علي بدر روائي عراقي متميز.. قرأت له وكتبت عنه سابقا. والرواية تتحدث عن العراق في لحظة تاريخية فارقة. حيث سقوط السلطة العثمانية في بغداد. وبداية الحضور الانكليزي في الحرب العالمية الأولى. وانتهاء الخلافة العثمانية. ووقوع العراق وسوريا وفلسطين ولبنان والأردن تحت هيمنة الانكليز والفرنسيين. وبداية تشكيل دول سايكس بيكو
.تبدأ الرواية من لحظة عودة منيب أفندي العراقي الى بغداد في 1914. وفي ذاته صراع فكري ووجداني بين انتمائه للعثمانيين. وبين انتماء آخر تولد عنده وعند شريحة واسعة من المثقفين والتجار والسياسيين. إلى النموذج الاوربي. يركب القطار عائدا وفي باله الشيخ امين كنموذج للعقليه العثمانية. وامتدادها العقلية الاسلامية. التي ترى أن تقدمنا يكمن بالعودة لاسلامنا والسلف الصالح. كل ذلك عبر دعم العثمانيين والعمل لانتصارهم في الحرب العالمية الأولى. السجال يطول ويمتد. النموذج العثماني عمره مئات السنين، محملا بكثير من الاعتقاد والايمان. والنموذج الأوربي حاضر بتفوقه العلمي والاقتصادي والعسكري. فها هي اوربا تقضم بأطراف الخلافة العثمانية من كل الجهات. وهاهي تخوض حربها العالمية الاولى التي ستجهز على الدولة العثمانية وتخرجها من التاريخ
وها هي بغداد لحظة دخول طلائع القوات الانكليزية إليها. ومحمود بك الضابط العثماني (من اصل عراقي) يراقب المشهد من نافذة السراي الحكومي(همايوني قشله). يراقب ويسترجع. والرواية كلها عبارة عن تداعيات في ذهن الضابط محمود واسترجاع لمرحلة تمتد لسنوات طويلة من الحكم العثماني في بغداد، واقع هذا الحكم وتفصيلاته ومآلاته متضمنا العثمانيين الذين يحضرون عبر جندهم وشرطتهم وموظفيهم ومصالحهم . فهم السلطة المطلقة ومطالبهم متحققة. ولا حرمة لإنسان أو ملكية أو حقوق. محمود بك يستحضر عشرات المواقف التي تؤكد تحويل الناس عبيدا للعمل دوما. وعيش حياة الفقر والفاقة. وكيف يتقاسم نهبهم وإذلالهم اصحاب السلطة العثمانية عبر ممثليها وجندها وموظفيها. وشبكة من التجار وأصحاب المصالح. يحصل ذلك بطريقة وحشية أقرب لحياة الغابه. فلا احد يفلت من الوقوع ضحية القتل عبر الشنق او الخازوق أو بالسيف او بالسلاح الناري. كل أموال الناس وأملاكهم وحياتهم مباحة مستباحة. والناس يهربون دوما من اي متغير يطال حياتهم نحو الاسوأ. الحكام هنا يعيشون حياة بذخ وبطش وإشباع للمتع . المسؤول هنا له جواريه (عبيداته) المحظيات اللواتي يقتنيهمنّ كسلع. ويستعملهنّ ادوات جنسيه .ويهديهنّ للغير. ويعاملهنّ كملكيات خاصة ويعاقبهم بالموت قتلا أو رميهنّ في نهر دجلة. القوة الباطشة هنا حاضرة دوما. سلسلة عبودية السلطة حاضرة. المسؤول إله يتصرف بكل شيء. بما فيها حياة الناس دون أي رادع.. وسلسلة المسؤولين يعيشون علاقة عبيد تجاه الرئيس. وإله باطش اتجاه التابعين له واتجاه مجموع الناس.. آلاف الحالات المستدعاة تؤكد أن الثابت في حياة الناس هي السلطة فقط. و البطش والنهب واستباحة الحياة والاملاك والاعراض ولا من رادع. والناس كل الناس ضحايا مستسلمين الى أقدارهم الوحشية هذه. والأسوأ أن هذه الوحشية بعلاقة السلطة مع الناس تحولت لوحشيه بين بعضهم البعض. فالبنية الطائفية كشيعة وسنة عميقة فيهم اعتقادا بالتكفير المتبادل. و سلوكا عدائيا وكراهية. وكذلك الهروب من بطش السلطة. أو استثمار أي استباحة لاي شخص او حي أو مجموعة من السلطه. ليصبح الكل أمام غنيمة يتدافع الناس لينالوا حصتهم. من اساس او مال او اخشاب المنزل وأبوابه. وحتى لو حصل اي كارثة طبيعية مثل فيضان دجلة الشبه سنوي او حريق ما في حي ما ليكون فرصة للنهب والسلب واستباحة أعراض الناس وملكياتهم. هنا غابة حقيقية حاضرة دوما بوحوشه وناسه النكرة والغير معروفين إلا كضحايا.
.نعم.. وتطل الرواية ايضا على بنية مجتمعية وثقافية. تعيش صراعا وجدانيا عميقا بين النموذج الأوروبي ممثلا بجميل الزهاوي ومعروف الرصافي وغيرهم. وبين النموذج العثماني عبر رجالات السلطة الحاكمة واغلب رجال الدين. و سنتعرف على امتداد تيار التجديد الديني والسياسي في امتداد البلاد العثمانية. وسينتصر في لحظة ما تيار (المشروطة) الدستور. ويتم إبعاد السلطان عبد الحميد الثاني عن السلطة وانتصار تيار الاتحاد والترقي التركي. الذي سيؤسس لعلاقة عدائية مع تيار التجديد العربي. وينكل به وسيكون هناك إعدامات لاغلب احرار العرب. رغم انهم كعرب وترك انطلقوا من نفس خلفية التجديد الأوروبية. لكن النزعة التركية الطورانية حولت التجديديين العرب لاعداء. وخاصة أنهم طرحوا الرابطة العربية في مواجهة الرابطة العثمانية التي يهيمن عليها الأتراك. وكانت النتيجة الاعدامات في أغلب بلاد العرب لرموز التجديد العربي. مع ذلك لم ينتهي الصراع والسجال بين من يرى أوروبا المنقذ و البديل وبين من يرى الرابطة العثمانية هي الأم وهي الاستمرارية. ونرى أن الدعوة لتيار ثالث شبه غائب. تيار الذات العربية الباحثة عن نفسها. متحررة من العثمانيين ومستفيدة من الغرب وتقدمه. نعلم أن هذا التيار حاضر في تاريخنا. لكنه غاب في واقع بغداد ايام سقوط العثمانيين والاحتلال الإنجليزي. انقسم الكل بين من هرب مع العثمانيين. او قتل لانه كان تابعا مطلقا لهم. وبين من اصبح لسان ويد الانكليز من لحظة حضورهم عبر طبقة كبيرة من المثقفين والتجار وأصحاب المصالح. سيدخل طلائع الانكليز الى بغداد ومحمود بك الضابط في الجيش التركي يستحضر كل ذلك. ويكتشف انه عندما دخل سلك الجيش قد جعل نفسه جزء من سلسلة السلطه. كمنفذ لاوامر الحكم ومتكسب لمجد هذه السلطة ومغانمها. سيكتشف انه اليد السوداء الباطشة والقاتلة والمنفذة لكل موبقات السلطة العثمانية في بغداد. انقطعت صلته بأهله ومجتمعه وتحول لصورة السلطة كعدو وسلاحها القاتل ويدها الباطشه. وعندما يطلب منه عفوا او رحمه كان جوابه انني لست الا ضابط صغير عند العثمانيين . وعليه أن ينفذ الاوامر. وهذا يعني أن يرعى بسلطته عملية استعباد الناس وقتل خصوم السلطة وتنفيذ موبقات المسؤولين وأعمال السلب والنهب والقتل المتواصل..
.لن يغيب عن ذهن الناس السلطة التركية ودعواتها للحروب المتواصلة واخذها لكل الشباب إلى العسكريه (السفر برلك). التي تطال أولاد الفقراء. ويدفع اولاد الاغنياء المال ليهربوا من الالتحاق بها. لن يغيب عن الذهن موت أغلب من يذهب جوعا او قتلا في معارك خاسرة سلفا. وخاصة في هذه الحرب العالمية الأولى. فكل فار من السفر برلك مصيره القتل او الخازوق. ومن يذهب اغلبهم مات من الجوع والامراض او بسلاح الانكليز لتفوقهم العسكري الفادح. كل هذا حاضر في ذهن الناس وكان رمز السلطة العثمانية وأداتها القاتلة محمد بك الضابط العثماني. ان اغلب موظفي العثمانيين وجيشهم وشرطتهم من العراقيين هرب مع الحكام الهاربين. والبعض اختار الالتحاق بالقوات الإنجليزية الغازية. أو دعما للحركة العربية بقيادة الشريف حسين، المعادية للعثمانيين والمدعومة من الانكليز كنوري السعيد وغيره. رحل العثمانيين بعد أن دمروا مستودعات الأسلحة والجسور، رحلوا تاركين وراءهم الخراب . لكن محمود بك لم يهرب معهم. وانتظر مصيره غير مصدق لما حصل. رغم أنه استرجع تاريخه ووجد أن ما حصل شبه حتمي. الخلافة العثمانية ستسقط؛ عوامل ضعفها وفنائها فيها. والاوربيين يتقدمون في كل مكان لتفوقهم العلمي والعسكري. لتوسيع مصالحهم ونفوذهم. وسيكون بعض العراقيين المؤمنين بالمشروع الأوروبي ادواتهم. الذين سرعان ما يكرروا سيرة محمود بك بتنفيذ مصالح الاوربيين باساليب فيها من التوريه والمداهنة الكثير لكنها بالنتيجة انتقال البلاد والعباد كعبيد من سيد قديم لسيد جديد. سيُحكم على محمود بك بالإعدام بسبب تاريخه ودوره. ويعدم وسط احتفال شعبي من صنع المستعمر الجديد. سيموت عبرة لمن يبيع اهله وشعبه. و كنموذج ادعاء الانجليز انهم ينصفوا الناس ويقتلوا من أساء لهم. ولن السيرة ستعود نفسها محتل جديد وادوات جديده ولا تغيير بحياة الناس والتخلف والقهر والاستعباد والاستغلال سيد الموقف والحالة . تنتهي الرواية عبر فصل أخير يتقدم به الكاتب قرن من الزمان ليتحدث عن واقع الحال. فلا تغيير يذكر في عقلية الناس ولا في حياتهم التعيسة وما زال الناس ضحايا التخلف والسلطة المستبدة. التي أصبحت من أبناء البلاد وبعد أن غادر المستعمر. سيكون هناك متغيرات كثيرة لكنها كلها تصب في مصلحة الحاكم ومن وراءه من دول عظمى والضحية دائما الناس . تنتهي الرواية في عام 2002. يعني قبل الاحتلال الأمريكي للعراق في سنة، حيث سيُدخل العراق ومنطقتنا كلها في دوامة جديدة مأساوية لا جديد فيها: شعوب ضحايا وحياة مؤلمة، حكام مستبدين وقوى دولية مستفيدة والدم العربي مستباحا ما أقرب البارحة باليوم.