أصل هذه المادة ورقة تكون قاعدة للحوار والنقاش الجماعي في موقع على الشبكة العنكبوتية، وحين تم تكليفي بهذه الورقة كان علي للقائمين على هذا الموقع حق الشكر والتقدير على هذه الثقة، وفي هذا الموضوع المهم لكل السوريين ولكل المهتمين بالشأن السوري، لكن لظرف فني خاص تعذر عقد هذه الندوة، لتتحول هذه الورقة إلى مقال مفتوح لكل مشاركة وراي وتفاعل.
كمدخل لورقتي هذه فإني أشير الى أن كل حوار ومناقشة تجري في الشأن السوري فإنها تجري مضمخة بدم السوريين، وبعذابات المغيبين في سجون النظام وسجون القوى المسيطرة على الشأن السوري، وبالقهر والحزن الذي يعيشه المهجرون واللاجئون، وبالغبار الخانقة للمدن والأحياء المدمرة بفعل القصف الذي طال حواضر الحياة في بلدنا بمختلف آلات الحرب من صواريخ تطلق من الأرض ومن البوارج والغواصات، إلى قصف الطائرات والبراميل المتفجرة. إلى تفجير للسيارات المفخخة.
فجيعة ما نحن فيه، لا تسمح أبدا بأي حوار لا يستحضر هذه الصورة حضورا حيا فاعلا، ولا يجعلها هي المسيطرة والموجهة لكل حوار.
ثم إننا ونحن نتحدث في هذا الشأن السوري لابد أن نلتزم حقيقة أننا نتحاور في خضم الثورة السورية، والحراك الثوري السوري الذي انطلق قبل أكثر من عشر سنوات، وخلال كل هذه المدة لم يقترب هذا الحراك من هدفه، بل إن التطورات على الأرض جعلت الهدف الذي تفجر هذا الحراك الثوري لأجله يبتعد شيئا فشيئا حتى بات كأنه لا يرى، لذا فإن استرجاع الاستهداف الرئيسي لهذا الحراك يجب أن يكون حاضرا في كل حوار وفي كل طرح.
مهم أن نثبت في البداية أن الشعب السوري الذي تحرك ضد نظام الأسد كان يستهدف التخلص من نظام الاستبداد والطائفية والقهر والفساد، ثم اضافت تطورات الأحداث تباعا على الصفات السابقة لنظام الأسد صفة نظام القتل الممنهج، فاصبح التخلص من مثل هذا النظام شرط لأي مستقبل ممكن لسوريا.
السوريون الذين تحركوا في درعا، ثم اتسع تحركهم ليغطي كل ساحة الوطن، لم يتحركوا لسبب اقتصادي، ولا لسبب ديني، ولا لسبب عرقي قومي، ولم يتحركوا للتغيير بقوة السلاح، وإنما تحركوا سلميا مستهدفين إقامة نظام يعبر عن إرادتهم، نظام لا يكون الفساد فيه منهجا متبعا، نظام متحرر من إرهاب أجهزة الأمن وسجونه، نظامِ يقف أمامهم مسؤولا، يخضع كل من فيه للمحاسبة في أي وقت، ويقفون جميعا أمام قانون واحد يحقق العدالة والمواطنية لكل أبناء الوطن.
أراد السوريون من ثورتهم أن تبني دولة: المواطنة والقانون والديموقراطية والعدل والكرامة، دولة الناس أمامها سواسية.
لم يتحرك السوريون لأن ” بشار الأسد” كان كافرا، أولأن الإسلام كان مهانا في هذا النظام، ولم يتحرك السوريون لأن تنمية حلب كانت في الدرجة الثانية عن تنمية دمشق، أو لأن مشاريع البنية التحتية في اللاذقية أو بانياس متقدمة عن المحافظات الأخرى.
وإذا كان هدف إقامة دولة مواطنة وقانون ومساواة بين الجميع لا تفاضل بينهم إلا بالكفاءة والحاجة: جميع المواطنين، وجميع المناطق، وجميع الأجهزة وجميع الثروات.
وإذا كان الحراك الثوري استهدف تغييرا دستوريا وقانونيا يحقق هذا الهدف، ويوفر الضمانات له، ويحرسه من كل من يغير عليه أو يعتدي.
فإن أي حل يطرح للمسألة السورية بعد مضي هذه السنوات الطوال من القتال والصراع يجب أن يضمن في حده الأدنى هذه الأسس التي قامت الثورة وقام الحراك الثوري من أجلها، وبالطبع فإن أي حل حتى ينجح لا بد أن يضيف لما سبق ما كشفت عنه سنوات الصراع الماضية من حقائق، أو ما أحدثته من وقائع.
وقد أضافت السنوات العشر الماضية نحو مليون قتيل وشهيد ومغيب، وأضافت دمارا هائلا في البنية التحتية للوطن، وأضافت ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، معظمها من جانب قوات النظام وحلفائه، لكن فصائل من المعارضة المسلحة لم تكن بريئة من ذلك، وأضافت استقدام قوات احتلال وميليشيات طائفية ومقاتلين ومرتزقة من كل صنف وبلد، وكلهم جاء دفاعا عن النظام أو دفاعا عن مقدسات مزعومة، أو مشاركة في ثورة عملوا على اختطافها أو حرفها عن مسارها، وكلهم جاء تحت ألوية وشعارات طائفية.
وأضافت هذه السنوات العشر وضوحَ خطط لتقسيم سوريا، التي باتت واقعيا مقسمة إلى أربعة مناطق أو أكثر، وتقام في هذه المناطق سلطات تمارس كل أنواع السلطة في مناطقها، تقيم السجون، وتجبي الضرائب، وتجند الشباب، وتبيع وتتاجر بالثروات الوطنية وتعقد الصفقات مع جهات خارجية. وباتت سوريا خاضعة لسيطرة قوات روسية وإيرانية وتركية وأمريكية، وميليشيات تابعة من كل صنف ولون.
كذلك أضافت السنوات العشر حقيقة أن دول العالم المؤثرة لا تريد المساعدة في حل المسألة السورية، وأن القرار الأممي الوحيد الذي حدد مسار الحل في سوريا 2254 بقي معطلا رغم تعدد المسؤولين الأمميين الذين كلفوا بهذا الملف، ورغم تعدد الاجتماعات، بل والمنصات والمؤتمرات واللقاءات التي اعتبرت مساعدة وتنشط في إطار تفعيل هذا القرار الدولي.
الحديث عن سوريا فدرالية يأتي ـ عند من يطرحون هذا التصور ـ كمخرج لمعالجة هذا الملف السوري، فهل يقدم هذا التصور حلا أو إطار حل، أو يوفر خارطة طريق لهذا الملف.
هذا هو السؤال العام الذي تقف أمامه هذه الورقة؟.
وهذا السؤال العام يحتاج إلى تفكيك وتوضيح، حتى يعطي الطرح والحوار ثماره، وفي هذه الورقة أتناول هذا السؤال العام في نقاط محددة.
أولا: في معنى “الدولة الفيدرالية”.
أول ما يجب إيضاحه هنا يتصل بمعنى الفدرالية أو الدولة الفدرالية، وفي تعريب هذه الكلمة فإننا نتحدث عن “الدولة الاتحادية”، أي تحويل سوريا إلى دولة اتحادية مكونة من عدة أقاليم أو جمهوريات أو ولايات تقيم فيما بينها سلطة مركزية واحدة يعهد إليها بسلطات وصلاحيات وإمكانات تحفظ وجود واستمرار الوحدة بين مكوناتها.
دول عديدة في العالم قائمة على الأساس الاتحادي: الولايات المتحدة، روسيا الاتحادية، البرازيل، المانيا، سويسرا، ودولة الامارات العربية المتحدة، وعدد وافر من الدول.
هذا النموذج من الدول يغري بتقديم إجابة سريعة بأن بناء الدولة على أساس اتحادي يوفر راحة واستقرارا واطمئنان، وحرية حركة، وتنمية أوفر، لكل مكونات هذه الدول، وبالتالي فإن اتخاذ هذا النموذج يعتبر سبيلا لإخراج سوريا مما هي فيه.
لكن هذا الاغراء يصطدم ببعض الحقائق الخاصة بالنموذج الاتحادي:
1ـ الحقيقة الأولى: أن هذه الدولة الاتحادية دولة ابتداء وليست دولة ولدت من تفكيك دولة قائمة، إذ لم تكن الدول المشار إليها دولا موحدة ثم تم تفكيكها لتصبح دولة اتحادية. أي أن الدولة الاتحادية لم تقدم كحل لمشكلة في دولة قائمة، وإنما تأسيسا لكيان جديد، دولة جديدة رأت مكونات وقوى اجتماعية عدة أن تلتقي على إقامتها.
2ـ الحقيقة الثانية: أن تحديد شكل الدولة يحتاج إلى اجماع وطني، ولا يبنى الاجماع الوطني على قاعدة الحوار والاقناع الشخصي، وإنما على وجود أساس اجتماعي وسياسي واقتصادي “أساس موضوعي” يولد هذا الاجماع، ويستند إليه.
إن رفض السوريين بكافة تكويناتهم السياسية والاجتماعية للمشروع الفرنسي بتقسيم سوريا إبان الانتداب إلى خمس ولايات أو دول وهي: دولة جبال العلويين، وإقليم الجزيرة، ودولة السويداء “جبل الدروز”، ودولة حلب، ودولة دمشق، ( وفي مشروعهم جعلوا لبنان الكبير دولة، ولواء الاسكندرونة دولة باسم دولة خطاي)، جاء نتيجة يقينهم جميعا بأن السوريين في كل هذه الأقسام شعب واحد، وأن تقسيمهم المقترح إنما يستهدف تجزئتهم لتيسير السيطرة عليهم، وإنهاء أي مقاومة لقوات الاحتلال.
وبالتأكيد ليس هناك إجماع وطني على إعادة تشكيل سوريا على أساس اتحادي، بل ليس هناك قبول من معظم السوريين لمثل هذا الطرح فيما عدا جهتين اثنتين:
** بعض المثقفين: الذين يبحثون عن حل لمأزق الوضع السوري معتقدين أن طرح “الدولة الاتحادية يعتبر حلا”. وذلك بعد أن يئسوا من كل محاولات الحل التي طرحت للمسألة السورية، وبعد أن وصل بعضهم للاعتقاد بأن “الوطنية السورية” كمفهوم وقيمة ما عادت قادرة على جمع السوريين. أي أنهم باتوا يعتقدون أنه لا وجود حقيقي لهذا المفهوم بين القوى السورية الفاعلة. وإلى جانب هؤلاء “المثقفين” توجد بعض الجهات والتشكيلات السورية التي لا تمثل فرقا على الأرض، ويرتبط قرارها بعواصم التأثير الأجنبية، قد أعلنت موافقتها على مشروع الفدرالية كمثل ما أعلن حزب “الإرادة الشعبية” الذي يرأسه “قدري جميل” في مؤتمر صحفي عقده في موسكو مع الهام أحمد القيادية في حزب الاتحاد الديموقراطي “بي يي دي” الكردي في موسكو نهاية أغسطس من العام الفائت
** الحركة الانفصالية الكردية: وهي حركة تستهدف خلق كيان كردي مستقل على كامل المساحة التي يمكن أن يسيطروا عليها. دون النظر إلى حجم الحقيقي للتواجد الكردي في هذه المناطق، وهذه الحركة هي التي تقيم الآن ما يعرف بإقليم “روجوفا” الخاضع لسيطرة حزب الاتحاد الديموقراطي، وهو الذراع السوري لحزب العمال الكردستاني، وصار لاحقا يعمل تحت مسمى قسد ” قوات سوريا الديموقراطية”. فيما ينشط سياسيا تحت اسم مسد (مجلس سوريا الديموقراطي).وهذه الحركة تضع ثقتها التامة بواشنطن، وهي حليفتها دون منازع، تطلعا إلى أن يرتقي تبني واشنطن لهم إلى مستوى تبنيها للكيان الصهيوني.
ويضاف إلى هاتين الجهتين السوريتين أن القوى الدولة وأخص هنا الولايات المتحدة وروسيا، لا يجدون مانعا من إعادة تركيب الكيان السوري على أساس اتحادي بعد أن تم تفكيكه إلى مناطق شبه مستقلة.
في العام 2015 صدر عن مركز القرن الواحد والعشرين للأمن والاستخبارات التابع ل”معهد بروكينجز” دراسة بعنوان “تفكيك سوريا … نحو استراتيجية إقليمية لبلد كونفدرالي”، وواضح من هذه الدراسة أنها ترسم الاستراتيجية الأمريكية تجاه سوريا وحراكها الثوري.
كذلك وقفت روسيا باستمرار ومنذ الأيام الأولى للثورة السورية إلى جانب الفدرالية، وهي كانت وما زالت تقدمها للأكراد كإغراء للتباحث مع نظام الأسد، وفي أحدث ما قامت به موسكو في هذا الشأن ما أعلنه وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف مطلع يوليو الماضي عن إمكانية إقامة حكم ذاتي للأكراد داعيا إلى استئناف المفاوضات الكردية من نظام دمشق وقدم لافروف في تصريحاته مطلع يوليو الماضي العراق نموذجا للحكم الذاتي الذي يمكن ان يقدم للأكراد في سوريا اذا دخلوا في حوار مع النظام مشددا على أن موسكو تتبنى مثل هذا التصور وتشجع التفاوض على أساسه منذ دخولها سوريا.
ثانيا: الأساس الموضوعي لوجود الدولة الاتحادية.
ما هو الأساس الموضوعي لإقامة نظام حكم اتحادي؟.
هذا سؤال جوهري، لأنه الأساس الذي يوفر أكثر القواعد استقرارا لمثل هذا النظام، هل سيقام على أساس عرقي. أو طائفي، أو ديني، أو على أساس جغرافي، أو على أساس توزع الثروات؟، ما هو الأساس الذي سيتم الاستناد إليه.
خارطة سوريا البشرية أمامنا، وهي تقول لنا أن ما يدعى بالفسيفساء السورية هي فسيفساء متداخلة. فليس هناك مدينة أو محافظة أو منطقة تخلو من العناصر الرئيسة المكونة للمجتمع السوري:
** دينيا: المسلمون بمختلف طوائفهم والمسيحيون بمختلف طوائفهم موجودون في كل سوريا.
** طائفيا: ليست هناك منطقة تختص بطائفة، أو مذهب مسيحي. أو بطائفة، أو مذهب إسلامي
صحيح أن وجود العلويين أكثر في الساحل. لكنها أكثرية جزئية، ونسبية، في بعض بلدات الساحل، وهم موجودون في مختلف المدن من دمشق إلى الرقة إلى الحسكة والقامشلي، وتاريخيا تعتبر مدينة السلمية في محافظة حماة مركزا للدعوة الإسماعيلية ، لكن هذه المدينة يضم مزيجا من السنة والاسماعيلية ولا اغلبية فيه، ويصدق هذا التوصيف المذهبي في كل سوريا.
** عرقيا: للذين يعتبرون الأكراد عرقا له خصوصيته ـ وهذه نظرية عنصرية لا قيمة علمية لها ـ نقول بأن ما صدق على التوزيع الطائفي يصدق على التوزيع العرقي، ففي كل المدن السورية هناك أحياء كردية لأن غالب سكانها تعود أصولهم إلى الكردية في دمشق وحماة وحمص وحلب والرقة والقامشلي، والمدن الأخرى. لكن هذه التسمية أطلقت لاعتبار أصل الوجود ومبتدؤه، وليس لأن الأمر كذلك على الحقيقة الراهنة، ففي كل هذه الأحياء والبلدات لم يتوقف التزاوج والمصاهرة والاندماج بين السكان في هذه المدن والبلدات، وسيكون من المستحيل أن تقول هذه الأسرة كردية الأصل أو عربية الأصل، أو تركمانية الأصل.
فقط لم يكن هناك تزاوج بين المسلمات والمسيحيين. لأن ذلك يخالف المستقر في الدين الإسلامي، وهذا لم يشكل يوما ما فارقا بين المسلمين والمسيحيين يفصل أبناء الوطن الواحد، أو يحول دون تفاعلهم، أو يولد مشكلة ذات أبعاد اجتماعية تؤثر على وحدة المجتمع.
الحديث عن كردستان سوريا حديث مستجد، حديث خرافة، لا أصل له تاريخيا أو اجتماعيا.
الذي يعرف سوريا بحق يعرف أن في القامشلي التي أطلقوا عليها اسم ” قامشلو” ليس هناك إلا حي واحد يدعى بحي الأكراد، وكذلك في الرقة، وهؤلاء معظمهم ممن هاجر وهرب من تركيا مطلع القرن العشرين وجاء إلى سوريا، والذي يراجع تاريخ سوريا الحديث سوف يمر على التحذير الذي أطلقه في العام 1931 العلامة “محمد كرد علي” وكان وزيرا للمعارف مطالبا حكومة الشيخ تاج الدين الحسيني بنقل الأكراد الهاربين من عنف نظام أتاتورك إلى الداخل السوري حتى لا يتمركز وجودهم في المناطق المحاذية للمناطق الكردية في تركيا مما سيولد لاحقا حسبما توقع ـ وصدق توقعه ـ مشكلة حدودية ومشكلة أقليات.
أما أكراد الداخل فقد كانوا دائما مندمجين في الحياة العامة السورية، سياسة وثقافة ومسؤولية، ومشاركين في الثورات السورية، وفي الحكومات السورية، وفي الانقلابات السورية، وفي الأحزاب والتيارات السياسية السورية: في التيار الشيوعي، والبعثي، والناصري، والأخوان المسلمون، ومختلف تجليات هذه التيارات وتشكيلاتها وانقساماتها.
نعم في العام ١٩٥٧ بدأ بعض الأكراد يشكلون حزبا لهم، تأثرا بتطور الوضع في شمال العراق، كذلك كانت هناك تشكيلات حزبية للأرمن يساريين ويمينيين.
لكن ذاك كله لم يؤد في أي مرحلة إلى وجود منطقة أو مدينة يمكن أن تصلح لتكون مختصة بجماعة عرقية أو طائفية أو دينية، حتى محافظة السويداء، أو جبل العرب حيث يتمركز السوريون الدروز لم تصبح اختصاصا درزيا يصلح لأن تكون فيه سلطة درزية ذات استقلالية.
إذا كان ما قلناه صحيحا، وهو كذلك، فما هو الأساس الموضوعي لجعل الفدرالية نظام حكم يتطلبه الوضع السوري!
ثالثا: فكرة الأقليات كأساس لإقامة دولة اتحادية.
هل تصلح مثل هذه الفكرة لإقامة دولة اتحادية، أي هل يمكن أن تقوم دولة اتحادية على قاعدة جمع الأقليات فتكون الدولة الاتحادية هي اتحاد للأقليات.
نظريا قد يكون ذلك ممكنا، وقد لا يكون، لكننا فيما نحن نبحثه هنا، وهو الملف السوري، فإن سوريا لا تتشكل من مجموع أقليات، ولم تكن كذلك في يوم من الأيام.
وفي الحسابات العرقية ـ والحسابات العرقية لا قيمة علمية لها ـ، فإن العرب يمثلون نحو 90 % تسعين في المئة من سكان سوريا.
وفيما الأكراد يشكلون أكبر أقلية عرقية في سوريا، فإن تعدادهم على أقصى تقدير لا يتجاوز 8% بالمائة من مجموع السكان ـ في حين تحوز الأقليات العرقية الأخرى ومنهم التركمان على النسبة الباقية.
وإذا قدرنا عدد سكان سوريا حاليا بنحو 25 مليون نسمة فإن عدد الأكراد لن يتجاوز مليوني كردي إلا قليلا، ونصف هؤلاء على الأقل يعيشون في مدن سوريا الكبرى: دمشق وحلب وحماة وحمص والرقة والقامشلي وهم مندمجون في المجتمع الحضري العربي القائم في عبر المصاهرة والسياسة والثقافة والنشاطات المختلفة.
وفي الحسابات الدينية والطائفية فإن المسلمين في سوريا يقدرون بنحو 87% وهذا العدد يضم تقديريا 74% من السنة، و 13% من الشيعة (ووصف الشيعة هنا يشمل: العلويين، والشيعة الامامية، والإسماعيلية)، فيما الدروز يقدرون ب 3% بثلاثة في المائة، والمسيحيون بمذاهبهم الثلاثة (الارثوذكسية، والبابوية، والنسطورية) بنحو 10% عشرة بالمائة.
ولا شك أن التقديرات المعتمدة ليست دقيقة لأسباب موضوعية، لكننا نعتمدها فقط كمؤشرات عامة، وتقديرات التوزيع الطائفي والعرقي تستند إلى مصادر السلطات السورية والأمم المتحدة، وكذلك إلى كتاب “حقائق العالم” الصادر عن وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، وجميعها متاح على الشبكة العنكبوتية.
أمام هذه الخارطة للتوزيع العرقي الافتراضي والتوزيع الديني والطائفي، كيف يمكن إقامة دولة اتحادية على قاعدة هذا التوزيع.
** في الحسابات “العرقية” من قال إن العرب من سكان سوريا يريدون إقامة إقليم خاص بهم!.
** وفي الحسابات الدينية من قال إن المسلمين في سوريا يريدون إقامة إقليم خاص بهم.
** وفي الحسابات الطائفية من قال إن السنة، أو الشيعة، أو العلويون، أو الدروز، أو المسيحيين على اختلاف طوائفهم يريدون إقامة أقاليم خاصة بهم.
استنادا إلى هذا المفهوم يبدوا الحديث عن بناء “دولة اتحادية”، أشبه بلعبة أطفال. يراد منها إضاعة الوقت، أو إلهاء الناس، أو خداع النفس.
رابعا: دولة اتحادية بحكم القوة.
هنا تصبح القوة هي الأساس الموضوعي لإقامة هذه الدولة، أي دولة أقيمت بحكم الأمر الواقع، وهذا يتناقض بشكل جذري مع فكرة الدولة الاتحادية التي تقوم أساسا على التوافق والتأييد من الغالبية الشعبية.
والمثل والنموذج القائم لفرض وجود إقليم ذي استقلالية بالقوة هو ما تقوم به قوات الانفصالية الكردية التي يمثلها حزب الاتحاد الديموقراطي، الذراع السوري لحزب العمال الكردستاني والتي كانت أسست في العام 2012 وحدات حماية الشعب، قبل أن تتحول في 10 أكتوبر 2015 أي بعد احتلال منبج، وبناء على توجيه أمريكي مباشر إلى قوات سوريا الديمقراطية، وقد تزامن هذا التحول مع بدء التدخل العسكري الروسي في سوريا في 30 / 9 / 2015.
والآن تبسط هذه القوات سيطرتها على نحو ربع الأراضي السورية وعلى 80% من الثروة النفطية في سوريا، وعلى الإقليم الزراعي الرئيسي للحبوب والقطن. ويبلغ عدد سكان هذه المنطقة 2,5 مليون نسمة أي عشر عدد سكان سوريا.
وبمجرد أن بسطت هذه القوات سيطرتها على هذا القطاع من الأرض السورية، قامت بعمليات إرهاب وتشريد وحرق وتهجير (تل براك، العيساوي، تل أبيض، الشيوخ، قرب جرابلس، ورأس العين)، واعتقلت واغتالت، وفرضت الضرائب، وفرضت التجنيد الإجباري، وغيرت المناهج الدراسية، وغيرت أسماء المدن والبلدات، وفعلت كل ما يمكن أن تفعله أجهزة الدول المستقلة.
وكانت في هذا السلوك الاستبدادي تنافس سلوك النظام السوري الذي تدعي أنها قامت للعمل على تغييره أو تبديل سلوكه، يوم أن كانت تعلن التزامها ببرنامج “هيئة التنسيق الوطنية لقوى التغيير الديموقراطي في سوريا”.
خامسا: البيئة الإقليمية الدولة الاتحادية.
وللبيئة الإقليمية دور في شكل الدولة المقامة، وحين نتحدث عن الدولة الاتحادية فإن من شروط إقامتها أنها تساعد على توفير السلم والأمن الإقليمي، فلا تكون مصدر تهديد للجوار أو الإقليم التي تقام في إطاره، أي أن شكل الدولة لا يتوقف فقط على الاحتياجات الداخلية للمجتمع المعني، وإنما أيضا على احتياجات أمن المنطقة الإقليمية التي تنتسب إليها هذه الدولة، بل إنه حتى النشاطات الاقتصادية والاجتماعية في الدولة المقصودة يجب أن تراعي عدم احداث تأثيرات سلبية على الجوار.
وإقامة دولة اتحادية في سوريا من شأنه أن ينشر الفوضى في الإقليم كله، ففرض كيان كردي ذو خصوصية على الحدود التركية يمثل تهديدا للأمن القومي التركي، وهذه حقيقة تعرفها دول الإقليم كله، كما تعرفها الدول الكبرى كلها، وبالتأكيد فإن دول الإقليم لن تقبل بها، (نستثني من ذلك الكيان الصهيوني الذي من أهدافه أن يفتت دول ومجتمعات المنطقة).
لن تقبل إيران بوجود كيان كردي في إطار دولة اتحادية سورية، وهم يدركون أن هذا الكيان خطوة لتفتيت سوريا، ولن يقبل بها العراق، الأمر أخطر من مجرد فكرة لحل مشكلة سورية داخلية. لننظر إلى الموقف الإقليمي من إعلان شمال العراق “منطقة كردستان العراق” استفتاء الاستقلال عن بغداد والذي تم يوم 25 سبتمبر 2017 وكانت نتيجته المعلنة 92% لصالح الانفصال، ووصلت نسبة المشاركة إلى 72%، وكذلك الموقف من نتائج ذلك الاستفتاء، حيث رفضت بغداد وواشنطن وروسيا وإيران والسعودية الاستفتاء ونتائجه، كما أكدت تركيا في تصريح لرئيس وزرائها حينها “بن علي يلدريم” في 16 / 9 أن هذا الاستفتاء وما سينجم عنه يمثل تهديدا للأمن القومي التركي، وأنها ستتخذ ما تراه مناسبا إزاء ذلك، فيما وصفه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في اليوم التالي لإجرائه بأنه عمل من أعمال الخيانة.
ثم لنسترجع الأزمة السورية التركية عام 1998 والتي تفجرت نتيجة إيواء النظام السوري زعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان، ورعايتها لمعسكراته، وهي أزمة كادت أن تدفع الطرفين لمواجهة عسكرية، وأمكن تجاوزها بجهود عربية ودولية، أسفرت عن توقيع اتفاق أضنة وملحقاتها في أكتوبر من ذلك العام. وكان من بنود تلك الاتفاقية:
** اغلاق معسكرات الحزب في سوريا ومنع نشاطه انطلاقا من الأراضي السورية.
** التزام سوريا بتصنيف هذا الحزب على قائمة الأحزاب الإرهابية.
** منع قادة هذا الحزب من دخول سوريا، وبناء على ما سبق تم اخراج عبد الله اوجلان من سوريا، وهو ما أسفر لاحقا عن اعتقاله من قبل المخابرات التركية في كينيا بعد ان تقطعت به السبل.
** اتخاذ إجراءات أمنية حدودية، ومن ضمنها السماح للقوات التركية بملاحقة من يهدد الأمن التركي إلى عمق خمسة كيلو مترات داخل الأراضي السورية.
** ووفق هذه الاتفاقية، يعتبر الطرفان أن الخلافات الحدودية بينهما منتهية، وأن أي منهما ليس له أية مطالب أو حقوق مستحقة في أراضي الطرف الآخر (الإشارة هنا إلى لواء الاسكندرونة).
الأمن الإقليمي، أمن دول الإقليم الطبيعية، جزء طبيعي في تصور أي حل سياسي للوضع في سوريا، هذا أمر لا يحتاج إلى دليل، ولا إلى كثير بحث، فهذا من طبائع تكون المجتمعات الإقليمية، وتكون المجتمع الدولي.
في الختام يمكن التأكيد على أنه ليس هناك فرصة حقيقية لبناء سوريا في المستقبل إلا على قاعدة سوريا الواحدة، وسوريا لكل أهلها، والنضال الشعبي بكل أشكاله الذي انطلق في مارس 2011 إنما استهدف إقامة نظام ديموقراطي، نظام مواطنة حقيقية يتساوى فيه الجميع أمام القانون، وينال الجميع حقه من ثروة الوطن، نظام لا يسمح بالفساد، ويتصدى لآلياته، وهو في الوقت نفسه قادر على إحقاق العدالة ومحاسبة المجرمين الذين دمروا هذا الوطن، وارتكبوا كل الجرائم المعروفة والموثقة بحق أبنائه، ومهما بدا أن هذا الهدف حلم بعيد المنال، فإنه ليس هناك بديل عنه.
وفي هذا الوطن يمكن للسوريين أن يقرروا الشكل الذي يريدوه لإدارة وطنهم، ولإدارة ثرواته، ولتحقيق أمنه، ولتحديد أفق تفاعله مع محيطه العربي والإقليمي. ويكون على دولتهم أن توفر ذلك كله، بقدر ما يحتاجه السوريون أنفسهم.
وفي هذا المشهد ليس هناك حد لأي شيء يجمع عليه السوريون، أو تقرره غالبيتهم، بما في ذلك إعادة النظر في التقسيمات الإدارية لسوريا، وتوزيع السلطات بين المركز وهذه السلطات، وعلاقة المواطن مع السلطات المركزية والمحلية.
لكن كل ذلك لا يبنى ولا يقام على قاعدة الانقسامات العرقية والدينية والطائفية، وإنما في إطار يحفظ وحدة الوطن السوري، ويحفظ للمواطن السوري حرية الانتقال والتملك على اتساع الجغرافيا السورية، ويحفظ أمن الوطن راهنا ومستقبلا، وكذلك يحقق لكل مكونات الشعب السوري ما تحتاجه وتتطلع إليه.
كل ما قلناه وبسطناه هنا، إنما يستهدف المساهمة في بناء رؤية ووعي السوريين والمهتمين بالشأن السوري، فهذا هو استهدافنا، نحن لا نملك راهنا أن نغير موازين القوى على الأرض، وهي تميل بشدة لغير صالح الحراك الثوري للشعب السوري، لكننا نملك أن نشعل مصباحا أمام من يبحث بحق عن طريق لخلاص وطنه، وهذا ما نقوم به من خلال كل أشكال الحراك الفكري والثقافي والسياسي الذي نقوم به وندعو إليه.