الزهرة رميح، روائية مغربية متميزة، هذا اول عمل أقرأه لها. فضاء الرواية في المغرب العربي، والرواية تتكلم في موضوع قديم قدم الظلم في الأرض، عن الاعتقال السياسي أسبابه وتداعياته تتحدث، منذ شرق المتوسط لعبد الرحمن منيف، و فضاء الرواية العربية يتحفنا بالمؤلم والموثق لانتهاكات الحكام لانسانية الانسان؛ عبر أسوأ مظاهره، وهو الاعتقال السياسي.
.الرواية أقرب للشهادة الذاتية؛ فنحن أمام بطلة الرواية زوجة المعتقل السابق الذي مات (فجأة؟!!)، تراكم لليأس، أو المرض الخفي، او الألم العميق ، وقرار الانسحاب من الحياة.
البطلة الزوجة التي تعرفت على البطل(المعتقل) وراء القضبان، فهو في المعتقل، وهي طالبة ناشطة انسانية وحقوقية، تتعرف عليه في الزيارة الدورية للسجن، وتتوالى الزيارات و تتوطد العلاقة، تعرف انه من الريف البعيد الممتد عميقا بالصحراء، وقرار الأهل ان يتعلم لفك رموز العالم ، ويصنع له ولهم حياة أفضل، هو الطفل المتشرب لقيم الخير والعدل والحرية، قيم المقاومة من أحاديث جده الدائمة عن مقاومة المحتل (فرنسا) في ريف الجزائر، نشأ ممتلئا بحب الوطن، وقيم البطولة ، والبحث عن الدور، سرعان ما التحق بالمدينة ليكمل رسالة العلم، ورسالة الحياة، وليدخل في إحدى التحزبات (اليسارية)، ويمتلئ نفسيا بأنه مناضل، لا نتعرف على النوع الفكري لانتمائه، فالاهم البعد الإنساني عنده ، وفي الحزب ، وعند رفاق الطريق، سنكتشف ان الحزب ممتلئ بكل أمراض المجتمع؛ من ريبة ونميمة و مصلحية وخيانة وانتهازية ايضا، سيقع ضحية اعتقال مدبر، وسيكتشف انه دخل العنوان الخطأ؛ فهو تحزب ليصل للحرية والعدالة والحياة الأفضل، لكنه وجده غير ذلك، في المعتقل سيكتشف كم هو رخيص ومنتهك ومفتقد للكرامة الإنسانية، سينتهك جسديا ونفسيا، ويجرح من وطن يستهلك أبناؤه، ويدخلهم في امتحان الإحساس بأن الوطن باع أبناءه في سوق العبيد ، وحول الوطن لمزرعتة الخاصة والشعب قطيع. سيخرج من السجن، يلتقي بحبيبته ويتزوجان ويحاولان بناء حياة جديدة، لكنه سيكتشف انه خسر انسانيته هناك خلف أسوار السجن، يعيش غريبا منفيا، سيكتشف انه فاقد للاعتبار الإنساني من الحاكم ومن تخلف الناس، والناس الغرقى في التخلف والفقر وأمراض القهر جميعا، سيعيش حياة مؤقته قبل مرحلة الغياب(الموت)، سيعلن فلسفة اليأس من كل شيء؛ من الوجود الغريب؛ في حياة بالكاد أن تحضر وتعي وجودك ، لتذهب، قبل تشرّبك الوجود ومعناه، في عالم القوي به مدجج بالعلم والسلاح، يستغل ويحتل وينتهك وجود الآخرين، بمالهم ودمائهم وأركان حياتهم أفراد وجماعات ومجتمعات، والحصيلة ملايين من البشر ضحايا موت في حروب او قهر اوفقر، في حياة الموت أفضل منها. سيكتشف أن رسالة الحق والخير والحرية والعدالة والحياة الأفضل؛ هي مجرد (وهم)، يقتات به الإنسان قبل أن يغادر الدنيا لعدم مخيف. كان يسكن الغياب حتى خطفه الموت فجأة، زوجته تعيش على استعادة الماضي المشترك مع حبيبها (الذي سكن الجزيرة السوداء)؟!!، التي لم يعد منها أحد، تتذكر حميمية العلاقة، والتوقد النفسي، وخصائه الجسدي بعد رحلة الاعتقال والتعذيب، ستذهب للسجن (الذي أُهمل) بعد فترة المصالحة الوطنية التي سادت البلاد، وتستذكر ثنائية السجن و البحر ؛ البحر بامتداده وعمقه كمسرح للحرية ، والسجن كمقبرة لها، والمقبرة المجاورة للسجن التي تذكر دائما بالعدم.
تذكر حبيبها الذي رفض التعويض عن فترة اعتقاله، لا شيء يعوض عن الاستشهاد والتعذيب واللوعة النفسية والعمر المهدور، حتى الغفران لا يقدر عليه. تذهب لمكتب التعويض وتدخل روتين الأوراق والادلة والشهود ، وتكتشف ان لا شيء تغير، ستعود في رحلة التوحد مع ذكرى حبيبها المفقود، لتمتلئ نفسيا مجددا ؛ بأن كل مبررات نضاله ما زالت قائمة؛ شعب فقير وجاهل ومتخلف، ضحية سلطات وأحزاب ترتزق بفقره وتخلفه، ستتوقف أمام النفايات المتراكمة، والشركات الاجنبية التي عجزت عن حل المشكلة، سنعرف ان تراكم نفاياتنا هي تراكم تخلفنا وتبعاته، ستكتشف أن بيئة الفقر والقهر تنبت الارهاب والحلول الخلاصية الوهميه، وستحصل تفجيرات في المغرب ، و يختلط الدم البريء بالتراب، ويتنصل كل المتورطين بصناعة الظاهرة منها ، وهم الحكام، ومن ورائهم الغرب المستغل والمحتل صانع الظاهرة و مستثمرها، ستذهب بفكرها للعراق المنتهك والمحتل (زمن الرواية) وتتوقف أمام سجن ابو غريب، واستعادة السجن العربي لمجده، وهذه المرة بيد الامريكان، ستتابع تفاصيل الامراض القديمة والجديدة المستعصية في جسد المجتمع وعقله ووجدانه، ولسان حالها يقول: لا امل، ستفكر فلسفيا في الوجود والعدم، و(مزحة)الحياة السخيفة، تستحضر حبيبها في المنام والكابوس ، ستفتقد للحميمية، للتوحد ، للحب ، للخلود ولو لثواني في وجود عدم. هي تنوس دوما بين اليأس والأمل، بين حضوره المتوقد، وغيابها عن الواقع، ستتعاقد مع الشمس(مصدر النور) والتنوير هنا، سترتد اخيرا لها إنسانيتها؛ تعيش الأمل، وأننا مطالبون رغم كل ذلك بدور ويجب أن نقوم به.
هنا تنتهي الرواية.
لسان حالنا يقول لم يتغير شيء: مازال السجن العربي يتسع و يتجذر، ومازال الحاكم المستبد يوغل بالدم العربي، ومازال السوريون يدفعون ثمن طلبهم الخروج من سجن النظام واستبداده، دمائهم واعمارهم وجنى عمرهم المهدور، ومازالت الرسالة مستمرة: نعمل للحرية والكرامة والعدالة والديمقراطية والحياة الأفضل، والثمن مدفوع سلفا بكل الاحوال.
.تنتهي الرواية بأبيات من الشعر مهمه:
.(بذرة..بذرة..تولد غابة النخيل.
.زهرة ..زهرة..يولد البستان الجميل.
.قطرة.. قطرة..يولد البحر العميق..
.ومضة ..ومضة ..يولد الفجر المضيئ)…