الانفتاح الأردني على النظام السوري الذي بلغ ذروته في الاتصال الهاتفي قبل أيام بين بشار الأسد والملك عبد الله الثاني، إنما هو حصيلة جملة من الخطوات التي تمت تباعاً على الصعيد السوري الداخلي، وعلى المستويين الإقليمي والدولي. وهذا معناه أن التطبيع الأردني مع نظام الأسد لن يكون الوحيد، بل هو ليس الوحيد. وعلى الأكثر ستشهد الأيام المقبلة المزيد من عمليات التطبيع العلنية، بل إن هذه الأخيرة قد بدأت في واقع الحال عبر اجراءات إعداد السفارات، وعقد الاجتماعات بخصوص مشاريع إعادة الإعمار.
وقد جاءت اللقاءات العلنية التي عقدها وزراء خارجية جملة من الدول العربية مع فيصل مقداد وزير خارجية الأسد في نيويورك، وذلك على هامش انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة مؤخراً، لتؤكد حدوث انعطافات نحو النظام في المواقف العربية الرسمية التي لا يمكن عزلها عن تحولات الموقف الأمريكي من الملف السوري، وهي التحولات التي تم التعبير عنها صراحة بأن تغيير النظام لا يعد مطلباً أمريكياً، وإنما المطلوب هو تعديل السلوك، وهذا الموقف يعد استمرارية للموقف الأمريكي من النظام المعني قبل الثورة. ويبدو أنه قد بات الموقف المعتمد من قبل إدارة بايدن التي لم تعط الملف السوري حتى الآن أهمية جدية من جانبها. فسوريا ليست حاضرة في خطابات بايدن، وهي غائبة عن جداول أعمال كبار أركان إدارته. هناك تصريحات رفع عتب تُسمع من حين إلى آخر، ولكن على أرض الواقع هناك تفاهمات مع الروس على الاستمرار في سياسة الخطوة خطوة التي كانت وراء تمرير قرار مجلس الأمن في حزيران/يونيو 2021 القاضي بتمديد آلية ادخال المساعدات الأممية إلى سوريا من معبر باب الهوى، مع تعديلات طلبها الروس شرطاً للموافقة على القرار.
والتسويات التي كانت في منطقة درعا في الآونة الأخيرة بإشراف وتدخل روسيين مباشرين، ما كان لها أن تتم لولا الموافقة الأمريكية وحتى الإسرائيلية؛ وذلك لأسباب لها علاقة بموقع المنطقة، ودورها في الحسابات الأمنية الإسرائيلية. أما مشروع نقل الغاز من مصر عبر الأردن وسوريا إلى لبنان، فهو يذكّرنا بفكرة الجماعة الأوروبية للفحم والفولاذ عام 1952 بناء على اقتراح وزير الخارجية الفرنسي في ذلك الحين روبرت شومان، وهي الجماعة التي كانت أساساً لمشروع الاتحاد الأوروبي. ولا تستبعد في هذا المجال إمكانية استلهام هذه الفكرة من قبل الذين طرحوا ومرروا هذا المشروع بغايات إنسانية، بينما هو في واقع الأمر مقدمة لفك العزلة عن نظام الأسد وتسويقه، وإن كان ذلك بشروط جديدة تستوجبها المتغيرات والأولويات المستجدة. وهذا المشروع لم يكن له أن يعلن، وتبدأ الخطوات العملية لتنفيذه، لولا الموافقة الأمريكية، والتفاهم الروسي الأمريكي وحتى الإسرائيلي حول ذلك.
بناء على ما تقدم، نرى أن الخطوة الأردنية تأتي في إطار جملة الخطوات الإقليمية والدولية التي يرى أصحابها أن التعامل مع نظام الأسد إنما هو إقرار بالأمر الواقع، وتعامل عملي معه. هذا مع الأخذ بعين الاعتبار واقعة أن معظم هذه الأطراف ساهمت بهذا الشكل أو ذاك في إيصال الأوضاع في سوريا إلى ما هي عليه راهناً. فقد التزمت بنهج إدارة الأزمة، وحرصت على منع النظام من السقوط في مرات عدة؛ وغضت النظر عن التغلغل الإيراني وأذرعه من الميليشيات الطائفية؛ كما أعطت الضوء الأخضر للتدخل العسكري الروسي الذي ترتب عليه لاحقاً فتح مسار أستانا بقصد التحايل على جدول أعمال مسار جنيف؛ وهو الأمر الذي تمثّل في تسويق اللجنة الدستورية على حساب هيئة الحكم الانتقالي. كما أن كل صفقات المصالحات وعمليات تسليم المناطق إلى النظام تحت شعار مكافحة الإرهاب تمت بعد التدخل الروسي الذي ما كان له أن يتم لولا التفاهمات الأمريكية الروسية.
وفي أجواء تمسك الروس بدورهم الراهن، وعلى الأكثر المستقبلي، في سوريا، والقرائن والإشارات التي توحي بانسحاب أمريكي ليس ببعيد من منطقة شرقي الفرات، وربما مقايضة روسية تركية، وبتفاهم أمريكي حول المناطق الشمالية من سوريا سواء في الغرب أم في الشرق، في ضوء كل ذلك وغيره، يبدو أن دول الجوار السوري قد استعدت هي الأخرى لمرحلة جديدة من التطبيع مع نظام بشار، مقابل تفاهمات أو صفقات بخصوص الأدوار المستقبلية سواء على المستوى الإقليمي أم الدولي، وحتى على المستوى المحلي؛ وما يخص مشاريع إعادة الإعمار، وعودة اللاجئين.
أما تطلعات السوريين وتضحياتهم الهائلة التي كانت على مدى أكثر من عقد نتيجة الحرب التي أعلنها النظام على السوريين الثائرين على حكمه المستبد الفاسد المفسد، فإنها تظل مادة للتصريحات الإعلامية التخديرية، بهذه المناسبة، أو تلك.
ومما سهل مهمة تنصّل القوى الدولية من وعودها ومواقفها التي كانت في بداية الثورة، واستمرت لبعض الوقت عبر مجموعة أصدقاء الشعب السوري، هو أن المعارضة السورية الرسمية، ممثلة بالهيئات والمنصات المختلفة، قد أهملت، إن لم نقل تخلت، عن أولوياتها الوطنية السورية، والتزمت أجندات هذه الدولة أو تلك من الدول التي انخرطت في الموضوع السوري، بل وأصحبت مجرد واجهات سياسية لا علاقة لها بالعمل الميداني بكل أشكاله، خاصة في جانبه العسكري الذي يخضع لتعليمات وتوجيهات الداعمين. وهذا فحواه أن السوريين في معظمهم لا ينتظرون حلاً من النظام، ولا من المعارضة الرسمية، وإنما يتابعون تصريحات المسؤولين الدوليين والإقليميين المتمحورة حول الموضوع السوري، وهي تصريحات قد باتت محدودة بصورة لافتة. كما يتابع السوريون اتصالات وتحركات القوى الدولية والإقليمية المنخرطة في الملف السوري، وينتظرون التفاهمات والتوافقات التي ستجري، أو التي تمت، لا سيما بين الروس والأمريكان في المقام الأول، وبالتفاهم مع الجانب الإسرائيلي بطبيعة الحال الذي كان موقفه منذ البداية يتمثل في المحافظة على نظام بشار وهو في أضعف حالاته.
والأمر الذي يستوقف في هذا السياق هو أنه على الرغم من التناقض الشعاراتي بين الجانبين الإسرائيلي والإيراني في الموضوع السوري، يُلاحظ أن هناك تقاطعاً بين الموقفين من جهة توافق المصالح. فما يجمع بين موقف الطرفين يتشخص في سعيهما من أجل استغلال الموضوع السوري لتحقيق أهداف استراتيجية أبعد وأشمل. فالجانب الإسرائيلي يتطلع نحو علاقات تطبيع علنية مع الدول العربية الغنية، والحصول على استثمارات ضخمة فيها. في حين أن النظام الإيراني يرى أن الوسيلة الأفضل، بالنسبة إليه، التي تمكّنه من الاستمرار في الداخل، والامتداد في الدول والمجتمعات المجاورة، تتمثل في تحطيمها لتصبح عاجزة عن استعادة عافيتها وسيادتها، فتغدو مجرد ساحة من ساحات التوسع والهيمنة بمختلف الأشكال، وسوريا بوصفها دولة مفتاحية تعتبر قاعدة أساسية للمشروع الإيراني الإقليمي.
ولكن مهما يكن، فإن التوافق الدولي والإقليمي على التعامل مع نظام الأسد، وتسويقه، ليس معناه امكانية استمرار هذا النظام على المدى المنظور. فهذا النظام الذي تبجح على مدى عقود في مرحلة الأسد الأب بما حققه من أمن واستقرار، تبين لاحقاً بأنه لم يكن سوى استقرار زائف، كان بفعل تحكّم الأجهزة القمعية بكل مفاصل الدولة والمجتمع السوريين.
واليوم يستعد هذا النظام للاستمرار بناء على الحسابات الدولية والإقليمية، في حين أن السوريين بكل انتماءاتهم وتوجهاتهم، وبعيداً عن التصنيفات النمطية قد اكتشفوا طبيعة هذا النظام الوظيفية، وتيقنوا من استعداده لارتكاب كل الجرائم بحق الشعب، وتسليم مقدرات البلاد للأجنبي مقابل البقاء.
لقد راكم السوريون خلال العقد المنصرم الكثير من الخبرات، كما علمتهم التجارب أن المراهنة المجدية ينبغي أن تكون على العامل الوطني الذاتي، وعلى الطاقات المتجددة التي يمتلكها الشباب السوري؛ هؤلاء الذين أكتسبوا، رغم الظروف المعيشية الصعبة وشروط الهجرة القاسية وتبعاتها، المعارف والخبرات؛ وأتقنوا اللغات التي مكّنتهم من الاطلاع على انجازات المجتمعات الأخرى في ميادين الإدارة والمعرفة، واحترام الخصوصيات، وضمان حرية التعبير. كل هذه الخبرات والمعارف ستؤثر لا محالة في الواقع السوري الداخلي، وستفتح قنوات الحوار المثمر بين السوريين بعد التحرر من الأوهام الأيديولوجية بسائر ألوانها؛ وبعد انكشاف دوافع المتسلقين والانتهازيين الذين ارتبطوا بالمشاريع الإقليمية والدولية لصالح حسابات خاصة، وأجندات شللية حزبية عصبوية لا علاقة لها بالمشروع الوطني السوري الجامع.
نظام الأسد قد فقد هيبته وقوته، ولم تعد هناك قوة في الدنيا قادرة على إقناع السوريين بالقبول بهذا النظام من جديد. قد تمنح القوى الدولية والإقليمية النظام المعني فرصة آنية محدودة، ولكن المستقبل المنظور لا يوحي بأي إمكانية لشرعنة واستمرارية هذا النظام الذي لم يمتلك الشرعية قط.
*كاتب وأكاديمي سوري
المصدر: القدس العربي