كــوبـرا

محمود الوهب

“قصة كتبتها أواخر عام 2012 وأنا في حلب مع بدء حرب البراميل وكان لابد من بعض الرموز القريبة”.

بعض الكتب، لا تكتفي بتزويدك بالأفكار الجديدة وحسب، بل تعينك على ابتكار أفكار أخرى، تراها تلمع، حين توالدها في ذهنك، مثل ذهب خالص! هذا ما لمسته، صباح اليوم، وأنا أتابع قراءة رواية مترجمة تدور حوادثها حول حياة الإنسان القديم، وبالتحديد حول مراحل حياته الأولى التي توسم، عادة، بالمرحلة الوحشية، هذه المرحلة التي تعد، على بساطتها، الأغنى، رغم قسوتها، في تاريخ الإنسان كله.. فهي الأصل والأساس.. ومنها استكمال الإنسان مراحل تكوينه، ومن ثمّ بدءُ تحوّله من الأدنى إلى الأرقى..!

حين أخذت الأفكار تبرق من بين أسطر الرواية ومن خلفها، وتتوارد إلى خاطري لمعاً خاطفة، هرعت نحو حاسوبي، مبادراً لتدوينها واحدة.. واحدة، خشية عليها من التيه في دهاليز الذاكرة، أو الاختلاط! ولكن ما حدث، في تلك اللحظة، كان صدمة فظيعة لي..! فما إن أقلع جهاز الحاسوب، واستويت أمامه استعداداً للبدء، حتى انقطع التيار الكهربائي. ولما كنت قد تخليت عن أنواع الأقلام، منذ زمن بعيد، فأنا ممن يؤخذ بمنجزات الحضارة.. كان أوَّل ما خطر ببالي، أن أشكو همي إلى جاري العامل في شركة كهرباء حلب، إنه قريب مني، ويسكن في الطابق الأرضي.. والأهم أنه صاحب نخوة ومروءة، قلت:

لا أحد غير «أبو نضال» يعينني في هذه المحنة، فيعمل، بما لديه من خبرة، على إصلاح هذا العطل المفاجئ.. وهكذا جريت نحو سماعة الهاتف، لكن الملعونة خذلتني، فلا حرارة فيها، قلت:

لعلّ برودة الطقس تغلغلت إليها.. الخلوي، هو الآخر، أعطاني إشارة خارج التغطية.. الحكاية فيها أنّة، أو إنَّ كما يقال.. على كل حال، المسألة لا تحتاج لأكثر من عدة درجات، انزلها يا عبد الحفيظ.. وانه مشكلتك. وهكذا كرّت قدماي نزولاً على الدرجات دون أن أنتبه إلى أنني ما أزال في ثياب النوم! إذ إنني في العادة أقرأ مع فنجان القهوة الصباحي.. هي المرة الأولى التي أطرق فيها باب جيراني مبكراً، ولكن ما العمل؟! ليس لديّ وسيلة أنجع! فالقبض على جاري قبل أن يغادر إلى وظيفته، وقبل أن تتسرب الأفكار من رأسي، هو ما يشغل بالي.

استقبلتني أم نضال بدهشة واستغراب..! وهذا أمر طبيعي، فقد فاجأتها، وهي لا تريدني أن أرى وجهها الذي لم ير الماء بعد، والأهم أنّ بقايا مساحيق الأمس قد حولته إلى خارطة مرت عليه فلول جيوش منهزمة.. أبعدت نظري عن عيني جارتي، خوفاً من تفجر غضب محتمل، أو عتاب ربما تحوّل إلى كلام لا محل له من الإعراب.. ومن هنا بالضبط، كان تلعثمي وتأتأتي لدى محاولتي البدء بالحديث. لكنني، في النهاية، استطعت تركيب جملة مناسبة، أوصلتها إلى أذني جارتي أم نضال بوضوح، رغم أنني من شدة الارتباك، نسيت السلام، ونسيت معه رجاء الخير للمرأة وزوجها، وللوطن العزيز على قلوبنا، نحن أبناءَه الودودين الذين يقدّمون دائماً مصالحه العليا وقضاياه الأساسية على اهتماماتهم التافهة. قلت لأم نضال:

الجيران لبعضها، يا جارتنا، لو أنّ حبيب القلب «أبو نضال» ولا أعرف كيف خرجت من فمي كلمة، حبيب القلب هذه، كان يجب أن أقول صديقي، يصعد معي إلى المنزل.. فقد انقطعت الكهرباء عندنا من غير سبب.. وأنا، الآن بالذات، في أمس الحاجة إليها، فالأفكار التي راودتني قبل لحظات تكاد أن تطير من رأسي.. ناهيك بالغسيل الذي تضعه السيدة زوجتي كلّ صباح في الغسالة، وكذلك، أنت تعرفين، كم هي الكهرباء ضرورية صباحاً لتحضير الأولاد للمدارس وغير ذلك! وقبل أن أصل إلى عبارة: “اعذريني لهذا الحضور المبكّر!”

حدقت الجارة في وجهي، وكانت على وشك أن تصفعني بلسانها الذي تقول عنه زوجتي:

إنه يلفّ حول قلعة حلب. رازتني من أعلى إلى أسفل وقالت باقتضاب، ولكن بامتعاض واضح فيه استصغار لشأني:

الكهرباء، وكذلك الهاتف، يا جارنا الحبيب، مقطوعان عن حي السريان كلِّه، أما «حبيبك» أبو نضال، فتراه عند الفران، ذهب ليحضر خبز الأولاد..!

* * *

في الحال أدرت ظهري، واتجهت نحو الفرن الحكومي في المنشية القديمة، وأنا أهمس لنفسي:

إنهما عصفوران بحجر واحد، أجلب الخبز للبيت، وكذلك أصطحب حبيبي «أبو نضال!»

ركضت باتجاه الفرن، وما إن صرت على مسافة غير بعيدة من المكان، حتى واتاني ضجيج وفوضى، أمعنت النظر، فوجدت الفرن قد اختفى خلف حشود هائلة من الجماهير أمثالي، تعوّذت بالله من الشيطان الرجيم، وتساءلت عما يجري؟! وعن سرّ هذه الجموع الهائلة؟! وما تخفيه وراءها؟! أهي مجاعة، لا سمح الله، وقدّر؟! ولكن من أين تأتي المجاعات.. طوال عمرنا نحمل فضلات الخبز إلى الحاويات..؟! أجلت النظر بين جموع الناس، فلم أستطع الاقتراب من جاري.. كان غائصاً في قلب المعمعة.. سألت عن أسباب الازدحام، فقيل لي:

المشكلة ليست نقصاً في الخبز، بل في انقطاع المازوت.. ما لنا بطول السيرة.. ذهبت مع بعض أهل الحي، وجاري من بينهم، بعد أن وصله صوتي، للتوسط عند من يلزم لإحضار المازوت.. وحين أعلمت «أبو نضال» بسبب زيارتي المبكرة له قال لي:

المازوت، يا جار الرضا طاقة الطاقات.. صحيح أن الخبز طاقة، والكهرباء طاقة، والذرة، ونواتها طاقة كبرى، وقرّب فمه من أذني مبتسماً، وهمس: وفحولة الرجل طاقة.. لكنّ طاقة المازوت في عالمنا هي الأساس.. منها الخبز ومنها الماء والكهرباء.. ولولاها لما حصلنا نحن، بني الإنسان، على الطاقة ولما كان لنا هذا النشاط وهذه الحيوية..! ورأيته يستوقفني، ويمعن النظر إلى وجهي، ويقول:

أتعلم، يا سيد عبد الحفيظ، أن أجساد أسلافنا وأرواحهم أيضاً، هي من شكّل تلك الطاقة..! لم أناقشه بحقيقة ما أفادني به من علم، بل قلت:

وها نحن اليوم يا صديقي «أبو نضال» خائفون على أنفسنا وأولادنا من فقدان الطاقة.. وترانا نسعى مع الآخرين بحثاً عن المكان الذي توجد فيه مادة المازوت، لنساهم في حل مشكلة الفرّان وخبز الأولاد، ثم نعود إلى حلِّ مشكلة الكهرباء التي في وجودها تثبيت أفكاري، والمحافظة عليها من التبدد والفقدان..

لم أكد أنهي حديثي حتى وجدت نفسي مع جموع هائلة لا حصر لها ولا عد، أمام محطة الوقود عند شارع بارون.. إنها أكثر بما لا يقاس من تلك التي رأيتها عند باب الفرن.. ثم إضافة إلى الناس هنا، وجدنا السيارات والشاحنات والمحاريث الزراعية وغير ذلك من الآلات والماكينات التي لا تعمل إلا بطاقة الذهب الأسود. وكانت الجموع في حالة استماع إلى خطاب بياني يلقيه عليهم «المازوتي»، أعني صاحب المحطة.. ورأيته يشرح لهم، ويعيد في الشرح والتوضيح، وبدا لي أنهم لم يستوعبوا المشكلة.. إما من كثرة الزحام، وإما من ضياع صوته في قلب الضجيج، وفي سعال الجماهير الصباحي.. هؤلاء الذين كانوا قد مجوا سجائرهم على الريق، ومن دون أيّ طعام. أما أنا فقد استوعبت المشكلة سريعاً. فهي تكمن في نقص البراميل والخزانات التي ينقل فيها المازوت، وحين أفهمت المشكلة لأبي نضال ذي الطبع الحامي، هبَّ مباشرة يسأل عن أسباب نقص تلك البراميل؟! لكنّ السيد «المازوتي» صمت للحظة، ثم اعتذر عن الجواب، ومن شدة الإلحاح، قال:

– الكلام بيني وبينكم، احتاجتها الحكومة في أمور مهمة وخطيرة جداً.. تساءلنا:

– وهل هناك ما هو أهم من الخبز وأخطر.. إنه قوت الشعب العظيم، تبسّم ولم يعط أي جواب..! وعند هذه العقدة اجتمع الرأي أن يكون التوجه الجماعي نحو دار الحكومة، لكن واحداً منا، أقنعنا بتعديل بسيط، مفاده أن يكون التوجه نحو القصر العالي، حيث يقيم رأس الكلِّ ذاته.. وقال:

إن ذهبنا إلى الرأس مباشرة، تحل مشكلتنا على الفور.. وأضاف:

لا فائدة ترجى من الأذناب، ولن يأتيكم منهم غير وجع الرأس، وانشغال البال.. سمعنا كلامه ومررنا في طريقنا على جماعة الفرن، فضممناهم إلينا.. إذ إنَّ كثرة العدد من احترام الرجل المقصود، وواجب على الزائرين..

* * *

عند الباب وحوله، صار الجمع أكبر مما يستوعبه قصر، مهما كبر وعظم، ومهما تعددت قاعاته أو اتسعت.. عندئذ، رأى بعضهم أن نختار من بيننا من هو قادر على تزويق الكلام، واختصاره، وتضمينه المعاني المقصودة بدقة.. وحين وقع الاختيار عليّ، وجدوني بلباس النوم، وشعري منكوش منفوش.. قالوا هذا لا ينفع.. وراحوا يبحثون عن شخص آخر مناسب.. وهكذا كثر اللغط، وعلا الهرج والمرج، واشتد الصياح والضجيج، وطالت فترة البحث عن المتحدث المناسب..!

لم تتركهم النافذة الصغيرة في أعلى جدار القصر للحيرة والسؤال! إذ سرعان ما انفتحت عن وجه ناعم، تشرق فيه ابتسامة صافية فيها كلّ رقة الطفولة وبراءتها.. أتعرفون صاحبة الوجه الناعم الجميل من تكون..؟! أنتم لن تصدقوا إن قلت لكم إنها ماري أنطوانيت بالذات؟! والله، إنها ماري بعينها..! وما إن أطلت بجمالها وبهائها حتى أنستنا، من الدهشة، ما جئنا من أجله، وشغلتنا بزهو ابتسامتها ورقتها عنه.. وما كدنا نبادلها الابتسام والسلام حتى استأذنتنا في الغياب دقيقة، وما كذبت خبراً، فما غابت أكثر من لحظات، عادت، بعدها، لتقول:

ما دمت قد رأيتكم هكذا، يا أبناء شعبي وأحبابي، مجتمعين وموحدين على رأي واحد.. فإنني أرغب إليكم بمشاركتي ذوقي ومشاعري، ورفعت في وجهنا حذاء نسوياً مرقّطاً كجلد النمر.. كعبه قياسي في الرفعة والارتفاع والنهوض.. وأضافت، ووجهها يزداد إشراقاً وبراءة:

– إنّه ناعم كالحرير.. مصنوع من جلد الكوبرا.. وأضافت:

– إن الكوبرا أمنا الأولى، إنّكم، لا شك، تعرفون هذه الحقيقة؟! إنها جدتنا، أمّ حوائنا صاحبة آدم.. أما الحذاء فقد اشتريته من «بلاد الثلج والضباب» بإمكانكم أن تدخلوا البهجة إلى قلوب بناتكم ونسائكم.. لتطلبوا واحداً مثلَه..! ثمنه بسيط جداً.. إنه بخمسة آلاف إسترليني فقط..! قالتها هكذا ببساطة، فزادت ابتسامتها رقة وإشراقاً..!

بالطبع أسعدتنا السيدة بحديثها وحذائها، وبتواضعها الجم، ورغبتها الصادقة بمشاركتنا خصوصياتها.. ولم نجد غير أن نبادلها الفرح والابتسام.

ما إن توارت السيدة عن أنظارنا، وغابت خلف نافذتها، حتى قادنا الصمت والكآبة والتحديق في وجوه بعضنا بعضاً إلى الانفضاض، وكدنا أن نَنْفَضَّ فعلاً، ونَنْفِضَ أيدينا مما جئنا من أجله..! لكنّ باب القصر الحديدي الضخم، انفتح على مصراعيه، ليطلّ منه جلالة الملك لويس الأبدي وسط حاشية جامعة شاملة لأرباب السياسة والسلاح والدين.. وكان جلالته يبتسم كالسيدة وأكثر، وقد رفع يديه محيياً ومرحباً وسط تصفيق الحاشية، ثم تصفيقنا العفوي الحاد.. وقد بدأ الحديث بأن شكرنا على اهتمامنا ونباهتنا تجاه الأخطار التي تهدد أمن الدولة والوطن والشعب الذي جئنا نمثله. ثم أسرّ لنا:

– إن عصابات علي بابا والأربعين حرامي هي التي سطت على قوافل براميلنا، وهي في طريقها من شرق بغداد إلى بلاد الشام. وهي التي تسببت بما جئنا نشكو منه..! وقال مؤكداً:

– حاولنا مصالحتهم، فلم يقبلوا منا أية فدية أو رشوة، كما أنهم رفضوا أن يأخذوا ويعطوا في الحديث. فماذا تقولون؟! ولم يكد أحد منا يحرك لسانه داخل فمه، حتى مدّ جلالته عنقه الطويل، ولسانه الأطول، وقال:

انتهى الحوار بيننا وبينهم.. ولم يبق أمامنا غير الحرب، فهي التي ستأتي لنا برؤوسهم.. سترونها تحت أقدامكم، وستؤمن لكم الأمن والدفء والسلام.. وصفق الباب خلفه صفقة اهتزت لها الأرجاء المحيطة.. ارتعدنا، من شدة الهول، واندفعنا نتدحرج، بعضنا فوق بعض، محاولين تلمُّس طريق عودتنا، والدنيا تشتد من حولنا غباراً ودخاناً وظلاماً، رغم أننا لا نزال في عزّ الضحى..! ثم بدأنا نسمع قعقعة.. ونرى أشياء ملتهبة تترامى من حولنا وفوقنا.. وحين أخذت أجسادنا تغرق بالسائل اللزج، تساءلنا ببلاهة.. كيف، ولماذا، يتحوّل لون المازوت من الأصفر الباهت إلى الأحمر القاني..؟! عندها فقط أدركنا، ونحن، بين اليقظة والحلم، أنّ حرب البراميل قد بدأت..!

حلب /كانون الأول/2012/

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى