لا تزال تصريحات السلطات الجزائرية حول الوضع الجزائري المتأزم راهناً تتكرر ويبدو أن منذ رحيل الرئيس هواري بومدين والجزائر تفتقد أي شكل من أشكال التنمية الوطنية المستدامة والمنهج الذي بمقتضاه يمكن إنجازها، وجراء ذلك بقيت البلاد تدور حول غابة التخلف كما يقول المثل الإنكليزي. وأدى هذا كله إلى عدم الكشف عن البؤرة التي تفرز أزمتها المركبة اقتصادياً وتعليمياً وثقافياً وتنظيماً اجتماعياً وفاعلية سياسية كمرحلة أولى ثم تليها مرحلة التصدي لها بقوة.
في لقائه الدوري مع الصحافة الوطنية ليلة الأحد الماضي أكدَ الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبّون أن “خلفيات سياسية وراء ارتفاع أسعار المواد الغذائية” الأمر الذي يفهم ببساطة أن جهاز الرئاسة، الذي يعتبر أعلى سلطة في البلاد، لا يعرف بالضبط أولئك الذين يخلقون مشكلة ندرة المواد الغذائية ولا يتحكم في الوضع السياسي وتناقضاته وصراعاته التي تحدث في السرَ غالباً. ومن الواضح أن عدم تحديد الرئيس تبّون في هذا اللقاء المذكور آنفاً الجهات والأشخاص المسؤولين عن المضاربة يعني أن المشكلة ستستمر وأن تهديده المضاربين “الشبحيين” بعقوبات السجن التي لن تقل عن 30 سنة وقد تصل إلى المؤبد لن تقضي على الثقافة التي تفرز هذه السلوكات الهدامة.
ولكن هل صحيح أن تدهور القدرة الشرائية للمواطنين والتنمية يرجع حقيقة إلى مجرد التجاذبات السياسية بين الأجنحة في أعلى هرم الدولة؟
وفي هذا الخصوص يجمع المراقبون السياسيون المحايدون على أن السبب الحقيقي لهذه المشكلة والمشاكل الأخرى المجاورة لها، والتي تصيبها بالعدوى، يتمثل في العمق في عوامل عدة في مقدمها عدم النضج السياسي، وعقم الأحزاب، وتفريغ المجتمع المدني من طاقته الروحية والإبداعية وتحويله جزءاً من اللعبة السياسية المفلسة، واستهلاك الطاقات الوطنية في معارك تستهدف أصلاً تحويل هويَات الإثنيات إلى لغم قابل للتفجير في أي لحظة، وتكريس اعتماد الاقتصاد الوطني الجزائري على بعد واحد معزول وهو ريع النفط وتنميط سلوك استيراد كل شيء من الخارج بالعملة الصعبة؟
من الملاحظ أن تشخيص السياسيين الجزائريين الموجودين في سدة الحكم أسباب تفاقم أزمة التنمية الجزائرية منذ عام 1978 حتى الآن غير صحيح لأن هؤلاء قد تعودوا على إنتاج ثم إعادة إنتاج ثقافة تسيير الأزمات وارتجال التصورات المتسرعة غير المؤسسة على التحليل الدقيق الذي يعتمد على النظرية العلمية والدراسة الميدانية للمشكلات الأساسية وللعوامل التي تخنق التنمية بكل أبنيتها التحتية والفوقية.
ومن أغرب الأمور أن نسبة معتبرة من الإطارات الجزائرية الكفوءة التي تملك الرؤية والوازع الوطني والتكوين العلمي والفكري لا تجد مكاناً لها في مؤسسات الدولة الجزائرية إلا نادراً، وكثيراً ما تحارب إذا ظهرت في هذه المؤسسة أو تلك. ولقد حال هذا العامل الهدَام دون استثمار الطاقات المبدعة لإحداث تحوَل نوعي في مجال التنمية الحيوي.
من الضرورة الإشارة هنا بوضوح إلى أن الكفاءات الجزائرية تعرضت ولا تزال تتعرض إلى مختلف أنواع النبذ والإقصاء والتهميش والإبعاد التعسفي، وبسبب ذلك عانت البلاد ولا تزال من هجرة الأدمغة القادرة على تحريك الدافع الحيوي الذي يمكن أن يتم بواسطته إنجاز التحديث والعصرنة في مختلف مجالات التنمية إلى الدول الأوروبية والغربية.
وفي هذا الخصوص ينبغي التذكير بأن الجزائر فقدت أكثر من 10 آلاف طبيب جزائري وآلاف الممرضين والممرضات الأكفياء وآلاف المهندسين في مجالي الزراعة والفلاحة فضلاً عن 400 وزير سابق مقيم في فرنسا لهم خبرة في كيفية إدارة شؤون الدولة، ومئات الإطارات العليا المتخصصة في حقول التعليم والتسيير الإداري العصري والإلكترونيات الحديثة وعلوم الصيدلية وهلم جرا. ولقد هجر هؤلاء إلى فرنسا وكندا وأميركا وإلى بعض الدول الأوروبية والآسيوية المتقدمة الأخرى هروباً من كابوس أنماط التعسف المادي والاقتصادي والمعرفي الذي تعرضوا له في الجزائر على مدى سنوات طويلة.
وفي الواقع فإن تعرض الاقتصاد الجزائري للأزمات ليس بأمر جديد، فهذه الآفة مزمنة وتتعمق باستمرار، ولا شك في أن تداعياتها الراهنة لا تنفصل عن التخلف البنيوي العام للمجتمع الجزائري ولا يمكن أن تعالج بقفزة في الظلام، إذ لا بد من النظر إليها على أنها نتيجة لفشل الجزائر في تجاوز ثقافة ما قبل التصنيع العصري المؤسس على المكننة والتنظيم الاجتماعي الذي تنتفي فيه ذهنية إدارة الإنتاج وإبداعه وفق عقلانية حداثية.
منذ تأكيد المجلس الدستوري بتاريخ 16 كانون الأول (ديسمبر) 2019 صحة نتائج الانتخابات وعبد المجيد تبون رئيساً رسمياً للجزائر وفقاً للدستور والقوانين المنظمة للانتخابات، لم يقدم الرئيس تبون أو وزيره الأول السابق عبدالعزيز جرَاد وخلفه الحالي أيمن بن عبدالرحمان خطة منهجية قابلة للتنفيذ وفق آجال محددة لعلاج الخلل الذي ما فتئ ينخر جسد التنمية الجزائرية المتهالك،كما أن الوعود التي قدمت أثناء الانتخابات الرئاسية لاسترداد الأموال المنهوبة والتي تقدر بمئات مليارات الدولارات بقيت حبراً على ورق حتى هذه اللحظة، وفضلاً عن ذلك، فإن مبلغ 90 مليار دولار الذي تتحكم فيه السوق السوداء الموازية لا يزال في جيوب أصحابه وأغلبهم من كبار الشخصيات ذات الهيمنة والنفوذ السياسي والأمني في مختلف أجهزة الحكم المختلفة حيث تصعب محاسبتهم أو المساس بمصالحهم.
نظراً الى ما تقدم، فإن العلاج الذي بادر به الرئيس تبون خلال الأيام القليلة الماضية والمتمثل في رفع الحد الأدنى للأجور بنسبة 25 في المئة هو مجرد مسكن لتهدئة الأعصاب موقتاً ولا يمكن أن يكون له أثر إيجابي راديكالي بسبب التضخم المتفاقم وتقهقر الانتاج الوطني كمَاً ونوعاً، وازدياد عدد العاطلين من العمل، فضلاً عن اعتراف الرئيس تبون نفسه إذ قال حرفياً “لكن ذلك لم يكفِ بسبب المضاربة”.
المصدر: النهار العربي