
مع إعلان رئيس الوزراء الإثيوبي أبي أحمد اكتمال بناء سدّ النهضة، وحفل افتتاحه رسمياً، تدخل الأزمة الممتدّة بين القاهرة وأديس أبابا مرحلةً جديدةً من الصراع، تتصل بتشغيل السدّ من دون اتفاق ملزم بشأن كمية المياه الواجب تمريرها إلى دولتَي المصبّ، وكذلك تُكتب نهايةُ مرحلة من الرهانات، سادت فيها أحاديث عن احتمال توقّف المشروع، أو انهيار السدّ، أو تفكّك نظام أديس أبابا، نتيجة صراعات سياسية في دول متعدّدة الأعراق. موادّ إعلامية روّجت تلك الفرضيات، ومارست دعاية تستّرت على عجز السلطة عن التوصّل إلى اتفاق قانوني ملزم منذ توقيع إعلان المبادئ قبل عقد، وكان هذا التضليل استخفافاً بحقّ المصريين في المعرفة بقضية وطنية لا تقبل المزايدة، ولا تُخفى تداعياتها أو تحتمل خداعاً. اليوم تختبر تلك الرهانات، وأخرى تتعلّق بالوساطة ومواقف الأطراف الدولية والإقليمية، وتتكشّف النتائج أمام الرأي العام.
صحيحٌ أن القاهرة نجحت في إدارة الأزمة بما حال دون أن تتمدّد إثيوبيا في سلوكها وتسبب ضرراً بالغاً، لكن مع غياب اتفاق ملزم، تبقى مراقبة الوعود وحسن النيات معياراً وحيداً لئلا تنخفض حصّة مصر المائية، وما زالت جذور المشكلة لم تُنتزَع، ولم تحسم القاهرة تسويةً للمشكلة، عبر الردع أو الاستمالة، ولا مسارات دبلوماسية سعت إلى جذب الأطراف إلى مربّعها. أمّا إجراءات التكيّف (مع أهميتها)، كما محطّات التحلية ومعالجة الصرف وترشيد الاستهلاك، فإن كلفتها باهظة، مليارات الدولارات، وليست بديلاً من اتفاق قانوني يضمن الحقوق المائية، ويمنع تداعيات خطرة حال حدوث جفاف وإصرار إثيوبيا على التخزين، وحالياً تعلن افتتاح السدّ رسمياً، وتدعو مصر والسودان إلى الحضور، ومعاودة التفاوض، ما يمثّل مناورةً جديدة غرضها فرض الأمر الواقع.
يستهدف تدخّل ترامب في ملفّ سدّ النهضة مرونةً وتعاوناً مصرياً أكبر في ملفّ غزّة
بينما أعاد الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، طرح دوره وسيطاً، عقد صفقةً جديدةً تقدّمه من جديد منقذاً، فتناول الأزمة ثلاث مرّات خلال أسبوع، بداية من اجتماع مع الأمين العام لحلف شمال الأطلسي (ناتو) في البيت الأبيض (15 يوليو/ تموز الماضي) معلناً رغبته في تدخّل سريع لحلّ النزاع، لأن النيل مصدر للدخل والحياة، ومستغرباً من بقاء المشكلة من دون حلّ، وكرّر الموقف أمام قيادات من الحزب الجمهوري، مستثمراً المناسبة لمهاجمة إدارة سلفه جو بايدن، ومرجّحاً مشاركتها في تمويل المشروع، وهو ما يتّصل بنهج انتقاد سلوك خصومه أداةً للمقارنة تعلي من تقدير الذات، وثالثاً حين خصّص منشوراً في منصّة تروث سوشيال ليذكّر جمهوره (والعالم) بوساطاته صانع سلام، ومستحقّاً جائزة نوبل، وضمّ في سرده “الاتفاق الإبراهيمي” وسدّ النهضة. ولم يكن حديثه في اجتماع “ناتو” خالياً من إشارة حول ما قد يسبّبه السدّ من صدام يستدعي تدخّله الحاسم من أجل الاستقرار.
ورغم الطابع الشخصي والاستعراضي، فإن تكرار إثارته للملفّ، بعد نصف عام من رئاسته، ومع هذا التوقيت الضاغط، يستهدف دفع القاهرة إلى تلبية مطالب في ملفّ غزّة، في إطار صفقة محتملة تقوم على المقايضة، لمحت إليها مصادر مصرية لـ”العربي الجديد”، وترتّب على التدخّل حالياً (طالبت به القاهرة منذ ولاية ترامب الأولى) تنشيط آليات الاتصال الدبلوماسي، وإعلان الرئيس عبد الفتّاح السيسي تقديره حرص ترامب على التوصّل إلى “اتفاق عادل يحفظ مصالح الجميع”، ومعلناً ثقته في قدرته على إحلال السلام في أوكرانيا والأراضي الفلسطينية المحتلة. كما أعاد، في لقائه قائد القيادة المركزية الأميركية وبحضور وزير الدفاع والسفيرة الأميركية، التأكيد على مركزية قضية نهر النيل أولويةً للأمن القومي، ولاحقاً، جاء اتصال وزير الخارجية الأميركي مع أبي أحمد، من دون أن تتضمّن البيانات إشارةً صريحةً إلى السدّ.
ويظلّ تدخّل ترامب في ملفّ السدّ يستهدف مرونة وتعاوناً مصرياً أكبر في ملفّ غزّة، وهذا ينسجم مع رؤية للعلاقات الدولية بوصفها صفقات، يرجّح استجابة الأطراف فيها لإرادته طالما يقعون تحت ضغط، وربّما من دون بذل جهد حقيقي من جانبه، فيبقى الرهان على الوعود والتهديدات هو المُحدِّد.
لم يبذل ترامب جهداً حقيقياً لحلّ أزمة السدّ، وتعامل معها أداةَ مساومة
وخلال ولايته الأولى، تدخّل في الأزمة، ولم ينفصل الملفّ عن رؤية للتهدئة والاستقرار في الشرق الأوسط وترابط ملفّات الصراع، ومن خصائص السياسة الخارجية الأميركية، ضمان أمن إسرائيل. وأعلن ترامب من البيت الأبيض، وبحضور نتنياهو، في 28 يناير/ كانون الثاني 2020 “صفقة القرن”، ورحّبت مصر بها سريعاً في بيان لخارجيتها، ودعت إلى دراسة خطّة السلام من منظور تحقيق تسوية عادلة وحصول الشعب الفلسطيني على حقوقه وإقامة دولته المستقلّة. هذا المسار الذي اتخذه ترامب تزامن مع معالجة أزمة السدّ، إذ دفع الخزانة الأميركية إلى رعاية مفاوضات امتدّت من نوفمبر/ تشرين الثاني 2019 حتى فبراير/ شباط 2020، وأعلنت في بيان مشترك، عن توافق حول جدول زمني لملء السدّ على مراحل، مع آلية تخفيف للملء والتشغيل في حالات الجفاف. جاء هذا التطوّر الإيجابي، بعد يومين من إعلان “صفقة القرن”. كان ترحيب مصر بدور ترامب واضحاً، لكنّ مسار وساطته في أزمة السدّ انتهى بالفشل، بعدما رفضت أديس أبابا المشاركة في الجولة الأخيرة من التفاوض في فبراير 2020، واعتبرت مقترح الاتفاق انحيازاً للقاهرة. حينها لم يتخذ السيسي موقفاً جادّاً يدفع إثيوبيا للامتثال لنتائج التفاوض، واكتفى في أكتوبر/ تشرين الأول من العام نفسه بتصريح حول احتمال أن تهاجم مصر المشروع، وهو ما اعتبرته أديس أبابا تحريضاً مرفوضاً واستدعت السفير الأميركي لديها، بينما استهدف الرئيس الأميركي استخدام التهديد آليةً لردع إثيوبيا تدفعها إلى العودة إلى التفاوض، وأن يحافظ في الوقت نفسه على استمالة لمسار التطبيع بموجب اتفاقات إبراهيم، التي وقّعتها الإمارات (أغسطس/ آب 2020)، وتبعتها البحرين والسودان والمغرب.
إجمالاً، لم يبذل ترامب جهداً حقيقياً لحلّ أزمة السدّ، وتعامل معها أداةَ مساومة. واليوم يُعاد تدوير الملفّ نفسه، ولا تعكس التصريحات أخيراً حول وساطة محتملة تحوّلاً حقيقياً في الموقف الأميركي، بل تُوظّف ضمن سياق يرتبط بمقايضات محتملة، تهدف إلى دفع القاهرة إلى القيام بأدوار أمنية مباشرة في قطاع غزّة، واستقبال أو تسهيل نقل كتلة من سكّانه، وتمرير إقامة “المدينة الإنسانية” في رفح لمن تبقى من السكّان، وكلّها خيارات تتعارض مع اعتبارات سياسية وأمنية يصعب تجاوزها، وتتعارض مع خطاب يكرّره النظام حول رفض التهجير وتصفية القضية الفلسطينية.
كما أن تقديم القاهرة أيّ تنازلات في ملفّ غزّة لا يخدم موقف القاهرة التفاوضي مع إثيوبيا، بل قد يُضعف صورتها طرفاً قادراً على مقاومة الضغوط الخارجية، ويعزّز انطباع التبعية لواشنطن، والرضوخ لسياسة الأمر الواقع التي تفرضها إسرائيل على الأطراف العربية، وأصبحت تكرّر طلبها من القاهرة بتسهيل نقل السكّان وفرض وصاية على القطاع، تُخلي ساحتها وتحلّ معضلة “اليوم التالي”، ولا تزيد تكلفتها عسكرياً واقتصادياً إذا استمرت في احتلال غزّة. كما لا تنفصل تصريحات ترامب عن نهجه في استثمار الملفّات الدولية لتصفية خلافات مع أسلافه، والظهور صانعَ سلام محقّق للإنجازات. ومع ذلك، فإن تدخّله حالياً في ملفّ السدّ محكوم بمحدّدات، بينها العلاقة مع القاهرة، التي تراها واشنطن شريكاً معاوناً في الملفّ الفلسطيني، وأمن الشرق الأوسط، ومنطقة البحر الأحمر، من دون أن يعني ذلك بالضرورة التزاماً بتحقيق مصالح القاهرة في مواجهة إثيوبيا، التي سبق وانسحبت من مفاوضات الخزانة، ولم تمارس واشنطن ضغطاً عليها، وحافظت على توازن بين طرفَين “صديقين”، لا يوزن مواقفهما في وساطة بعدالة مطالبهما، بل وفق معادلات تحكم وضع الشرق الأوسط والقرن الأفريقي، والأخير يشهد صراع نفوذ من قوى عدة، ما يجعل الاحتفاظ بالعلاقة مع الطرفَين مرجّحة، وحتى إدارة بايدن، حين خفّضت المساعدات لإثيوبيا (2021)، ربطت القرار بانتهاكات حقوق الإنسان، لا بأزمة السدّ، وكانت تتخذ دور المراقب لمفاوضات قادها الاتحاد الأفريقي بعد أن أحال مجلس الأمن الملفّ إليه.
بقاء أزمة السدّ من دون تسوية، يعني سدوداً إثيوبية جديدة، ما يشجّع دول حوض النيل على انتهاج السلوك نفسه
لذا، يدفع الرهان على دعم أميركي حاسم أديس أبابا لتوقيع اتفاق مُلزم، يبدو استمرار لمراهنات كلّفت كثيراً من الوقت والمال ولم تثبت نجاحها، وعلى القاهرة مواجهة الحقائق، ومراجعة طريقة إدارة الأزمة، وتصوّراتها حول القوى الدولية، وتحالفاتها أفريقياً وعربياً. وفي كلّ الأحوال، لا يمكن الرهان على أطراف أو مؤسّسات دولية، من دون النظر إلى عوامل الإخفاق، والأدوار الذاتية، وتالياً امتلاك أوراق ضغط، وبناء تحالفات صلبة، تزيل آثار الإخفاق سابقاً، ومن دون ذلك، ستتهرب إثيوبيا من التفاوض، استناداً إلى خطاب يدّعي أن النيل الأزرق ينبع من أراضيها، وهو ملك لشعبها، وأن مصر استفادت من مياهه من دون وجه حقّ. وهو الخطاب الذي يُروَّج داخلياً، ويُفسِّر سلوكها خارجياً في التفاوض، وغياب نيّة للوصول إلى اتفاق، والاتكاء على عدم وجود نيّة بإلحاق ضرر من عمليات التخزين، إذ ظلّ تدفّق المياه مستمرّاً، لكنّها لا تحوّل النيات إلى التزام قانوني، ويترك الأمر لمرونة إثيوبيا في التصرّف مستقبلاً.
وأخيرا، إذ ظلّت الأزمة من دون تسوية، ستُبنى سدودٌ جديدةٌ. لم يعد ذلك توقّعاً، فقد أعلن رئيس مكتب تنسيق سدّ النهضة توجهاً لاستغلال الموارد المائية، قائلاً: “مشروع السدّ خطوة أولى ضمن مسار طويل في قطاع المياه والطاقة، ولا يمكن الاكتفاء بسدّ واحد”. وهذا يشجّع دول حوض النيل على انتهاج السلوك نفسه، خاصّة أن إثيوبيا تعمل في جذبهم لساحتها، وتعرض الاستفادة من تجربتها، وتدعو رؤساء أجهزة المخابرات ووزراء المياه لزيارة السدّ، الذي تصوّره نموذجاً تنموياً يجسّد الفخر والاستقلال، ما يخفّف الانتقادات بوصفه يثير نزاعاً في القارة. وهذا كلّه ينذر بتزايد تحدّيات تواجهها القاهرة.