ملكات العرب قبل الإسلام

فراس سواح

قبل الدخول في موضوعنا سوف نوضح من هم العرب الذين نتحدث عنهم ومن هم الآشوريون. فالآشوريون شعب يتكلم لغة سامية موطنهم الأساسي المنطقة المعروفة تاريخياً باسم المثلث الآشوري، وهو حوض مائي يشكله نهر الدجلة مع رافديه الشرقيين الزاب الكبير والزاب الصغير، في الشمال من وادي الرافدين، ويضم ثلاثة مدن كبرى هي أشور ونمرود ونينوى.

ولدينا دلائل على وجود الآشوريين هنا منذ أواسط الألف الثالث قبل الميلاد، ولهم دولة ندعوها اليوم بالمملكة الآشورية القديمة التي كان من أشهر ملوكها شمسي حدد الأول. ومع بداية عصر الحديد نحو عام 1200 ق.م، تشكلت الدولة التي نطلق عليها اليوم اسم المملكة الآشورية الحديثة، التي بدأت بتوحيد بلاد الرافدين تدريجياً ثم أخذت تتطلع إلى تشكيل امبراطورية مشرقية كبرى. وقد تركت لنا أرشيفاتها الملكية ذخيرة من النصوص تلقي ضوءاً على تاريخ منطقة الهلال الخصيب خلال النصف الأول من الألف الأول قبل الميلاد.

أما العرب فهم القبائل الرعوية التي كانت تتجول في بادية الشام وسيناء والمناطق الشمالية من شبة الجزيرة العربية. وقد وصفت المصادر الآشورية هؤلاء بأنهم شعب يعيش تحت الخيام في بلاد العطش ولا يخضعون لسلطة خارجية. وإلى جانب حياة الرعي المتنقل فقد مارست جماعات عربية التجارة على الطرق الصاعدة من جنوب العربية إلى حواضر الهلال الخصيب التي نقلوا إليها بضائع اليمن والهند وأفريقيا الشرقية.

إن أول خبر تاريخي عن العرب ورد في نص للملك الآشوري شلمنصر الثالث (858-824ق.م) عن معركة قرقرة عند المنحنى الشمالي لنهر العاصي عام 854ق.م، بين الجيش الآشوري وتحالف قوات اثنى عشرة ملكاً من ملوك الدويلات السورية بقيادة ملك دمشق المدعو هددعزر، وكان بين هؤلاء ملك إسرائيل آخاب ابن عمري، الذي دخل المعركة تحت إمرة ملك دمشق وقدم لها أكبر عدد من العربات القتالية، وكان بينهم شيخ عربي يدعى جنديبو، الذي قدم للمعركة ألفاً من الهجانة فرسان الجمال، وذكره النص باسم جنديبو العربي Aribu.

تعتبر معركة قرقرة واحدة من أهم المعارك في تاريخ بلاد الشام، فمعها ابتدأت الدولة الآشورية مشروعها لضم الدويلات الآرامية الناشئة حديثا في سورية الى امبراطوريتها، ولكن هذا المشروع لم ينجح إلا بعد قرن من معركة قرقرة لأن دمشق التي كانت اقوى الممالك الآرامية في ذلك الوقت وقفت بقوة في وجه آشور، وحالت بينها وبين التقدم نحو الوسط والجنوب السوري من خلال استراتيجية الأحلاف التي تبنتها، وراحت تقودها بنجاح ضد آشور وكان حلف قرقرة أولها. فقد كانت سورية في مطلع الألف الأول قبل الميلاد عبارة عن فسيفساء من الممالك الصغيرة التي لم تجمعها سلطة مركزية واحدة، ولم تكن دمشق لتسع لأن تكون هذه السلطة المركزية، ولكنها تمتّعت بنفوذ قوي جعل لها الكلمة العليا في إدارة سياسة المنطقة الخارجية .

ويعطينا نص شلمنصر الثالث ( 858- 824 ق.م) صورة عن هذه الفسيفساء السياسية عندما يعدد أسماء الممالك التي خضعت له في الجزيرة الفراتية حتى وصوله الى حلب، ثم الممالك التي شاركت في معركة قرقرة والقوات التي قدمتها الى المعركة، وهي اثنا عشر مملكة:

” ثم غادرت الفرات نحو حلب التي خاف أهلها وخرّوا عند قدمي، فتلقيتُ منهم فضة وذهباً جزية ، وقدمت قرباناً الى هدد إله حلب. من حلب توجهت الى مدن إرخوليني ملك حماة وفتحت مدن أدينو وبرغا ومقره الملكي في أرغانا وأضرمتُ النار في قصره. غادرتُ أرغانا وجئتُ الى قرقرة فدمّرتها وأحرقتها .فهبَّ الى ساح المعركة :

– هددعزر ملك أميرشو( وكانت دمشق عاصمة هذه المملكة) ومعه 1200عربة قتالية و1200 فارس و 20000جندي (مشاة) .

– وإرخوليني ملك حماة ومعه 700 عربة قتالية و 700 فارس و 10000جندي .

-وآخاب الإسرائيلي (=آخابو سيرائيلا) ومعه 2000عربة قتالية و 10000جندي .

– ومن قوية جاء 500 جندي.

– ومن عرقاتا 100 عربة قتالية و 10000جندي.

– وجاء ماتينو بعل من أرواد ومعه 200 جندي.

-وجاء أمير أشتانو ومعه 200 جندي.

وجاء أدنو بعل من سيانو ومعه 30 عربة قتالية و 1000جندي.

-وجاء جنديبو العربي ومعه 1000 من الهجانة راكبي الجمال.

-وجاء بُعشا امير رحوبي ومعه…….

-ومن عمون …..

فكانوا اثني عشر ملكاً هبّوا للمعركة الحاسمة. فحاربتهم بما وهبني إلهي آشور من قوة وبما وهبني الإله ترجال من اسلحة فتّاكة، فهزمتهم بين مدينة قرقرة ومدينة جيلزو، وملأت نهر العاصي بجثثهم “.(1)

وبالطبع فأن شلمنصر الثالث كان يكذب في هذا النص الدعائي، لأنه لو كان انتصر بالفعل لتابع طريقه نحو دمشق ، ولكنه لم يفعل وعاد بعد المعركة الى بلاده. ويبدو أنه إما لقي هزيمة شنعاء على يد ملك دمشق وحلفائه، أو أنه أنهى المعركة بعد بضعة أيام من اشتعالها لعلمه باستحالة النصر .فالحشد القتالي الذي جمعه ملك دمشق في وجه آشور ربما كان أضخم حشد قتالي في تاريخ المنطقة حتى ذلك الوقت. فقد تألف من 4000عربة قتالية كانت تلعب دور الدبابة في الحروب الحديثة، و2900فارس وهجان ، و 70000جندي.

ويدلنا مشاركة العرب في هذه المعركة على أن القبائل العربية المقيمة في بلاد الشام وشمال شبه الجزيرة العربية لم تكن منعزلة في بواديها عما كان يجري في المنطقة وإنما عنصراً فاعلاً في السياسة الاقليمية .

أما عن شخصية جنديبو الغامضة في النص وموطنه الذي جاء منه فلا نستطيع سوى التكهن، وأنا أرشحه ليكون واحدا من ملكين؛ إما ملك قيدار في مدينة أدوماتو/ دومة الجندل، الواقعة على الحدود الحالية بين السعودية والأردن ؛ او ملك ددان في منطقة العلا في شمال غرب السعودية ، لأن هاتين الملكتين كانتا الأبكر في الظهور بين ممالك غرب الشمال في مطلع الألف الأول ق.م.

بعد شلمنصر الثالث تتوالى أخبار العرب في سجلات تغلات فلاصر الثالث ل(744- 727 ق.م) ومن تبعه من ملوك آشور ،لأنهم كانوا في حالة تمرد دائم على السلطة الآشورية في المنطقة. وتطلعنا هذه الأخبار على أنه كان للعرب ملوك مثلما كان لهم ملكات أيضا. نقرأ في نص لتغلات فلاصر الثالث عن ملكة اسمها زبيبة/ zabibe دفعت الجزية لآشور مع عدد من الملوك السوريين:

تلقيت الجزية من ملك دمشق، وملك السامرة، وملك صور، وملك جبيل، وملك قوية، وملك كركميش، وملك حماة، وملك شمأل، ومن زبيبة/ zabibe ملكة العرب.(2)

وفي نص آخر نقرأ عن ملكة اسمها شمسة /samsi . فبعد حملة له على بلاد الشام أخضع من خلالها عددا من الدويلات السورية،يتوجه الى البادية وشمال العربية للتخلص من شغب العرب الذين يسكنون في أقاليم لم يعرفها أحد قبله(وفق وصفه)، وهناك يصطدم بالملكة شمسة التي يدعوها ملكة العرب:

” وأما شمسة ملكة العرب فقد قتلت من عسكرها 1100 رجل وغنمت 30000جمل و 20000 رأس من الغنم و500 صندوق من التوابل و11 طاسة مكرسة لآلهتها… أما هي فقد هربت مثل آتان وحشية الى بازو في أرض العطش”.(3)

إن الكم الهائل الذي غنمه الآشوريون من البعير والغنم يدل على مدى ثراء هذه الملكة، اما صناديق التوابل الخمسمئة فتدل على أن أهل هذه المملكة كانوا تجاراً ينقلون توابل اليمن والهند من جنوب جزيرة العرب الى ممالك الشام وموانئها.

وفي نص للملك أسرحادون (680 – 696 ق.م) نعرف عن ملكة اسمها إشكيلاتو واخرى اسمها طاربو :

“من أدماتو معقل العرب الذي فتحه أبي سنحاديب، وأخذ منه الجزية والأسلاب وصور الألهة، وساق ملكتهم إشكيلاتو أسيرة الى آشور، أتى حزائيل ملك العرب إلي في نينوى حاضرة ملكي ومعه هدايا كثيرة وقبل قدمي وتوسل من أجل إعادة صور ألهته، فعطفت عليه وأصلحت ما لحق بها من ضرر ،وأعدتها اليه بعد أن نقشت عليها كتابة تعلن عظمة إلهي ومولاي آشور وتذكر اسمي . ثم جعلت (الاميرة العربية) طاربو التي ترعرعت في قصر أبي ملكة عليهم وأعدتها الى بلادها مع ألهتها.(4)

وأدوماتو المذكورة في هذا النص على أنها معقل العرب هي دومة الجندل التي تقع اليوم في شمال الوسط من المملكة السعودية على الحدود الحالية مع الاردن، وتعد من أقدم مواطن الاستيطان في جزيرة العرب الذي استمر من العصر الحجري الحديث الى عصر الحديد، وقامت فيها مع مطالع الألف الأول ق.م مملكة دعيت في النصوص الأشورية وكتاب التوراة بملكة قيدار التي عمل أهلها في التجارة. ويرد ذكر قيدار في التوراة الى جانب ددان المملكة الشهيرة الاخرى في شمال العربية والتي صنعت ثروتها أيضا من التجارة ،والى جانب تيماء التي جعلها الملك البابلي نابونيد(556 -539 ق.م) عاصمة له مدة عشر سنوات. نقرأ في سفر إشعيا : ” وحي من جهة بلاد العرب . في الوعر في بلاد العرب تبيتين ياقوافل الددانين، هاتوا ماء لملاقاة العطشان، ياسكان أرض تيماء وافوا الهارب بخبزه، فإنهم من أمام السيف قد هربوا…فإنه هكذا قال لي الرب: في مدة سنة يفنى كل مجد قيدار، وبقية عدد قسي أبطال بني قيداء تقل، لأن الرب إله إسرائيل قد تكلم “- إشعيا 21: 12 – 17 .

ونقرأ في سفر حزقيال في معرض وصفه لثروة مدينة صور الفينيقية:

” ددان تاجرتك بطنافس للركوب، العرب وكل رؤساء قيدار هم تجار يدك، بالخرفان والكباش والاعتدة في هذه كانوا تجارك….بأفخر أنواع الطيب وبكل حجر كريم والذهب أقاموا اسواقك” (حزقيال27 : 20- 23).وفي سفر نشيد الأنشاد تقارن الصبية الحسناء جمالها بجمال خيام قيدار: “أنا سوداء وجميلة يا بنات أورشليم، كخيام قيدار كشقق سليمان” نشيد الانشاد1 : 4.

ويرجع محرر سفر التكوين شعب قيدار الى قيدار الابن الثاني لاسماعيل: ” وهذه مواليد اسماعيل بن ابراهيم: نبايوت بكر اسماعيل ، وقيدار و…. الخ” التكوين 25: 13 .ويطلعنا سفر نحميا على اسم احد ملوكهم المدعو جشم، فعندما كان نحميا يبني سور أورشليم بعد عودة سبي يهوذا من المنفى نحو عام 450 ق.م.أثار عمله توجس القبائل العربية التي كانت تتاجر مع الموانئ الفينيقية عبر فلسطين: ” فلما سمع طوبيا وسنبلط وجشم العربي وبقية اعدائنا أنني قد بنيت السور ولم تبق فيه ثغرة، أرسل سنبلط وجشم إلي قائلين: هلم نجتمع معاً في القرى في بقعة أونو وكانا يفكران أن يعملا بي شراً “. نحميا 6 : 1- 2 .

وقد تأكدنا اليوم من وجود ملك على قيدار يدعى جشم، بعد العثور على بضع طاسات فضية في موقع تل المسخوطة قرب الاسماعيلية بمصر (وهي المنطقة الحدودية مع سيناء قديماً) تذكر الملك قينو ابن جشم ملك قيدار.(5)

وفي نص لآشور بانيبال( 668 – 633ق.م) نقرأ:

” في حملتي التاسعة، جمعت قواتي وسرت فحملت على يواطي / uate ملك بلاد العرب، لأنه حنث بعهده معي، ونسي معاملتي الحسنة له، فرفع عنه نير سلطاني الذي فرضه عليه مولاي آشور . لقد امتنع عن القدوم إلي والسؤال عن صحتي، ومنع عني الجزية والهدايا ، واستمع الى تحريضات آكاد على العصيان مثلما فعلت عيلام ولم يأبه بعهوده وقسمه….بعد أمر أوحي الي من آشور وعشتار أهبت بجيشي وهزمته في معركة دموية…. وقام جيشي بإحراق الخيام التي يعيشون تحتها، فهرب وحيداً الى بلاد الأنباط /Nabati .” (6)

ويبدو من مساء الأحداث اللاحقة أن زوجة يواطي المدعوة عادية قد حلت محله في قيادة الجيوش والتمرد على آشور بالتعاون مع قيدار. ففي نص ثان لآشور بانيبال يقوم أحد ملوك قيدار بمحاولة لبسط نفوذه في المنطقة على حساب آشور فيتصدى له العاهل الآشوري:

” آمولادي ملك قيدار / Qidari هب لقتال ملوك بلاد العرب التي وهبها لي آشور وعشتار وبقية الآلهة الكبار، ولكنني بناء على وحي صادق من آشور ومن سن وأداد ونيبو وعشتار وننودتا ولرجال وننسيكو (=إنكي)، توجهت إليه وهزمته وقبض عليه رجالي حياً ومعه عادية زوجة يواطي ملك العرب . وفي نص ثالث يعود العاهل الآشوري لذكر عادية: ” وأما عادية ملكة العرب فقد هزمتها هزيمة منكرة وأحرقت خيامها وسُقتها مع الاسرى الآخرين الى آشور “.(7)

هذه الأخبار المتفرقة والموجزة عن ملكات العرب المحاربات اللواتي كنَّ يسرنَّ على رؤوس جيوشهن لمقارعة اعتى قوة امبراطورية في ذلك الزمن، يدل على أن المجتمع العربي القديم كان لايزال محافظاً على بعض سمات المجتمع الأمومي الذي يعلي من القيم الأنثوية، ويرفع المرآة الى اعلى مركز اجتماعي وسياسي فيجعل منها ملكة وقائدة عسكرية. وعلى الرغم من أننا لا نملك في الوقت الحالي غير هذه النصوص التي تخبرنا عن ملكات العرب قبل العصور الميلادية، إلا أن غياب هذه النصوص لا يدل على عدم وجود ملكات أُخريات لم تسجل لنا أخبارهنّ، ربما لأنهنَّ لم يدخلنَّ في صراع مكشوف مع قوة كبرى. ولعل استمرار مثل هذه القيم في المجتمع العربي يدل عليه ظهور ملكتين عربيتين عظيمتين في العصور الميلادية هما الملكة زنوبيا والملكة ماوية.

في مطلع العصر الميلادي كانت قبيلة عربية قد استوطنت تدمر، وحولتها من محطة للقوافل التجارية في وسط بادية الشام الى مدينة كبرى أثرت من التجارة، وحكمها سلسلة من الملوك تحت سلطة روما، وكان أخرهم أُذينة / Odainethus الذي أعطاه الامبراطور الروماني لقب ملك المشرق لوقوفه الى جانب الروم في حروبهم مع الفرس. توفي أُذينة عام 266م، فاستلمت الحكم من بعده زوجته المدعوة في الرواية الرومانية زنوبيا / Zenobia كوصية على ابنها الصغير وهب اللات. كانت زنوبيا تحلم بتأسيس امبراطورية شرقية فادّعت نسبها الى الملكة المصرية كليوباترا، وباشرت عدة حملات عسكرية مظفّرة قادتها بنفسها وضمّت الى دولتها كامل بلاد الشام ومصر، ثم باشرت التوسع الى اسيا الصغرى ،فامتدت سلطتها من أنقرة في تركيا الحالية الى جنوب مصر. ويبدو أنها كانت تخطط للمسير الى روما نفسها، لأنها أعطت ابنها وهب اللات لقب الامبراطور ولنفسها لقب الامبراطورة. على أن مشاغلها العسكرية لم تمنعها من الاهتمام بالثقافة، فقد استقدمت إليه المفكرين والفلاسفة لاسيما فلاسفة الأفلاطونية المحدثة الذين حظوا برعايتها.

بعد وفاة الامبراطور الروماني كلاوديوس الثاني الذي كان متساهلاً مع زنوبيا، خلفه الامبراطور أورليان الذي كان عازماً على التخلص منها، فتوجه اليها بجيش عرم وهزمها في موقعتين الاولى في انطاكية عند الحدود السورية مع تركيا والثانية عند مدينة حمص .ثم حاصرها في تدمر مدة وقبض عليها عندما تسللت خفية للتوجه الى ملك الفرس لطلب عونه، وساقها أسيرة الى روما حيث عرضها في موكب النصر، ثم أسكنها في أحد القصور حيث عاجلتها المنية عام 274 م او بعده بقليل . (8)

بعد نحو قرن من الزمان يتجدد الصراع بين ملكة سورية عربية والقوة الرومانية، وظهرت الملكة ماوية أو Mavia كما تدعوها المصادر الرومانية المعاصرة لها، كأقوى امرآة في الشرق بعد زنوبيا، فثد حكمت ماوية خلال النصف الثاني من القرن الرابع الميلادي على قبيلة تنوخ العربية (التي كانت قد استقرت في الشمال السوري قادمة من جزيرة العرب) واتحاد واسع من القبائل العربية المقيمة في بلاد الشام.

فقد وليت ماوية حكم التنوخين بعد وفاة زوجها ، وما لبثت أن قادت جيشها بنفسها في تمرد عارم على الحكم الروماني وهزمت الجيوش الرومانية، يعاونها في ذلك عدة قبائل وقفت الى جانبها وحاربت تحت قيادتها، فانتزعت حكم وسط وجنوب سورية ووصل نفوذها الى حدود مصر. أخيرا اضطر الامبراطور الروماني فالنس الى عقد الصلح معها عندما واجه غزو شعب القوط من الغرب، فشاركت ماوية في حراسة القسطنطينية عاصمة المملكة والدفاع عنها. تقول المصادر المسيحية أنها كانت مسيحية على المذهب الأورثوذكسي بينما كان الامبراطور على المذهي الآريوسي، وأن سبب تمردها كان رغبة الامبراطور في تعيين قِس آريوسي على القبائل العربية المسيحية، وعندما عرض عليها فالنس الصلح اشترطت عليه تعيين القِس موسى الذي كان راهباً اورثوذوكسياً مشهوراً بالتقوى قِسا على العرب فوافق فالنس. ولكن مصادر اخرى تنفي الأخبار القائلة بمسيحية ماوية، وفي هذه الحالة فإن تمردها يماثل تمرد زنوبيا الذي كان لأسباب سياسية لا لأسباب دينية.(9) من أشهر من تسمى بالاسم ماوية بين العرب زوجة حاتم الطائي.

بقيت ذكريات هذه الملكة تتفاعل في الذاكرة الشعبية العربية، الى أن انبثقت مجدداً في العصر الاسلامي، عندما ابتكر القصاصون شخصية الأميرة ذات الهمة ونسبوا إليها منجزات وأعمال الملكة ماوية لا سيما صراعها مع الروم، ثم قام شخص مجهول بجمع القصص المتفرقة في سيرة مطردة دونها في نحو ستة آلاف صفحة ،يوجد منها الآن نسخة في المتحف البريطاني واخرى في متحف برلين، ولكنها لم تنشر كاملة حتى الآن، وإنما قام بعض الباحثين في الأدب الشعبي بنشر ملخصات عنها. لا ندري ما اذا كان لذات الهمة أصل تاريخي، ولكن السيرة تنسبها الى بني كلاب من بني عامر من قبيلة هوازن. اسمها فاطمة وأبوها مظلوم بن الصحصاح، وكان جدها الصحصاح من أبطال العرب الذين رويت عنهم قصص الشجاعة والإقدام، وقد استشهد مع الصحابي أبي أيوب الأنصاري على اسوار القسطنطينية في عهد معاوية بن أبي سفيان.

عندما ولدت فاطمة أرسلها أبوها مظلوم الى الصحراء وأوكل امر تربيتها الى احدى الأسر هناك، ولكن مضارب هذه الأسرة تعرضت للغزو وسُبيت الطفلة. عندما شبّت فاطمة عن الطوق تمكنت من الهرب وتحرير نفسها، ثم جمعت حولها مجموعة من المقاتلين الرجال فقادتهم وراحت تغير على القبائل حتى عرفت أصلها ونسبها ومكان أهلها فعادت اليهم، وتولت شؤون الدفاع عنهم حتى ذاع صيتها. وكان بنو كلاب قد انتقلوا الى الشام وسكنوا في المناطق الشمالية، فلما ولي خلافة بني العباس أبو جعفر المنصور أرسل في طلب ذات الهمة واستمع الى آرائها في اساليب التعامل مع الروم، ثم جعلها معاونة لقائد جيشه الذي يقاتل عند الثغور فأبلت بلاءً حسناً، فجعلها على رأس جيش لفتح القسطنطينية، ففتحت المدينة وأسرت الامبراطور. بقية أخبار ذات الهمة ملآى بالبطولات الخارقة وتتداخل أحداثها غير التاريخية مع احداث حياتها الشخصية والاحداث الجارية في قبيلتها.(10) وما يمكن أن نستخلصه من هذه السيرة هو استمرار قيم المجتمع الأمومي في الثقافة الاسلامية، ولكن مع نقلها من مستوى التاريخ الى مستوى الخيال الأدبي.

المراجع:

1- James Pritchard, Ancient Near Easten Texts,Princeton,New jersy, 1969. P – 278279

2- المرجع نفسه ص 283

3- المرجع نفسه ص 284

4- المرجع نفسه ص 292

5- المرجع نفسه ص 657

6- .المرجع نفسه ص 298

7- المرجع نفسه ص 298

8- الموسوعة البريطانية على الانترنت :

  • Zenobia, https//www.britannica.com

9- موسوعة World History Encyclopedia على الانترنت: Jashua.Mark mavia,

10- د. نبيلة ابراهيم ، سيرة الأميرة ذات الهمة، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، القاهرة 1990

المصدر: الناس نيوز

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى