عهد أسرة تشينغ (1644-1911). وخلال القرن الذي سبق حرب الأفيون الأولى 1839-1842، كانت العلاقات التجارية بين الصين وأوروبا تتم حصريًا عبر الكوهونغ -وهو نظام تم إضفاء الطابع الرسمي عليه بموجب مرسوم إمبراطوري من الإمبراطور كيانلونغ في العام 1760. كان يُشار إلى التجار الصينيين الذين شكلوا الكوهونغ باسم hangshang، وإلى نظرائهم الأجانب باسم yanghang (حرفيا “التجار الأجانب”).

(2) “بيوريزما القابضة المحدودة” Burisma Holdings Limited هي شركة قابضة لمجموعة من شركات استكشاف وإنتاج الطاقة. وهي مسجلة في ليماسول، قبرص، لكنّ مقرها في كييف، أوكرانيا. وتعمل بيوريزما القابضة في سوق الغاز الطبيعي الأوكراني منذ العام 2002. وهي واحدة من أكبر منتجي الغاز الطبيعي الخاصين في أوكرانيا.

 

المصدر: الغد الأردنية/(ذا أميركان كونسيرفاتيف)

زر الذهاب إلى الأعلى