من البيّن الذي لا يحتاج إلى التذكير به دائماً أن المبادرات العلنية، أو السرّية، التي طرحتها الدول المنغمسة في الموضوع السوري مباشرة، أو دول الإقليم التي تأثرت بالوضع السوري، أو تلك التي تريد أن تستفيد منه، إنما ترمي إلى تحقيق تسويةٍ ما بحسابات تلك الدول، ووفق مصالحها، ومن دون أي مراعاةٍ لحجم التضحيات التي قدّمها السوريون من أجل مستقبلٍ حرٍّ كريم لهم ولأجيالهم المقبلة. وهي مبادرات تُغلّف عادة بعمومياتٍ بات تكرارها مملاً عقيماً، خصوصا أنها عمومياتٌ لا يُختلف حولها؛ وإنما كل الخلاف حول التفاصيل التي تظل بعيدة عن التحديد الصريح، وذلك في سياق سعي كل طرف إلى إظهار نفسه في موقع الحريص على مصلحة السوريين، وربما أكثر من السوريين أنفسهم.
تتقاطع المبادرات والتصريحات والتسريبات الخاصة بالملف السوري، ومنها مبادرة العاهل الأردني، عبدالله الثاني، حول محاربة الإرهاب، والتخفيف من معاناة السوريين المعيشية، وإعادة الإعمار، وعودة اللاجئين إلى المناطق التي هجّروا منها، وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين، وضرورة اعتماد الحل السياسي الذي يحافظ على وحدة سورية وسيادتها. ولكن حين الانتقال إلى مستوى التفاصيل، والحلول الملموسة المقترحة لمعالجة الموضوع السوري، نرى بوناً شاسعاً بين معاناة السوريين وتطلعاتهم وما يدعو إليه أصحاب تلك المبادرات، فالحل السياسي كان، وسيظل، هو المطلوب منذ بداية الثورة في مارس/ آذار 2011؛ ولكن السؤال عن أي حل سياسي نتحدّث. هل سيكون عبر الإبقاء على من أدخل المليشيات والقوات الأجنبية إلى سورية؛ ومارس الإرهاب، ومهّد الطريق أمام الإرهاب في حربه على الشعب السوري؛ التي تسببت في تدمير العمران والبنية التحتية، وقتل نحو مليون سوري، وتهجير أكثر من نصف الشعب، وشل الاقتصاد الوطني، وفرض البؤس المعيشي على الغالبية الساحقة من السوريين؟ أم أن هذا الحل سيقوم على تحديد أسباب المشكلة بغية معالجتها عبر إيجاد الحلول الواقعية الممكنة التي تضمن الأمن والاستقرار، وتطمئن الناس عبر المصالحة الوطنية الفعلية، وتعزّز الآمال بإمكانية تحسين شروط العيش المشترك وقواعده وآفاقه؟
ما حصل، ويحصل، في سورية منذ أكثر من نصف قرن أن زمرةً سلطويةً قد تمكّنت من التحكّم بمفاصل الدولة والمجتمع بفعل الجيش والأجهزة الأمنية، واستطاعت، مع الوقت، ترتيب أوراقها مع القوى الإقليمية والدولية، لتحظى بصفقة التحكّم برقاب السوريين وموارد بلدهم مقابل أدوار وظيفية أدّتها، وهي على استعداد لتأدية مزيد منها، وذلك بموجب صفقة، أو صفقات جديدة، تراعي المتغيرات التي كانت، أو التي ستكون مستقبلاً. ونتيجة استفحال تأثير التراكمات السلبية لسلطة الاستبداد والفساد والإفساد، لم يجد السوريون أمامهم من سبيلٍ سوى الثورة على تلك السلطة، بعد أن سدّت كل الأبواب أمام إصلاح تدريجيٍّ حقيقي، كان من شأنه تجنيب العباد والبلاد الكوارث التي كانت، وما زالت.
مبادرة ملك الأردن التي جاءت في صيغة اللاورقة تؤكد رغبة أردنية في فتح الحدود مع سورية، بهدف الاستفادة من الحركة التجارية بين لبنان وسورية ودول الخليج وغيرها من دولٍ كانت تمد الاقتصاد الأردني الضعيف أصلاً بموارد لا يُستهان بها؛ وهي مبادرة جوهرها التطبيع مع النظام الأسدي الذي لم يعترف بوجود مشكلة في سورية تستوجب المعالجة، وإنما يصرّ على أن كل ما حدث كان في عداد مؤامرة كونية استهدفت النظام “المقاوم والممانع” الذي تمكّن، بفعل مساعدة “الأصدقاء الإيرانيين والروس”، من الانتصار، في نهاية المطاف، على “قوى العدوان وعملائهم من السوريين”؛ وذلك وفق ما يردّده بشار الأسد في كل خطاباته. أما الحل النهائي الذي ينتظره هذا النظام فهو أن يتمكّن من بسط سلطته بدعم وتدخل مباشريْن من الروس والإيرانيين على كامل التراب السوري.
وعلى الرغم من الحماس اللافت لدى الملك عبدالله الثاني في تسويق مبادرته، ومحاولة إقناع الأطراف الدولية والإقليمية بجدواها، وهي مبادرةٌ لا يُعتقد بأنها من الوحي الأردني الخالص، يلاحظ أن الموقف الأميركي ما زال في دائرة الحرص على عدم إعلان الدعم المباشر لها، وهو موقفٌ يجد صداه عند الأوروبيين الذي يبدو أنهم ينتظرون تبلور ملامح الموقف الأميركي بصورة أكثر من الموضوع المعني، كما ينتظرون ظهور معالم الموقف العربي الرسمي عبر جامعة الدول العربية.
بخصوص الموقف الأميركي نفسه، يبدو أنه يخضع لجملة اعتبارات، في مقدمتها الداخلية الأميركية، فالانتقادات القاسية التي تعرضت لها إدارة الرئيس جو بايدن، بعد الانسحاب السريع من أفغانستان، وسيطرة حركة طالبان على البلاد دفعت الإدارة المعنية إلى التمهّل في الانسحاب من أماكن أخرى. كما أن التحسّب لتقدم جمهوري في الانتخابات النصفية للكونغرس يُعد من العوامل التي تُلزم إدارة بايدن بضرورة التريث في اتخاذ مزيد من الخطوات في ميدان التخفيف من الضغط على نظام الأسد، وذلك بعد تصريحات أميركية أكدت عدم وجود رغبة في تغيير النظام، وبيّنت أن المطلوب تغيير سلوكه؛ وما أعقب ذلك من إعطاء الضوء الأخضر لمشروع تزويد لبنان بالغاز من مصر عبر الأردن وسورية، الأمر الذي فُسِّر بأنه بداية الانفتاح على النظام الأسدي. وقد تزامنت اجتماعات وزراء الطاقة في الدول المعنية بهذا المشروع في عمّان مع مبادرة العاهل الأردني، الأمر الذي فُهم منه أن طبخة تعدّ خاصة بسورية.
من جهةٍ أخرى، يلاحظ أن الموضوع السوري بات بالنسبة إلى الولايات المتحدة مرتبطاً بالمباحثات الجارية بشأن الملف النووي الإيراني، ومستقبل الوجود والدور الإيرانيين في كل من سورية ولبنان والعراق. ولا يخص هذا الأمر الجانب الأميركي وحده، بل يشمل الجانب الإسرائيلي أيضاً؛ ولعل هذا ما يفسّر جانباً من التحرّكات الإسرائيلية المكثفة، سواء مع الروس أم مع الأميركان، والدول العربية المعنية. وهناك حديثٌ عن قرب لقاء أمني ثلاثي على أعلى المستويات بين الروس والأميركان والإسرائيليين، بغرض الاتفاق على مزيد من التفصيلات الخاصة بملف الدور الإيراني في سورية، والتنسيق الميداني.
وفي ظل كل هذه الأجواء، جاءت تصريحات وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، حول ما تريده واشنطن وما لا تريده في سورية، في أثناء اجتماعه مع وزيري خارجية كل من الإمارات عبدالله بن زايد وإسرائيل يئير لبيد في واشنطن؛ لتؤكد استمرارية الغموض في الموقف الأميركي الذي لا يشجّع صراحة التطبيع العربي الرسمي مع نظام الأسد؛ ولكنه، في الوقت ذاته، لا يعلن رفضه صراحة ذلك التطبيع. كما أن العبارات العامة عن الحل السياسي المنشود لا تفصح بدقة طبيعة المطلوب أميركياً في سورية. ولعل عدم تعيين مبعوث أميركي خاص بالملف السوري، إلى جانب غياب سورية عن خطابات الرئيس بايدن، فضلاً عن عدم حدوث لقاء رسمي بين الوزير بلينكن والمبعوث الأممي الخاص بسورية، غير بيدرسون، لعل ذلك كله يشير إلى عدم حضور سورية ضمن قائمة الأولويات الأميركية، على الأقل في الجانب العلني، فالعبارات العامة التي استخدمها بلينكن تبدو كأنها صادرة عن مراقبٍ محايدٍ من خارج دائرة الدول الفاعلة في الملف السوري. ولذلك لا تطمئن السوريين، لأنها لا توحي بامكانية ممارسة الولايات المتحدة، وهي الأقوى في العالم والأكثر قدرة على التأثير إذا أرادت، ضغوطا جادّة مطلوبة من أجل إحداث اختراقاتٍ نوعية في ميدان معالجة الوضع السوري؛ تطمئن السوريين من جهة إمكانية الوصول إلى حل واقعي مقبول لمحنتهم.
أساس المشكلة في سورية، بل جذرها، يتمثل في نظامٍ يعدّ المسؤول الأول عن كل ما حلّ بالسوريين وبلدهم من قتل وتهجير وتدمير، بل هو مسؤول عن مشكلات كثيرة في لبنان والعراق وغيرهما، وسورية بلد مفتاحي يؤثّر في المنطقة بأسرها سلباً وإيجاباً. وبناء على ذلك، لا يمكن تحقيق الهدوء في المنطقة، وبلوغ الأمن والاستقرار فيها، تمهيداً للنهوض بها عبر مشاريع تنمية واسعة تساهم في وضع حد للتطرّف والإرهاب، وهي مشاريع تمتلك المنطقة مقوماتها؛ ولن يتحقق ذلك كله ولن ينجز من دون استقرارٍ متوازنٍ في سورية نفسها، من خلال طمأنة شعبها بكل مكوناته، ومن دون أي استثناء، على قاعدة احترام الخصوصيات والحقوق، والتشارك في الإدارة والموارد.
أما المحاولات والمبادرات التي تهدف إلى معالجة الأعراض والنتائج التي كانت بفعل سياسات نظام بشار الأسد وممارساته؛ وتغضّ النظر، في الوقت ذاته، عن الأسباب الجوهرية التي أدّت إلى وصول السوريين إلى الوضع الكارثي الذي يعيشونه راهناً، فإنها لن تساعد في الوصول إلى المعالجة السببية المطلوبة، بل على النقيض من ذلك ستساهم في استمرارية دورة العنف وعدم الاستقرار في المنطقة؛ والمبادرة الأردنية، وفق المعطيات المتوفّرة عنها، لن تكون في هذا المجال استثناء.
المصدر: العربي الجديد