في شباط (فبراير) 2020 كان من المقرر أن توقّع إثيوبيا في احتفال في واشنطن اتفاقاً رعته الولايات المتحدة بشأن سدّ النهضة، لكن إثيوبيا لم تحضر. حينها تفاجأ المراقبون من أجندة أديس أبابا ورئيس الحكومة آبي أحمد في تحدي الإرادة الأميركية. بعضهم توقّع غضباً أميركياً يأتي رافداً لموقف مصر والسودان معزّزاً رؤيتهما حيال أزمة ذلك السد. لكن واشنطن لم تغضب.
حسابات آبي أحمد الانتخابية في بلاده آنذاك كانت أهم من سياسة واشنطن في هذا الملف. لكن أكثر من ذلك، فإن رؤية رجل إثيوبيا القوي للمشهد الدولي في الصراع الأفريقي، لا سيما تلك المنافسة الروسية – الصينية للولايات المتحدة وأوروبا، دفعته لإدارة ظهره لواشنطن والحرد من اتفاق حول السد استثمرت فيه الولايات المتحدة كثيراً من الجهد والسمعة والآمال.
من يراقب حراك عبدالفتاح البرهان والقيادة العسكرية في السودان قد يستنتج أيضاً ما استنتجه آبي أحمد في إثيوبيا. لم يكترث الجنرال السوداني كثيراً لوجود المبعوث الأميركي جيفري فيلتمان في بلاده وبذله جهوداً لرأب الصدع بين العسكريين والمدنيين. ولم يغيّر ذلك من خططه التي تمّ التحضير لها منذ أسابيع لاتخاذ القرارات التي أنهت مرحلة التعايش المدني – العسكري التي تلت إطاحة عمر حسن البشير.
والأرجح أن محادثات فيلتمان في الخرطوم شجعت المكون العسكري على عدم التردد في القيام بما يخطط له، ذلك أن البرهان يملك من المعطيات، بما فيها تلك الأميركية، التي تستشرف “تفهّم” المجتمع الدولي لخطواته. يكفي تأمل تصريحات فيلتمان نفسه بعد أن تحرك العسكر لإطاحة العملية السياسية، من حيث خلوها من أي إدانة واعتبار ذلك التحرك “مخالفاً للدستور”. لكن الموقف الأميركي تطور لاحقاً وأصبح في الشكل أكثر حدّة.
لم يكن مفاجئاً أن تنتهي أمور ذلك الخليط غير المنطقي بين العسكري والمدني إلى المآل الذي وصلت إليه فجر الاثنين الماضي، فالبلد (إلا من بعض الاستثناءات) يحكمه العسكر منذ الاستقلال، لا سيما منذ انقلاب إبراهيم عبود عام 1958. صحيح أن ثورة شعبية ضخمة احتلت أواخر 2018 الشوارع مطالبة برحيل البشير، غير أن ذلك الرحيل لم يكن ليحصل من دون إنقلاب نفذه العسكر على الرئيس، خصوصاً بعد فشل محاولات دموية ملتبسة لفض الاعتصامات. ولئن لم يعد مفيداً الاستغراق في جدل عقيم حول ما إذا كانت إطاحة البشير نتاج المدني أو العسكري، فإن في قرارات البرهان ما قد يحسم هوية من يملك القرار في السودان.
لم تصف الولايات المتحدة تحرك العسكر، سواء في اعتقال المدنيين، بمن فيهم رئيس الحكومة عبد الله حمدوك ثم الإفراج عنه، أم في القرارات التي حلّت المجالس التي أنتجتها الوثيقة الدستورية، بالانقلاب. تستخدم واشنطن تعبير take over “استيلاء” على السلطة وليس الانقلاب. الأمر لم يقتصر فقط على دوائر البيت الأبيض ووزارة الخارجية، بل حتى أجواء الكونغرس لا توحي بالدفع الى القطيعة مع “النظام الجديد” في السودان. صحيح أن واشنطن أوقفت دعماً قيمته 700 مليون دولار كان مقرراً للسودان، إلا أن التسرّع بوصف التطور بالانقلاب يفرض تبعات قانونية لا تريد الإدارة الأميركية، على الأقل في الوقت الحالي، اللجوء إليها.
تُقاربُ الولايات المتحدة أزمة السودان من ضمن مشهد أفريقي عام وداخل سياق صراعاتها الدولية الكبرى، لا سيما مع روسيا، وخصوصاً مع الصين. استعادت واشنطن حضورها في السودان في السنوات الأخيرة من حكم البشير وواكبت المسار الذي أنهى الحرب بين الشمال والجنوب. لم تكن واشنطن (وفق رؤية الزعيم الجنوبي الراحل جون قرنق) تشجع على انفصال هذا الجنوب، لكنها تماشت مع ما رسمته صناديق الاستفتاء المطالبة بالاستقلال. وحين تمت إطاحة البشير استبشرت واشنطن خيراً بـ “استعادة” السودان إلى رقعة نفوذها في القارة السمراء.
غير أن المراقب للجدل السوداني حول العلاقة بين واشنطن وموسكو لاحظ بسهولة نزوع المكون المدني الى إلغاء الاتفاقات العسكرية التي كان أبرمها نظام البشير مع موسكو لإقامة منشأة عسكرية روسية على البحر الأحمر، مقابل تأكيد المكون العسكري الحرص على تلك الاتفاقات وتلك المنشأة بالذات. البرهان نفسه كان نفى في 9 حزيران (يونيو) الماضي إقدام الخرطوم على إلغاء فكرة إنشاء قاعدة بحرية روسية في البحر الأحمر. حتى أن وزارة الخارجية الروسية لم تخجل من إظهار غبطتها من حركة البرهان التي اعتبرتها “دليلا على أزمة حادة ناجمة عن اتباع سياسة فاشلة على مدى عامين”.
غير أنه من جهة أخرى يسهل استنتاج اندفاع المكون العسكري، وبشخص البرهان بالذات، الى مجاراة الضغوط الأميركية بشأن التطبيع مع إسرائيل. وقد ذهب البرهان بعيداً في هذا الصدد بعد اجتماع ضمّه في أوغندا في شباط (فبراير) 2020 مع رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق بنيامين نتنياهو. في المقابل يظهر تحفّظ المكوّن المدني والدفع بتأجيل البت بالأمر إلى ما بعد انتهاء المرحلة الانتقالية.
على هذا لا يبدو البرهان معانداً لطبيعة المشهد الدولي الراهن. يكفي تأمل ردود الفعل الدولية والإقليمية والعربية لاستنتاج “التريث البناء” الذي يقابل به العالم أجمع تطورات السودان (لاحظ الانقسام الأفريقي). والأرجح أن العالم الغربي معنيّ بحكم مستقرّ يعدُ به البرهان من خلال توليفة جديدة بين العسكر والمدنيين. والواضح أيضاً أن تياراً مدنياً آخر من أحزاب وتكتلات وفصائل (كانت مسلّحة قبل أن يتم توقيع اتفاق معها في جوبا في خريف 2020) قد تمّ إعداده وتوضيبه بعناية خلال الأشهر الماضية، وعبّر عن نفسه بالقول والعمل (حراك مجلس نظارات البجا في الشرق واعتصامات القصر الجمهوري مثالاً) في الأيام الأخيرة التي سبقت تحرك فجر الاثنين.
لا يبدو البرهان قلقاً من الموقف الدولي حيال إنهاء الشراكة التي جمعت العسكر مع المكون المدني بعد إطاحة البشير، مقابل الوعد بشراكة جديدة مع مكون مدني بديل لإرساء مرحلة أكثر استقراراً ونجاعة. وقد لا يبدو أيضاً أنه قلق من احتمال تدهور الوضع الداخلي، وهو الذي يستظل بالإشارة إلى تجربة سوار الذهب مرجعاً، وأن لديه من المعطيات ما يمكنه من إدارة الصراع بأدوات بيتية تراعي توزيعاً آخر للسلطة والثروة في البلاد، خصوصاً أن الأحداث كشفت عمق الانقسام لدى قوى الحرية والتغيير، مقابل وحدة موقف العسكر ووحدة موقف البرهان ونائبة محمد حمدان دقلو (حميدتي) التي شاع نقيضها قبل أشهر.
ولئن يبدو التطور الدراماتيكي انقلاباً على واشنطن بعد ساعات على مغادرة مبعوثها البلاد، غير أن البرهان، الذي أزالت واشنطن بلاده حديثاً عن لوائح الإرهاب، يعرف جيداً هامش المتاح وهامش الممنوع في العلاقة مع الولايات المتحدة. ولا عجب من أن تكون اجتماعاته الأخيرة مع مبعوثها جيفري فيلتمان قد أوضحت بدقة الخطوط التي تحرّك وفقها من دون أن ترى واشنطن حتى كتابة هذه السطور في فعلة البرهان انقلاباً عسكرياً لا تبيحه شرائع الكابيتول.
قرأ البرهان العالم بعين مجازِفة، فيما للعالم أطوار وأمزجة معقّدة عصيّة على رؤيتها أحياناً بأي عين مجردة.
المصدر: النهار العربي