المظلومية الظالمة

محمد جميح

المظلومية هي وسيلة ظالم لاحق للحلول محل ظالم سابق في اضطهاد مظلوم ظل على حاله سابقاً ولاحقاً، وهي من أكثر التكتيكات ذكاء حيث يمارس الظالمون ظلمهم باسم الانتصار للمظلومين، وذلك بأن يرفع الظالم الجديد شعار المظلومية، لا لينصف المظلوم من ظالميه، ولكن لكي يحل محلهم، ويمارس تصرفاتهم ذاتها ضد المظلوم الذين زعم أنه ثار لأجله.

ولا يقتصر الحديث هنا عن تلك التجارب التي يخرج فيها المظلومون رافعين شعار مظلوميتهم، وشاهرين غضبهم للتنكيل بمن ظلمهم، مع قساوة تلك التجارب، ولكن عن تجارب أكثر خبثاً وقساوة، يختلط فيها المصلحي بالمبدئي، حيث يتبنى مجموعة من الانتهازيين مظلومية غيرهم لتحقيق أهداف سياسية في السلطة والثروة.

هناك العديد من المشاريع السياسية المعاصرة التي عكست «التوظيف السياسي للمظلومية» وفي مقدمة تلك المشاريع: المشروعان الإسرائيلي والإيراني اللذان يتشابهان في كثير من الوسائل والغايات، في ظل غياب تام لمشروع سياسي عربي بديل.

فالمشروع الإسرائيلي قام على «مظلومية اليهود» التي وصلت ذروتها في «الهولوكوست النازي» الذي وظفته «الحركة الصهيونية» لإقامة مشروعها السياسي في دولة إسرائيل على حساب تطلعات الشعب الفلسطيني، بينما قام المشروع الإيراني على استغلال «مأساة كربلاء» التي وظفها «التشيع السياسي» لتوسيع نفوذ دولة إيران على حساب تطلعات الشعوب العربية، حيث يحاول هذا المشروع – وما سبقه من مشاريع «التشيع السياسي» الحفاظ على «جذوة كربلاء» لا لإنصاف «أهل البيت» بل للوصول لأهدافه السياسية باسمهم.

ولذا نرى أن المشروع السياسي الإيراني يحاول اليوم جاهداً الإبقاء على «مرارة الشعور بالمظلومية والاضطهاد والمشاعر السلبية» لدى جمهوره الكربلائي، من أجل الحفاظ على وقود حروبه التي يلزمها الكثير من الأحقاد والبكائيات ودعوات الثأر.

وهذا الأمر مبني أساساً على خبرة طويلة في استدرار العواطف، وإدخالها في حالة مما يمكن تسميته بـ«الخدر الأيديولوجي» اللازم لتدمير الأنا والآخر، خدمة لأهداف لا علاقة لها لا بالدين ولا بالتشيع.

ومن هنا يأتي الحرص على إحياء مناسبات موت أو «استشهاد الأئمة» أكثر من الاحتفاء بميلادهم، بل إن الاحتفاء بـ«الحسين» يعد أعظم المناسبات التي اهتمت بها المؤسسة الدينية الرسمية في إيران قديماً وحديثاً، بهدف استغلال تلك المناسبة لمزيد من التحشيد والتحريض والكراهية اللازمة لاستمرار الحروب داخل الصف العربي لتسهيل مهمة السيطرة عليه.

وفي غمرة تلك المناسبات لا يسأل أحد لماذا اهتمت جماعات التشيع السياسي بـ«ثورة الحسين» ولم تهتم بـ«صلح الحسن»؟، حيث يمثل الحسين ـ لا الحسن ـ الشخصية المناسبة لنقل الحروب إلى داخل الجسد نفسه، لأن معركة الحسين كانت معركة داخلية مثَّلتْ حرباً أهلية بين فريقين من قريش، وبالتالي فإن إحياء ذكراه يتعدى الحزن الطبيعي-الذي لا يمكن أن يستمر قروناً- إلى «حزن سياسي» يهدف إلى زرع كربلاء في كل بلد عربي لإضعاف تلك البلدان، ومن ثم سهولة التحكم بثرواتها، كما هو ملحوظ اليوم في البلدان التي تنتشر فيها مليشيات إيران.

قد يقول قائل إن الأهمية التي يكتسبها الحسين لدى جماعات التشيع سياسي، والتي تخطت رمزية أخيه الحسن جاءت بسبب المأساة التي تعرض لها دون أخيه، والواقع أنه على الرغم من وجاهة هذا التفسير إلا أن واقع تسييس دم الحسين في الماضي والحاضر يوحي بما هو أبعد من مجرد الحزن الفطري بسبب مأساة حصلت قبل أربعة عشر قرناً من الزمان.

المظلومية هي من أكثر التكتيكات ذكاء حيث يمارس الظالمون ظلمهم باسم الانتصار للمظلومين، وذلك بأن يرفع الظالم الجديد شعار المظلومية، لا لينصف المظلوم من ظالميه، ولكن لكي يحل محلهم

وبالنظر إلى وسائل مشروع التشيع السياسي الحديث التي يُكيّفها من أجل استمرار الشعور بالمظلومية، يمكن أن نلحظ عدداً من التكتيكات اللافتة، ومنها: «توظيف الشعار» حيث تم إنتاج مجموعة من الشعارات الحديثة، وإحياء مجموعة من المقولات القديمة للأغراض ذاتها، وشاهدنا الميليشيات الطائفية وهي تهتف: «يا لثارات الحسين» و«لبيك يا حسين» و «لن تسبى زينب مرتين» ناهيك عن مقولات، مثل: «كل أرض كربلاء، وكل يوم عاشوراء» وغيرها من الشعارات التي تحرض على الكراهية والعنف.

وفي السياق ذاته يمكن إرجاع الاهتمام بالمؤثرات الصوتية واللونية والدرامية التي تحفل بها المناسبات الدينية المسيسة إلى الرغبة في المزيد من ذلك «الخدر الأيديولوجي» اللازم لتوجيه شعور الجمهور إلى الوجهة المطلوبة، حيث تحضر الأنشودة الحزينة المؤداة بأصوات بكائية، وعلى أدوار موسيقية وعروضية فجائعية، كما تحضر التمثيلية في شكلها التراجيدي المأساوي، بالإضافة إلى حضور اللون في درجته السوداء الباعثة على الحزن والكآبة المطلوبة لمزيد من الاحتقان والحقد والكراهية.

ويأتي في سياق تلك التكتيكات تحويل دور العبادة عن رسالتها الحقيقية في تفجير الطاقات الروحية الإيجابية للمتدينين، والانحراف بها نحو طاقات سلبية مشحونة بالشعور بالمظلومية والانتقام، لزيادة عدد المحتقنين الذين يُعوَّل عليهم في المزيد من الخراب والدمار، اللازمين لبسط سيطرة مشاريع الهيمنة الجديدة.

وفوق ذلك تم توظيف جانب من «أدب الالتزام» بمدلوليه الديني والماركسي، ضمن السياقات السياسية المطلوبة، حيث أكثرت اتجاهات شعرية حديثة من الاغتراف ـ بوعي أو بلا وعي ـ من رمزيات معركة كربلاء في مواجهة مؤسسة السلطة الحاكمة، وتم توظيف رمزية الحسين ضمن تداعيات إبداعية في سياق من القداسة التي غلفت معركة تندرج ـ أصلاً – ضمن الصراع السياسي بين العلويين والأمويين، لتصبح لتلك المعركة تداعياتها وإسقاطاتها الرمزية المنفتحة على دلالات التمرد والثورة.

إن استمرار تمدد ذلك المشروع السياسي يقتضي الاستمرار في التكتيكات المذكورة لتعميق شعورين سلبيين متقاطعين:

الأول: هو الشعور بالمظلومية الذي يغذي الرغبة في الانتقام.

والثاني: هو الشعور بـ«الأفضلية» الذي يغذي الرغبة في السيطرة.

وعندما يتعمق شعوران أحدهما بالمظلومية والآخر بالأفضلية، فإن هذين الشعورين هما الوصفة الدقيقة لتدمير الأنا والآخر، حيث لا ترى الأنا إلا مظلوميتها وأفضليتها، في مقابل ظالمية الآخر وعدم استحقاقه، وهو ما يجعل الأنا تنطلق بتأثير الدعاية الطائفية و«الخَدَر الأيديولوجي» في صراع طويل ينتهي بعدد كبير من «الكربلاءات والعاشوراءات» في أزمان وبلدان مختلفة، يراد لها أن تسقط تدريجياً في شباك «الظالمية المعاصرة» التي تمارسها جماعات «المظلومية التاريخية» خدمة للأهداف المعروفة.

ولعل تعمق الشعورين بالمظلومية والأفضلية هو الذي يجعلنا لا نجد أثراً للإحساس بالذنب لدى أولئك الذين نشروا الأجساد بالمناشير، وثقبوا الرؤوس بالدريلات، وأطلقوا الرصاص على ضحاياهم وسط صرخات الثأر والانتقام والنشوة، التي يتحول معها الإنسان إلى كائن غرائزي مريض، يتقمص دور المظلومية فيما هو يمارس أبشع أنواع الظالمية على الإطلاق.

وفي ضوء ما سبق يمكن فهم جانب من مأساة السوريين والعراقيين واليمنيين واللبنانيين الكبرى التي يراد لها أن تُفهم بعيداً عن الأسباب الرئيسية لها، والمتمثلة في تغول تلك المظلومية الظالمة، والتي يجب تفكيك سردياتها المغلوطة، كمنطلق لتفكيك منظوماتها المتغولة التي تفتك بالنسيج الاجتماعي والمنظومات السياسية في عدد من البلدان العربية.

ومع ذلك التغول المريع لتيارات التشيع السياسي فإن الأصوات ينبغي أن ترتفع للوقوف في وجه دعوات الثأر والانتقام واللعب السياسي بالرموز الدينية، والعزف على أوتار المظلومية التاريخية التي لا تولِّد إلا المزيد من المظلوميات ودورات العنف التي لا تنتهي، خدمة لأهداف لم تعد خافية على أحد.

كاتب يمني

المصدر: القدس العربي

 

حول مقال ….. المظلومية الظالمة

أعتقد أن مقال الكاتب اليمني محمد جميح الذي نشره قبل ساعات في “القدس العربي” بعنوان “المظلومية الظالمة” يقدم رؤية مهمة تجمع بين التحليل النفسي، والفهم الاجتماعي والسياسي للتوظيف الشيعي الفارسي لواقعة استشهاد الإمام الحسين عليه السلام، والتي يراد من خلالها تدمير وجود هذه الأمة، وتبديد قدرتها على النهوض. وجعل الفرس ومن خلال نظريتهم “ولاية الفقيه” أولياء دم الحسين عليه السلام.

الجميح طرح سؤالا مهما لا يجوز المرور عليه دون توقف، لماذا هذا الاهتمام ب “استشهاد الحسين” مقابل الإهمال التام ل “صلح الحسن”، وقدم إجابته على هذا السؤال، ولقد كان مهما أن يتبع هذا السؤال بسؤال متمم يخص المسؤولية عن خذلان الحسين بعد أن قام ” شيعته باستدعائه للقدوم إليهم”، ثم خذلوه وانفضوا عنه، فتحملوا حينها جزءا من المسؤولية عما أصابه والصحب الكرام معه.

ثم ما علاقة مجتمع المسلمين بجريمة قتل الحسين، سابقا ولاحقا، الذي قتل جيش سلطة والذي خذل هم مدعوا التشيع في ذلك الزمان، فما صلة المسلمين بكل ذلك. وكيف تنسحب الأمر زورا وبهتانا جيلا بعد جيل.

نحن كمسلمين لا يقبل لنا ديننا أن نحمل أجيال اليهود دم السيد المسيح، رغم أن أجدادهم خانوه وأسلموه لعدوه حتى ينكل به، ولم ينجُ إلا بحفظ الله له، فكيف يرضى هؤلاء أن يحملوا أجيال هذه الأمة ما لا علاقة لهم به!، بل أكثر من ذلك فإن الأمة مجمعة على تبجيل المكانة الخاصة لأهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وللحسن والحسين عليهما السلام وهما سيدا شباب أهل الجنة.

كذلك كان مهما التوقف عند حقيقة أن هذا الشكل من المظلومية المفعمة بالحقد، لم يسبق أن ظهرت قبل هذه المرحلة الفارسية بين الشيعة العرب، لا في العراق، ولا في لبنان، بل كان التلاحم بين المواطنين المسلمين في هذين البلدين شيعة وسنة أمر لا يحتاج إلى دليل، بل إنك قد لا تستطيع أن تفرق العشائر والعوائل في العراق حسب المذهب والطائفة لشدة التداخل بينهم في الحياة الاجتماعية والدينية.

مقال الجميح يتناول هذه المسألة من خلال تحليل استغلال “قضية المظلومية” بهدف إيقاع المزيد من الظلم على هذه الأمة، وليس من أجل انصاف أحد، ويقابل في مقاله بين “توظيف هذه المظلومية” المفترضة، وهو توظيف في جوهره فارسي عنصري، وبين التوظيف الصهيوني ل “مظلومية الهولوكوست” في إقامة الكيان الفلسطيني والعدواني المستمرة على فلسطين والشعب الفلسطيني.

 د. مخلص الصيادي

المصدر: صفحة د_ مخلص الصيادي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى