الذات والجسد في الفكر ما بعد الحداثي

 عرض ونقد : تيري إيغلتون *  ترجمة : ثائر ديب

بخلاف سلفها الديكارتي، فإنّ الذات ما بعد الحديثة هي ذات يشكّل جسدها جزءاً لا يتجزّأ من هويتها. والحقّ أنّ الجسد قد أصبح، من باختين إلى الـ Bodyshop ومن ليوتار إلى لباس الرقص الملتصق بالجسم، شاغلاً شديد التواتر من شواغل الفكر ما بعد الحديث. ولقد امتلأت المكتبات بالأعضاء المشوّهة، والجذوع المجلودة، والأجساد الموشومة أو المسجونة، المُعَاقَبة أو الراغبة، وظواهر أخرى مشابهة، ومن الحريّ بنا أن نتساءل عن السبب.

بدأ الاهتمام بالشؤون الجنسية والتأكيد عليها، كما أعلن فيليب لاركن، في الستينيات من القرن العشرين، وكان ذلك في جانب منه بمثابة امتداد للسياسة الراديكالية باتجاه مناطق كانت قد أُهْمِلَتْ في السابق على نحو يدعو إلى الرثاء. غير أنّ تراجع الطاقات الثورية شيئاً فشيئاً ترافق مع ضرب من الاهتمام بالجسد الذي راح يحتلّ مكان هذه الطاقات شيئاً فشيئاً. وهكذا صار اللينينيون السابقون لاكانيين كاملي العضوية، وتحول الجميع من الاهتمام بالإنتاج إلى الاهتمام بالشذوذ. أمّا اشتراكية غيفارا فقد أفسحتْ المجال لما جاء به فوكو وفندا من اهتمام بالبدن وعناية بالجسمانيات. واستطاع اليسار أن يجد في التشاؤمية الغاليّة(2) الشديدة لدى الأول، بخلاف مزاياه السياسية الناشطة، أساساً منطقياً رصيناً يبرر الشلل السياسي الذي أصاب هذا اليسار. وإذا ما كان صحيحاً ما يقوله فرويد عن أنّ الصنم هو ما يسدّ فجوة لا تُطَاق، فإنّ ثمة ما يبرر القول بأنّ الجنس قد أصبح الآن الصنم الأشدّ مطابقةً للزي الحديث بين جميع الأصنام. أمّا الخطاب الذي كان أول من أطلق فكرة الصنمية الجنسية على نحوٍ رفيع وفخيم (أي التحليل النفسي-م-)، فقد أصبح هو ذاته مثالاً ساطعاً عليها.

ومن بيركلي إلى برايتن، لم يعد هنالك ما هو أشدّ إثارة وجنسية من الجنس؛ كما تصاعد الاهتمام بالصحة البدنية حتى تحول إلى عصاب خطير. ونحن نعلم بالطبع أنّ موضوع الجنس لطالما تملّك المحافظين كما الوسواس، حيث ينظرون إلى الأخلاق على أنها تعنى بالزنا لا بالتسلّح، وبالانحراف الجنسي لا بالجوع؛ وإنني لأتساءل إنْ لم يكن بعض ما بعد الحداثيين قد تحولوا إلى صورة مرآتية باهتة لهؤلاء المحافظين.

لقد كان الجسد، إذاً، تعميقاً حيوياً للسياسات الراديكالية وإزاحةً واستبدالاً لها بالجملة في الوقت عينه. ففي الكلام على الجسد، ثمّة نوع ساحر من المادية يعوّض عن عثرات تقليدية معينة في المادية التي تعاني اليوم من مشكلة خطيرة. والجسد، بوصفه ظاهرة موضعية أو محلية على نحوٍ راسخ وعنيد، يتلاءم كثيراً مع الشكوك ما بعد الحديثة بالسرديات الكبرى(3)، وكذلك مع علاقة الحبّ التي تربط البراغماتية والملموس أو العيانيّ.

ولأنني أعرف أين تقع قدمي اليسرى في أية لحظة محددة دونما حاجة لأن استخدم بوصلة، فإنّ الجسد يوفّر صيغة من صيغ المعرفة أشدّ حميمية وجوّانية قياساً بعقلانية التنوير المُحْتَقَرَة والمزدراة في هذه الأيام. وبهذا المعنى، فإنّ لا خوف على نظريةٍ في الجسد من خطر الوقوع في تناقض داخلي، فهي تتخطّى مثل هذا الخطر إذْ لا تكشف للعقل إلاّ ما يُقْصَد منه أن ينفّس مثل هذا التناقض ويزيله. غير أنّ الجسد الذي يوفّر لنا شيئاً من اليقين المحسوس في عالم يزداد تجريداً، هو أمر مُشَفَّر على نحوٍ مُتْقَنٍ أيضاً وفي الوقت ذاته، الأمر الذي يوفّر لشغف المثقف بالتعقيد ما يقوته ويرضيه. فالجسد هو المعضلة بين الطبيعة والثقافة، ويوفّر اليقين والتعقيد في آنٍ معاً. ومن اللافت بحقّ أن حقبة ما بعد الحداثة قد اتّسمت بإشاحة الوجه عن الطبيعة والالتفات الحادّ إليها في الوقت ذاته. فمن جهة أولى، أصبح الآن كلّ شيء ثقافياً؛ ومن جهة أخرى بات علينا أن نرمم طبيعةً تأذّت بمخلّفات الحضارة. وهاتان الحالتان اللتان تبدوان متعاكستين في الظاهر هما في الحقيقة حالة واحدة تتمثّل في أنّ علم البيئة يرفض الاعتراف بسيادة الإنسان والثقافوية تضفي طابع النسبية عليه.

وإذا ما كان العقل لا يزال فكرة مثيرة بالنسبة للفلاسفة وعلماء النفس، فإن نقّاد الأدب لم يكفّوا عن إبداء الاحتراس واليقظة حيال الفكر الطليق، مفضّلين لمفاهيمهم أن تكون مجسَّدة ومكتسية باللحم. وبهذا المعنى، فإنّ الجسمانيات الجديدة تمثّل عودةً إلى المذهب العضوي القديم إنّما بصورة معقدة وأشدّ إتقاناً. فبدلاً من القصائد الرّيانة مثل تفاحة، صار لدينا الآن نصوص مادية مثل إبط. ولقد نبعت هذه الالتفاتة إلى الجسد، في جانب منها، من عداء بنيويّ للوعي، ومثّلت الطرد النهائي للشبح من الآلة. فالأجساد هي طرائق للكلام على الذوات البشرية دون أن ينزلق المرء إلى مواقف إنسانوية، متفادياً بذلك تلك الجوّانية المضطربة التي أزعجت ميشيل فوكو كثيراً. وهكذا يكون الكلام على الجسد، من بين أشياء أخرى أكثر إيجابية، آخر شكل لدينا من أشكال الكبت، وذلك على الرغم من كل وثباته وقفزاته الكرنفالية؛ كما تكون العبادة ما بعد الحديثة للذّة، في تنويعاتها الباريسية على الأقلّ، شأناً بالغ الوقار ورفيع الأخلاق في حقيقة الأمر.

وبالنسبة للجسمانيات الجديدة، ما كلُّ جسد قديم يفي بالغرض، وإذا ما كان الجسد اللبيدي مقبولاً، فإنّ الجسد العامل ليس كذلك. كما أننا نجد في هذه الجسمانيات وفرة من الأجساد المشوّهة، في حين لا نجد سوى قلّة قليلة من الأجساد المسغولة سيئة التغذية. وإذا ما كان من المؤكَّد أن كتاب ميرلوبونتي علم ظاهرات الإدراك الحسيّ هو أحسن كتاب عن الجسد في حقبتنا، فإن هذا الكتاب، بإحساسه الإنسانوي بالجسد بوصفه ممارسةً ومشروعاً، هو بالنسبة لبعض المفكرين أمر فات أوانه وصار عتيقاً. والتحول من ميرلوبونتي إلى فوكو هو تحول من الجسد بوصفه ذاتاً إلى الجسد بوصفه موضوعاً. فالجسد، بالنسبة لميرلوبونتي هو “حيث يوجد ما ينبغي أن يُفْعَل”؛ أما عند الجسمانيات الجديدة، فالجسد هو حيث يوجد ما يُفْعَل بك، كأن يُنْظَر إليك، أو تُدْمَغ، أو تُعَاقَب. ولقد اعتيد على تسمية ذلك بالتغريب، غير أنَّ هذا ينطوي على وجود جوّانية ينبغي تغريبها، وهي أطروحة يرتاب بها بعض ما بعد الحداثة أشدّ الارتياب.

لقد تمثّل جزء من مساوئ التقليد الديكارتي في أنّ صورة الجثّة هي واحدة من أولى الصور التي تستحضرها في الذهن كلمة “الجسد”. فالإعلان عن حضور جسد ما في قاعة المكتبة لا يشير بأي حال من الأحوال إلى حضور قارئ مجدّ. وبالمقابل فإنّ توما الأكويني كان يرى أنّ لا وجود لما يُدعى بالجسد الميت، بل لبقايا الجسد الحيّ وحسب. فالمسيحية تؤمن بقيامة الجسد ونشوره، لا بخلود النفس؛ وهذا يعني أنّ السماء إِنْ لم تحتو جسدي فإنها لن تحتويني. ولا شك أن لدى العقيدة المسيحية الكثير مما تقوله عن النفس أيضاً؛ غير أنَّ النفس عند الأكويني هي “شكل” الجسد، تقترن به كاقتران المعنى بالكلمة. وهذا ما تبنّاه فيتغنشتين في مراحله اللاحقة، حيث عبّر مرّةً عن أنّ الجسد هو أفضل صورة لدينا عن النفس. ولقد كان الكلام على النفس أمراً ضرورياً بالنسبة لأولئك الذين واجهتهم مادية ميكانيكية لا تقيم أي فارق بين الجسد البشري وقرن من الموز؛ فكلاهما، في النهاية، شيئان ماديان. وفي هذا السياق، كنتَ تحتاج إلى لغة تسعى إلى التقاط ما يميّز الجسد البشري عن الأشياء المحيطة به، ولم يكن الكلام على النفس في أفضل أحواله سوى طريقة للقيام بذلك. لكن ذلك كان يفضي بسهولة إلى أثر عكسي، إذ يكاد أن يكون من المستحيل ألاّ تصوّر النفس كضرب شبحيّ من الجسد، وبذا تجد نفسك وأنت تزلّق شيئاً غامضاً ومشوَّشاً داخل شيء جسديّ كطريقة لتفسير فرادة هذا الأخير. والحال أنَّ اختلاف الجسد البشري عن مرطبانات المربّى وفراشي الأسنان لا ينجم عن أنه يفرز كياناً شبحياً تفتقر إليه المرطبانات والفراشي، بل يختلف عنها لأنه مركزٌ يمكن لهذه الأشياء أن تُنَظَّم انطلاقاً منه في مشاريع ذات دلالة. فهو، بخلافها، مبدع وخلاّق، كما يُقَال؛ ولو كانت لدينا لغة تستطيع أن تلتقط على نحوٍ كافٍ هذا الإبداع الجسدي لعلنا ما كنا بحاجة أصلاً إلى الكلام على النفس.

وما يميّز الجسد البشري، إذاً، ليس سوى قدرته على تغيير ذاته في سيرورة تغيير الأجساد المادية المحيطة به. وهذا ما يعنيه القول إنّ الجسد البشري متقدّم على تلك الأجساد، وإنه نوع من “الفائض” عليها وفوقها وليس شيئاً ندرجه إلى جانبها. وإذا ما كان الجسد ممارسة تغيّر ذاتها، فذلك يعني أنه غير متطابق مع ذاته على طريقة الجثث والسجاجيد. وهذا ما كانت لغة النفس تحاول أن تقوله، على الرغم من رؤيتها لهذا اللا تطابق في امتلاك الجسد فائضاً غير مرئي هو أنا الواقعي، وذلك بدلاً من أن ترى إلى أنا الواقعي كتفاعل إبداعي مع عالمي، هذا التفاعل الذي صار ممكناً بفضل النوع الخاص الذي امتلكه من الجسد. وهكذا فإن من غير الممكن أن يُقال إن لدى بنات عرس أو السناجب أنفساً، مهما بدت لنا ساحرةً وأخّاذة، وذلك لأن أجسادها ليست من النوع الذي يعمل على العالم بتلك الطريقة المعقدة التي تُدْخِلُها بالضرورة في مُشْتَرَكٍ لغوي مع بني جلدتها. فالأجساد التي بلا أنفس هي تلك الأجساد التي لا تتكلم، أو على الأقل تلك التي لا تدلّل. أمّا الجسد البشري فهو الجسد القادر على أن يصنع شيئاً مما يصنعه، وإلى هذا الحدّ فإن نموذجه هو تلك العلامة الأخرى على إنسانيتنا، أي اللغة، ذلك المُعطى الذي لا ينفكّ يولّد ما هو غير متوقَّع أو مُنْتَظَر.

من المهمّ إذاً أن نرى، كما لا تفعل ما بعد الحداثة بوجه عام، أننا لسنا مخلوقات “ثقافية” أكثر منّا مخلوقات “طبيعية”. فنحن كائنات ثقافية بفضل طبيعتنا، أي بفضل ضروب الأجساد التي نمتلكها ونوع العالم الذي تنتمي إليه هذه الأجساد. ولأننا جميعاً نولد خُدَّجاً، غير ناضجين وبلا قدرة على رعاية أنفسنا، فإنَّ طبيعتنا تشتمل على هوّة فاغرة لا بدّ أن تهرع إليها الثقافة في الحال، وإلاّ لكنّا سرعان ما نموت. وهذه النقلة باتجاه الثقافة هي روعتنا وكارثتنا في الوقت ذاته. ولقد كان هذا السقوط، شأن كلّ ضروب السقوط المثلى، سقوطاً حسن الطالع، سقوطاً إلى الحضارة وليس سقوطاً في البهيمية. فالحيوان اللغوي له ميزة على جميع أقرانه من المخلوقات الأخرى، إِذْ يمكنه أن يسخر أو ينفخ في البوق، وأن يعذّب الأطفال ويخزّن الأسلحة النووية. واللغة هي ما يعتقنا إلى حدٍّ ما من قيود بيولوجيتنا المملّة، وهي ما يمكّننا من أن نجرّد أنفسنا عن العالم (الذي يشتمل على أجسادنا)، وبذا تمكّننا من أن نغيّره أو أن ندّمره. واللغة تحررنا من سجن حواسنا، وتشكّل طريقة سهلة تماماً لأن نحمل معنا العالم من حولنا. والحيوان اللغوي وحده يمكن أن يكون له تاريخ، بخلاف ما نتصوره لبزّاقة من تكرّرٍ للشيء اللعين ذاته مرّة بعد مرّة. (ربما كان عليَّ أن أقول، دون أن تكون لديَّ أية رغبة في أن أتفضّل على البزّاقات، إن هذه الأخيرة هي بلا شك كائنات رائعة الذكاء على طريقتها، وربما تكون رفيقاً رائعاً أيضاً، إلا أن وجودها، منظوراً إليه من الخارج، يبدو تافهاً ومملاًّ). ولأنّ الحيوان البشري يمتلك لغة، فإنه في خطرٍ من أن يتطور بسرعة فائقة، دون أن تقيده استجاباته الحسيّة، مما يدفعه إلى أن يتخطى ذاته ويصل بها إلى العدم. وهكذا فإن الوجود البشري هو وجود مثير لكنه محفوف بالمخاطر، أما حياة البزّاقة فهي حياة رتيبة لكنها آمنة. فالبزّاقات والقنادس لا تستطيع أن تطعن بعضها بعضاً بالسكاكين، اللهم إلا إذا كانت تفعل ذلك خفيةً، وهي في الحالين لا تستطيع أن تمارس الجراحة. أما المخلوق الذي حُكِمَ عليه بأن يعني فهو حيوان في خطر دائم. فمن خصائص طبيعتنا أننا قادرون على بلوغ ما هو وراءها، كما أن من خصائص نظام اللغة أن تكون قادرة على توليد أحداث تُعْرَف باسم أفعال الكلام يمكنها أن تتجاوز النظام ذاته. وما الشعر سوى مثال على ذلك.

ولأن أعصاب الفكر ما بعد الحديث تُثَار مما هو طبيعي، ما لم يكن بصورة غاباتٍ مطرية، فإنّ هذا الفكر ينزع إلى إغفال كيف يقع البشر بين مطرقة الثقافة وسندان الطبيعة (هذا الوقوع الذي يحظى بأهمية بالغة بالنسبة للتحليل النفسي)، كما ينزع إلى ردّ البشر إلى الثقافة وحدها واختزالهم إليها دون تردد أو تأمّل. فالثقافوية هي شكل من أشكال الاختزالية شأنها شأن البيولوجية أو الاقتصادية، هاتان الكلمتان اللتان تدرّب ما بعد الحداثيين جميعاً على التكشير عن أنيابهم مثل مصّاص الدماء ما إن تصلان مسامعهم. والحقّ أنّ الجسد هو المؤشّر الملموس على هذه البينيّة أكثر من أي مؤشّر آخر، ربما أكثر من اللغة ذاتها، والتي هي أيضاً واحدة من فعاليات جنسنا لكنها تبدو أقرب إلى الثقافة وفي صفّها. فإذا ما أُحِلَّ خطاب الجسد محلّ خطاب النفس، كان بمقدورنا أن نرى الغاية من ترك الكلام على امتلاكنا جسداً وإحلال الكلام على كوننا جسداً محلّه. فحين يكون جسدي شيئاً أستخدمه أو أمتلكه كما أستخذم فتّاحة العلب أو أمتلكها، قد يُظَنّ أنّ ثمة حاجة إلى جسد آخر داخل هذا الجسد كيما أقوم بذلك الاستخدام، وهكذا دواليك في عملية نكوص لا نهاية لها. غير أنّ هذه المناهضة الحازمة لمنطق الثنائيات، على الرغم من فائدتها من بعض النواحي، لا تنطبق على كثيرٍ من حدوسنا المتعلقة بكومة اللحم التي نجرّها معنا. فثمة معنى كامل وتام في قولي إنني أستخدم جسدي، كما حين أمدّه بشجاعة جسراً فوق فالق عميق كيما يعبر رفاقي إلى برّ الأمان. ونحن لا نكفّ طوال الوقت عن إضفاء طابع موضوعي على أجسادنا وعلى أجساد الآخرين، فذلك بعد ضروري من أبعاد كينونتنا. وما بعد الحداثة مخطئة تماماً إِذْ تعتقد، مع هيغل وليس مع ماركس، أنّ كلّ إضفاء للطابع الموضوعي هو نوع من التغريب والاغتراب. صحيح أنّ كثيراً من حالات إضفاء الطابع الموضوعي التي يمكن الاعتراض عليها هي كذلك؛ غير أنّ من الصحيح أيضاً أنّ الأجساد البشرية هي موضوعات مادية بالفعل، ولو لم تكن كذلك لما كانت لتُطْرَح مسألة العلاقة بينها. ومع ذلك فإنَّ كون الجسد البشري موضوعاً ليس سمته الأساسية المميزة بأي حال من الأحوال، وإنما هو الشرط لكل ما يمكن أن يجترحه من إبداع. وما لم يكن بمقدورك أن تضفي الطابع الموضوعي عليّ، فإن من غير المكن الكلام مع تبادلٍ بيننا.

وفي حين يعيدنا ميرلوبونتي إلى الذات الجسدية، إلى طبيعة الكينونة المتوضّعة المجسَّدة، فإنّ الرواية التي يرويها زميله جان بول سارتر عن الجسد هي رواية أقلّ تفاؤلاً وبهجة، إذ يرى الجسد بوصفه “الجانب الخارجي” من ذواتنا والذي لا يمكن لنا أبداً أن نحكم قبضتنا عليه، وبوصفه تلك الآخرية التي لا يمكن السيطرة عليها وتهدّد بأن تعرّضنا لتحديقة المراقِب التي تشلّنا وتصعقنا. فسارتر مناهض للديكارتية بما يكفي في فكرته عن الوعي البشري بوصفه مجرّد فراغ توّاق، غير أنه ديكارتي بما يكفي أيضاً في إحساسه بالفجوة التي لا اسم لها والتي تفصل العقل عن الأعضاء. فحقيقة الجسد لا تكمن، كما يحلو لليبراليين أن يعتقدوا، في مكان بينيّ ما، بل في التوتر المستحيل بين هاتين الطبعتين من الجسدية، المبررتين كلتيهما من الناحية الظاهراتية. فليس صحيحاً تماماً أنني أمتلك جسداً، وليس صحيحاً تماماً أيضاً أنني جسد. وهذه الورطة نجدها في كل مكان من التحليل النفسي، الذي يعترف أنّ الجسد تبتنيه اللغة، لكنه يعرف أيضاً أنّ الجسد لا يمكن أبداً أن يكون مرتاحاً تماماً هناك. فبالنسبة لجاك لاكان، يُفْصِحُ الجسد عن نفسه بالدواليل(5) فلا يلبث أن يكتشف أنها تخونه. فالدّال المتعالي الذي يفترض به أن يعبّر عن كامل مطلبي، والذي يضع عليه الختم النهائي ويطلقه إليك تاماً وكاملاً، هو ذلك الانتحال الذي يُعْرَف باسم القضيب (الفالُس)؛ ولأن هذا الأخير لا وجود له، فإنّ رغبتي الجسدية محكوم عليها بأن تتلمس طريقها الوعر من دالول جزئي إلى دالول جزئي، منتثرة ومتشظية أينما مضت.

ولعلَّ هذا هو السبب الذي دفع الرومانتيكية لأن تحلم بـ كلمة الكلمات، بخطابٍ مكينٍ كما اللحم، أو بجسد يتمتّع بكل التوفّر والتيسّر الكوني الذي تتمتّع به لغة دون أن يضحّي بأيّ شيء من جوهره المحسوس. وبمعنىً ما فإنّ النظرية الأدبية المعاصرة، بكلامها المهتاج على مادية النصّ، وما تقيمه من تبادلات مستمرة بين الجسمانيات والسيميائيات، هي الطبعة الأخيرة من هذه الرؤية، بأسلوب ما بعد حديث أُزيلت عنه الأوهام على النحو الملائم. فكلمة “ماديّ” هي واحدة من الكلمات ذات الطنين الهائل في هذه النظرية، وهي صوت تنحني أمامه كل الرؤوس التقدمية بالتبجيل والإجلال؛ لكنها مُطَّت الآن إلى حدٍّ لم تَعُدْ تنطوي فيه على أي معنى معقول. فحين يصبح حتى المعنى مادياً، فإن الأشياء قاطبةً تصبح مادية، ولا يعود ثمة فائدة ترجى من هذا المصطلح. إنّ الجسمانيات الجديدة تعيدنا إلى المخلوق والكائن في عالم مجرَّد، وهذا واحد من مآثرها الباقية؛ غير أنها إِذْ تطرد الشبح من الآلة، تخاطر بأن تبدو الذات نفسها بوصفها مجرد أسطورة إنسانوية. وهي إِذْ تفعل ذلك، إنما تولّي الأدبار أمام إنسانوية ليبرالية قدّمت عن الذات أفكاراً قاصرةً حقّاً وعلى نحوٍ خطير؛ ولذا فإنّ ما سنلتفت إليه الآن هو هذه المعركة الحامية الطويلة بين الليبرالية وما بعد الحداثة.

ليس ثمة من يشكّ أيّما شكّ بما يبتغيه البشر جميعاً من رجال ونساء، إنّما الشكّ هو بما يعنيه ذلك. فما يبتغيه كلّ إنسان هو السعادة، على الرغم من الرأي المتهكّم الذي عبّر عنه ماركس ونيتشه من أن الإنجليز وحدهم من يرغبون في ذلك. فهذا الرأي كان صفعة لتلك الطبعة الهزيلة من السعادة التي اعتنقها النفعيون الإنجليز الذين رأوا في السعادة قضية بسيطة وغير إشكالية في جوهرها، وأنّ من الممكن اختزالها إلى اللذّة في حقيقة الأمر. والحال أنّ تحقيق السعادة قد يرتّب عليَّ في بعض الأحيان أن أشيح بوجهي عن اللذائذ العابرة قصيرة الأمد؛ ولو أنّ السعادة لم تكن فكرة عويصة ومبهمة لعلّنا ما كنّا لنزعج أنفسنا بتلك الخطابات المعقدة التي تُعْرَف باسم الفلسفة الأخلاقية أو فلسفة الأخلاق، والتي تقوم إحدى مهامها على تفحّص فيم تكمن سعادة الإنسان وكيف يمكن تحقيقها.

لقد بزغ فجر الحداثة في اللحظة التي بدأنا ندرك فيها أنّ هنالك طبعاتٍ كثيرة متضاربة من الحياة الحسنة؛ وأنّ من غير الممكن إقامة أيٍّ من هذه الطبعات على أساس لا يمكن التشكيك في صحته؛ وأننا –وياللغرابة- لم نعد قادرين على الاتفاق على معظم القضايا الأساسية في هذا المجال. وأقول “يا للغرابة” لأنّ المرء قد يحسب أنه كان من الممكن أن نتفق على الأسس ثم نختلف على الجزئيات. غير أن الاتفاق الذي يكاد يشمل الجميع على أنّ أكل البشر أمر خاطئ، أحياء على الأقل، لا يضمن أن نتمكّن من الاتفاق على السبب الذي يدفعنا للاتفاق على ذلك. فمع انطلاقة الحداثة تدخل البشرية للمرة الأولى ذلك الشرط الاستثنائي، الذي أصبح الآن أمراً طبيعياً تماماً في أذهاننا، والذي نخفق فيه في أن نتّفق على جميع المسائل الحيوية؛ وهو شرط ما كان يمكن تخيّله بأية صورة من الصور بالنسبة لبعض القدماء، ويبدو كأنه يحبط مقدَّماً كلّ إمكانية لبناء حياة مشتركة.

أما الثمرة السياسية لهذا الشرط فهي الليبرالية. فحين تكون هنالك تصورات كثيرة مختلفة بشأن ما هو حسن، فإن من الواجب أن تُبنى الدولة على نحوٍ يمكّنها من أن تتبنّى جميع هذه التصورات. فالدولة العادلة هي دولة حيادية حيال أيّ تصوّر محدَّد للحياة الحسنة، فتقصر نطاق سلطانها على توفير الشروط التي تمكّن الأفراد من أن يكتشفوا الحياة الحسنة بأنفسهم. وهي تفعل ذلك بضمانها لكلّ فرد من الأفراد ما يُدعى بالحسنات الأولية الضرورية لمثل هذا الاستكشاف، بينما تؤمن لهم الحياة في هذه الأثناء كي لا تقيدهم أفعال الآخرين في مشروعهم هذا بغير وجه حقّ. وثمّة جدال بين الليبرتاريين(6) من جهة والليبراليين من أنصار دولة الرفاهية من جهة أخرى حول المدى الذي ينبغي أن تطوله هذه المبادرة السياسية. هل ينبغي أن تمتد، كما يعتقد الرفاهيون، إلى المساعدة في الحفاظ على حياة الناس، إذ أن سعي هؤلاء وراء الحياة الحسنة سيكون مُعَاقاً على نحوٍ ميئوسٍ منه بغير ذلك، أم أنّ هذه المساعدة ذاتها تشكّل انتهاكاً وقحاً لحريتهم؟ ومهما يكن من أمر هذا السجال، فإنه يبقى من الواجب أن يتلقى كلّ فرد اهتماماً متساوياً بهذا الصدد، لأن لكلّ فرد حقّه في الحياة الحسنة شأن أي فرد آخر. غير أنّ الحياة الحسنة لا يمكن تعريفها مسبقاً، وأحد أسباب ذلك هو  وجود طبعات مختلفة من هذه الحياة، أما السبب الآخر فهو أن اكتشاف المرء لها أو خلقها بنفسه قد يكون جزءاً منها في حقيقة الأمر. وبالنسبة للحداثة فإنّ أيّ حُسْنٍ لم أصادق عليه وأمنحه ثقتي بصورة شخصية هو أقلّ حسناً مما ينبغي له أن يكون.

ولقد غدت الحياة الحسنة الآن شأناً خصوصياً، أمّا العمل اللازم لتمكينها من الوجود فقد بقي شأناً عاماً، وذلك في نقلةٍ ما كان يمكن لكثير من القدماء إلا أن يرونها مدهشة وغريبة. ذلك أن كثيراً من المنّظرين القدماء ما كان بمقدورهم أن يتصوروا أيّ فصل مثل هذا الفصل بين ما هو أخلاقي وما هو سياسي. وإيديولوجيا الإنسانوية المدنية أو الجمهورية ترى كّلاً من هذين الأمرين في ضوء الآخر؛ فأن أعيش الفضيلة، وأن أحقق قدراتي وقواي ككائن مقرّر لمصيره، يعني من بين ما يعنيه أن أُسهم مع آخرين في استمرار المدينة- الدولة، فلا وجود لفضيلة خصوصية، ولا لتصورٍ للحياة الحسنة التي تقتصر عليَّ وحدي.

والفكرة الليبرالية عن الدولة هي فكرة تنطوي على مفارقة واضحة، الأمر الذي يعترف به مقرّظوها الأشدّ تعصّباً. فالقول بأن على الدولة أن تكون حيادية حيال ما هو حسن ينطوي بصورة لا مفرّ منها على تأكيدٍ على تصوّر معين لهذا الحسن، وبذا لا يكون ثمّة حياد مطلقاً. بل إن ذلك لينطوي أيضاً على تحديد أو تعريف معين لما هو سييء؛ أي أنه ينطوي على تعريف لأيّ “حسن” يُسعى وراءه فردياً أو جماعياً ويتبيّن أن عواقبه تضرّ بحياد الدولة الأخلاقي. فمن ضرورات كمال الدولة الليبرالية أن ترضي كلاًّ من الاشتراكيين والمحافظين؛ غير أنها لا تستطيع في الحقيقة أن تنظر بحياد وعدم اكتراث إلى مشروعيهما، ذلك أنّ تحققّهما قد يقوّض حيادها الخاص وعدم اكتراثها. ويمكن القول، هنا، إنّ الدولة الليبرالية ذاتها ضَرْبٌ من “الذات”، لها رغباتها وكراهاتها الخاصة بها، حتى وهي تتصوّر ذاتها على أنها ليست سوى الشروط المسبقة غير الذاتية لذاتيتنا. ولأن لا مناص لبناها ذاتها من أن تولّد مصالح معادية لهذه البنى، فإنها ليست حيادية بقدر ما هي متسامحة وطويلة الأناة، والتسامح وطول الأناة فضيلة لا يمكن إلا للذوات أن تمارسها.

غير أن هذا الأمر لا ينبغي أن يُخْلَط بينه وبين الدعوى اليساروية الجاهزة المعتادة التي ترى أن الحياد والابتعاد عن المصلحة ليس سوى قناع مشبوه يُلقى فوق مجموعة من المصالح. فابتعاد الدولة الليبرالية عن المصلحة هو مصلحة بحدّ ذاته وبكلّ وضوح، وما من سبب لأن يخجل الليبرالي من ذلك. فعدم اكتراثي حيال عذاباتك ليس قناعاً ألقيه على موقفي الحقيقي منك؛ إنّه موقفي الحقيقي منك، وليس موقفاً أحمل نفسي عبء التظاهر والمنافقة به. فأنا لا أكترث بعذاباتك لأنني أعتبر أنّ من أهمّ مصالحك أن أكون كذلك؛ ومن ثمّ فإنّ من حولنا الكثير الكثير من فاعلي الخير الذين لا ينقصهم التطفّل والتدخّل فيما لا يعنيهم. وهكذا فإن مصلحة الدولة الليبرالية تكمن في أن تكون هذه الدولة، ضمن حدود صارمة معينة، بعيدة عن المصلحة حقّاً وعلى نحوٍ أصيل، فلا تهتم بما يطلع به الشعب من الأشياء الحسنة، لأنها تعتقد أن لا حقوق لها في هذا الأمر وأن هذا الموقف هو الموقف الأخلاقي الصائب الذي يجب تبنيّه. وقد يكون ثمة مفارقة في كون هذا الابتعاد عن المصلحة شكلاً من المصلحة، لكن ذلك لا ينطوي بالضرورة على نفاق أو تناقض داخلي. وما ينبغي أن تُقَرَّع عليه الدولة الليبرالية، من وجهة نظر المذهب الجماعيّ، ليس أنها تدّعي عدم الاهتمام بينما تهتمّ خفيةً، وإنما أنها لا تهتمّ فعلاً في حين ينبغي عليها أن تفعل ذلك. فالجماعوي يطالب بأنّ على الدولة أن تُعنى بتعريف الحياة الحسنة وتحديدها على نحوٍ أشدّ فاعلية، إلا أنه يعترف بأن هذه الدولة تهتم كثيراً بخلق الشروط المسبقة لهذه الحياة، وذلك لأنها تثّمن الازدهار الفردي، ولأنها تؤمن إيماناً حماسياً بأن الابتعاد عن المصلحة، الذي يعني عدم التمييز بين الأفراد في تصورهم لماهية الازدهار، هو الطريقة الفضلى لتعزيزه من جميع النواحي.

وبهذا الصدد، إن لم يكن بغيره أيضاً، فإنّ الليبرالية مذهب ينطوي على مفارقة لكنه ليس بعيداً عن التماسك، الأمر الذي يُسْقِط بعض الانتقادات اليسارية الشائعة التي توجَّه لها، وكذلك بعض الاحتجاجات التي أضحت مألوفة إلى حدّ الإملال ضد فردانيتها. فالليبرالية هي نوع من الفردانية بالفعل، غير أنّ اليسار قد اعتاد على أن يسيء معرفة المستوى الذي يتحدّد عليه ذلك. فحين نجعل من الليبرالية دريئة من القشّ تسهل إصابتها، فإننا نراها برّمتها على أنها ترفع من شأن تصوّرٍ للذات هو تصوّر هوبزيّ بدائيّ يرى إلى هذه الذات بوصفها ذرّة طبيعية عارية سابقة على شروطها الاجتماعية، ومرتبطة بغيرها من مثل هذه الذرات اللا- اجتماعية عن طريق مجموعة من العلاقات التعاقدية المحضة الخارجية بالنسبة لجوهرها الداخلي. ومع أنّ هذا الأمر ليس بالأمر المسلّي كثيراً، إلا أن البعض من ما بعد الحداثيين يتصورون أن هذا ما ينبغي أن يكون مقتنعاً به جميع الليبراليين تبعاً لتعريف الليبرالية ذاتها. فتاريخ الفلسفة الغربية، كما يُراد لنا أن نقتنع، ليس بوجهٍ عام سوى رواية هذه الذات المستقلة تماماً، والتي تتعارض مع الذات المشتتة المنقسمة في الأرثوذكسية ما بعد الحديثة السائدة. والحقّ أنّ هذا التشويه الجاهل والدوغمائي للفلسفة الغربية لا ينبغي أن يمرّ بسلام. فالذات عند سبينوزا ليست سوى وظيفة لحتمية عنيدة وراسخة، و “حريتها” ليست سوى معرفة الضرورة الصارمة. والذات عند ديفيد هيوم ليست سوى قصة خيالية مريحة، حزمة من الأفكار والتجارب التي لا يمكن لوحدتها سوى أن تكون مفترضة افتراضاً. أمّا ذات كانط الأخلاقية فهي مستقلة ومقررة لمصيرها بالفعل، إلا أنها تقع بصورة غامضة على طرفي نقيض مع تعيّنها التجريبي. والذات علائقية حتى العظم عند شيلنغ وهيغل وغيرهما من المثاليين، وكذلك عند ماركس أيضاً؛ أما عند كيركيجارد وسارتر فالذات غير متطابقة مع ذاتها مما يفسح المجال أمام القلق والخوف، وهي عند نيتشه ليست أكثر من زبدٍ على موج إرادة القوّة كلّية الحضور. هذا، إذاً، بالنسبة للسردية الكبرى الخاصة بالذات الموحَّدة. فوجود مثل هذا الشيء الذي ينتاب الفكر الغربي ليس أمراً موضع سؤال في حقيقة الأمر؛ غير أنَّ الحكاية بعيدة عن التجانس أكثر بكثير مما يريد أن يقنعنا به بعض ما بعد الحداثيين المتعصبين للتغاير والاختلاف. فلا حاجة بالتقليد الليبرالي لأن يطرح فرادنية أونطولوجية معينة، ويمكن لأي ليبرالي رصين بما يكفي أن يوافق على أنّ الذات مبنية ثقافياً ومشروطة تاريخياً؛ وما يمكن أن يلحّ عليه هذا الليبرالي ليس ضرباً من الأنثروبولوجيا الفلسفية بقدر ما هو مذهب سياسي يُعنى بحقوق تلك الذات في وجه سلطة الدولة. كما أنّ ما من سبب أيضاً لأن يتمّ تصوّر هذه الحقوق على الدوام ذلك التصور الطبيعي، شبه الروسّوي والبعيد عن الاحتمال. ذلك أنّ “الحقوق” قد لا تشير إلى أكثر من تلك الحاجات والمقدرات الإنسانية بالغة الحيوية فيما يتعلّق بازدهارنا وسعادتنا بحيث تشعر الدولة أنها مضطرة لأن تكلأها برعاية وحماية مميزتين.

غير أنَّ الليبرالية تظلّ، على الرغم من كلّ هذا، نوعاً من الفردانية، الأمر الذي تثبته نظريتها السياسية. وما هو خاطئ في ابتعاد الدولة الليبرالية عن المصلحة ليس أنها تضع قناعاً مريباً فوق مصلحة معينة، وإنّما أنها تقدّس مصلحة معينة على نحوٍ صريحٍ تماماً، هي مصلحة الخيار الفردي بالغة الأهمية بالنسبة لها. والعيب فيها لا يكمن في أنّ لديها تصوراً عمّا هو حسن تخفيه عن الأعين خلسةً وعلى نحوٍ ماكر، بل يكمن في أنّ لديها فكرة أحادية الجانب إلى حدٍّ مخيف عمّا هو حسن وفي أنها ترى أنّ كلّ الحسنات الأخرى ينبغي أن تخضع له دونما اعتراض. وهنا يمكن بالفعل أن نتهمها بعدم التماسك. فأن تفرز حقّاً وتخصّصه هو أمر ينطوي، كما يرى تشارلز تايلور، على وجوب رعاية القدرة التي يحميها هذا الحقّ بصورة إيجابية وفاعلة؛ فمن الغريب والشاذّ أنّ نُفْرِدَ حاجةً أو قدرةً ما على هذا النحو ثمّ نفرح بلا مبالاتنا حيال ازدهارها أو عدمه. غير أن هذا ينطوي بدوره على تعزيز، عبر إسهامنا السياسي، لذلك النوع من النظام الاجتماعي الذي يتيح لذلك أن يحصل، الأمر الذي يمكن اعتباره بمثابة تكذيب للزعم الليبرالي الخاص بأولوية الحقوق السياسية*.

إننا نغوص هنا في الخلاف الكبير بين الأخلاقيين والغائيين، بين الكانطيين والنفعيين، المدافعين عن أولوية الحقوق والعدل في وجه حملة مشاعل الفضيلة والسعادة. فالمنظّرون الأخلاقيون، مثل كانط أو الباحث الليبرالي المعاصر العظيم جون راولز، يعطون الأولوية للحقّ على الحسن والخير، وللعدل على السعادة، في حين أنّ الأخلاقيين الغائيين كالماركسيين، والنفعيين، والجماعويين يعتقدون أنّ السعادة أو الحياة الحسنة هي التي ينبغي أن تكون في بؤرة اهتمامنا، وأنّ الكلام على الحقوق لا يكون له معنى إلا ضمن هذا السياق. ويرى أخلاقي أصيل مثل كانط أن الأفعال تكون صحيحة أو خاطئة بصورةٍ مستقلة تماماً عمّا إذا كانت قد فُعِلَتْ لتعظيم السعادة الإنسانية أم لا، في حين يرى النفعيون، بصورة عامة، أنّ الفعل الصحيح ليس سوى هذا التعظيم ذاته. وبالنسبة لكانط، فإنني حين أتفكّر في الآثار النفعية المحتملة لفعلي إنّما ألوّث نقاءه الأخلاقي؛ أو بالنسبة لصنف من النفعية العنيدة فإنّ ما يهمّ هو الارتقاء بالرفاه العام حتى لو اقتضى ذلك أن يُضحّى بحرية أفراد معينين أو برفاههم. ولا شك أن جميع ضروب التوازن ممكنة بين الحالتين؛ فربما يوافق معظمنا على أن هنالك حدوداً لما يمكن أن يُطْلَب من فردٍ لصالح الخير العام، فخير كلّ شخص هو أمر مهمّ، كما يقول راولز، وعلى نحوٍ يحدّ من السعي وراء الخير ككل؛ غير أنَّ كثيرين منّا قد يجدون من المقنع أيضاً أن تتم المطالبة الغائية بأن يعنى الخطاب الأخلاقي بما هو أكثر من الشروط المسبقة للحياة الحسنة –كالتوزيع المتساوي للحرية، مثلاً- بل وأن يتحرّى على طريقة القدماء الكلاسيكية أين يمكن أن تكمن الحياة الحسنة وما هي أفضل السبل لضمانها. ولقد قيل، مثلاً، إنّ ماركس هو “أخلاقي مختلط” فهو يرى الخير الأخلاقي بوصفه ارتقاءً بالرفاه العام، ولكن على ألاّ يكون ذلك، مثلاً، على حساب القاعدة الأخلاقية التي تقول إن للبشر جميعاً، رجالاً ونساءً، حقّ المساهمة في هذه العملية*.

وثمّة نقد اشتراكي شائع للّيبرالية يستحقّ أن نذكره بإيجازٍ هنا قبل أن ننتقل إلى نقودات لهذا المذهب أقلّ شيوعاً. ويتمثّل هذا النقد في أنّ الليبرالية تنطوي على تناقض داخلي بالفعل من وجهة نظر معينة، ذلك أنّ الشروط التي يُقْصَد منها أن تضمن الحياة الحسنة تعمل هي ذاتها على تقويض هذه الحياة. فما دامت الحقوق الفردية تشتمل أساساً على حقوق الملكية (بخلاف ما هو عند راولز كما يبدو)، فإنّ الدولة الليبرالية لا بدّ أن تسفر عن ضروب من الاستغلال واللامساواة تحبط السعي وراء الحياة الحسنة التي قُصِدَ الارتقاء بها. فواقع الحال أنه لن يُتَاح للجميع أن يملكوا المحاسن والخيرات الأولية الضرورية لأن يشقوا طريقهم نحو السعادة. فبعضهم سيكون محروماً من الموارد المادية والروحية الضرورية، بما في ذلك تقدير الآخرين الذي يمكن القول إنّه مقوّم أساسي من مقوّمات الرفاه البشري. ولأن هذا النقد هو نقد متماسك لا سبيل إلى دحضه، فإنني لن أتوقف عنده هنا؛ يكفي أن أقول إنَّ راولز، في كتابه المهيب نظرية في العدل، لم يُشِر إلى الاستغلال سوى مرّة واحدة، وذلك في هامشٍ أيضاً وليس في متن الكتاب. غير أنّ نوعاً مختلفاً من نقد الليبرالية قد ظهر مؤخّراً من طرف مفكّرين جماعويين مثل تشارلز تايلور وألاسداير ماكنتير، علماً أنّ الأول كاثوليكي مرتدّ والآخر مهتدٍ حديث إلى الكاثوليكية، في نوعٍ من التناظر اللطيف. وهذا الموقف، الذي يتمثّل في حالة ماكنتير في مَزْجٍ أخّاذ بين أرسطو والأكويني وفيتغنشتين، يبحث في جذور الذات الثقافية والتاريخية، وفي تجسيدها في التراث وفي الجماعة، ثم يأخذ من موقعه الممتاز هذا بتقريع ما يعتبره ذرّيةً تنويرية مجردة لدى الذات الليبرالية، بأخلاقياتها اللا تاريخية، والكونوية على نحوٍ مشبوه*.

لقد أشرتُ من قبل إلى أنّ ما من سببٍ لأن ينكر الليبرالي الحصيف الأطروحة الثقافوية. غير أنّ ما من سببٍ أيضاً لأن ينكر قيمة الجماعة، ذلك أنّ هذه الأخيرة هي حسن أو خير واضح يسعى وراءه كثير من الأفراد وينبغي على الدولة الليبرالية إذاً أن توفره وتتيحه. فتبعاً لتعريف ما هو ليبرالي، فإن البشر رجالاً ونساءً أحرار تماماً في أن يسعوا وراء غايات جماعوية، إذا ما كان ذلك هو شكل الحياة الحسنة الذي وقع اختيارهم عليه، وذلك شريطة ألاّ تشكّل الجماعوية جزءاً أساسياً لا يتجزأ من الدولة، إِذْ أنّ هذا قد يشكّل خرقاً فاضحاً لحقوق أولئك الذين يرغب الواحد منهم في أن يسعى وراء السعادة عن طريق الجلوس في غرفة معتمة وفوق رأسه كيس من الورق. حيث يمكن القول إنه إذا ما كانت الترتيبات السياسية من نوعٍ اشتراكيّ، أو إنسانويّ مدنيّ، أو جماعوي أو هابرمازيّ، مما يقتضي مني أن أُمضي قدراً كبيراً من الوقت في نشاطات جماعية وفي اتخاذ قرارات جماعية، فإنه لن يبقى لديَّ سوى القليل من وقت الصحو أقضيه في تجريب زيّ جلديّ بعد آخر في عزلة غرفة نومي؛ وإذا ما صادف أن كانت هذه هي الحياة الحسنة بالنسبة لي، فإنّ على الدولة ألا تتحامل عليّ بتلك الطريقة المتحيزة الأثيمة.

وباختصار، فإنه يتعيّن على الدولة ألاّ تصنّف الأشياء الحسنة والخيّرة على نحوٍ تراتبي؛ غير أنها من وجهة نظر اشتراكية قد فعلت ذلك أصلاً. فقد استبعدت أشكال الجماعة على مستوى بناها الخاصة، ولذا راحت تراقب كلّ حركة تحاول أن تدفع الأمور باتجاه مزيد من التحكّم التعاوني بالحياة الاقتصادية. ولا شكّ في أنّ مثل هذا الترتيب سيتعارض مع التصورات المنافسة المتعلقة بما هو حسن والتي يُفترض بالدولة الليبرالية أن تتيح لها المجال كيما تتفتّح وتزدهر. فليس من شغل الدولة أن تقضي بين التصورات المختلفة الخاصة بالسعادة. فهي ليس لها رأي في هذا الأمر إلاّ بقدر مالزرافة فيما إذا كان الوثب بمئزر جلدي أكثر أو أقلّ قيمة من الإدارة الديمقراطية للاقتصاد، فشأنها الوحيد هو ألاّ يشكّل أي تصوّر محدَّد للحياة الحسنة جزءاً لا يتجزأ من بناها الخاصة. ولأنّ الإدارة الاشتراكية للاقتصاد مستحيلة من غير ذلك، فقد أفلحت الدولة الليبرالية في استبعاد هذه الإدارة بينما هي تبدو وكأنها تحافظ على موقف حيادي تجاهها. فالدولة الليبرالية لا تستبعد الاشتراكية لأنها تعتبرها بلا قيمة، فهي لا رأي لها في مثل هذا الأمر. إنها تقصيها للأسباب التي أشرت إليها، مما يعني أن تحمل نفسها على تفضيل أيديولوجيا معينة، وهي تزعم بالطبع أنها ترفض أن تفعل ذلك، غير أن الأسس التي تنطلق منها في هذا الرفض هي ذاتها أيديولوجية: سيادة الخيار الفردي.

وإذا ما كانت الدولة الليبرالية في خشية من أن تحدّ الاشتراكية من تعددية الأشياء الحسنة المتاحة للأفراد، فإن من الممكن باعتقادي أن نبيّن أن هذه الخشية لا تقوم على أساس. فالاشتراكية، التي هي مثل فضيلة واسعة النطاق فلا يكون قيامها محتملاً إلا إذا كان المجتمع غنياً بما يكفي*،  لا بدّ أن تزيد إلى حدّ كبير من الحسنات والخيرات الأساسية المتاحة لكل فرد في سعيه وراء السعادة، وذلك بسعيها وراء إزالة العوز والحاجة. ومن ثم، فإنّ الاشتراكية لن تقتصر على بناء مؤسسات الجماعة دون أي إضرار بالحسنات والخيرات الأخرى المُخَتارة شخصياً، بل ستوسّع فعلياً من نطاق هذا الاختيار الشخصي، عن طريق تقصير يوم العمل (مثلاً) وبذا زيادة الوقت المخصَّص للرفاهية. وإنّ واحداً من أوجه الأسباب التي تدفع المرء لأن يكون اشتراكياً هو كرهه القيام بعمل زائد. وبهذا المعنى، فإنّ ما من تناقض بالنسبة للاشتراكية بين بنى اجتماعية أشدّ جماعية وبين تعددية في الحسنات والخيرات الشخصية، الأمر الذي يمثّل حلاًّ للصراع بين الجماعوي والليبرالي. ويمكن التعبير عن ذلك بطريقة أخرى أيضاً. فالسبب الذي يدفع الليبرالي لأن يعترض على الاشتراكية هو، من بين أسباب أخرى، خشيته من أن ينتهي الأمر بالجميع إلى الاعتقاد بالشيء ذاته، وإلى الاشتراك بالتصوّر ذاته بشأن الحياة الحسنة، مما يفقر حرية الفعل الفردي وتعددية الحسنات الممكنة إفقاراً قاتلاً. أمّا السبب الذي يدفع بالجماعوي لأن يعترض على الليبرالية فهو أنّ البشر في المجتمع الليبرالي لا يتشاركون أشكال الحياة المشتركة إلا على نطاق ضيق، وأنهم لهذا السبب بلا جذور، مذرّرون، دونما تَرِكَةٍ أو إِرْث. والحال أنّ الاشتراكية تجمع أفضل ما في الليبرالية وأفضل ما في الجماعوية بهذا المعنى أيضاً. فهي تشارك الأخيرة إيمانها بالتحديد الجماعي للمعاني والقيم، وكذلك إيمانها بالدور الذي يلعبه كلّ من الثقافة والتاريخ في تشكيل الذات؛ لكنها ترى أنَّ هذا التحديد الجمعي سوف يفضي إلى ذلك النوع من النظام الاجتماعي المتغاير والمتنوع الذي يثير كثيراً إعجاب الليبرالي، وليس إلى مجموعة من الجماعيات الأوتوقراطية، القطيعية التي يشير إليها بعض المنظّرين الجماعويين على نحوٍ يُنْذِر بالشؤم. ففي بعض الأحيان، تبدو نظرية هؤلاء على صعيد الممارسة وكأنها تعني أنك إذا ما دخّنت في الشارع أو اقترفت الزنا في بلداتٍ معينة، فإن جيرانك سوف يقفون بصورة جماعية عند مدخل بيتك ويوسعونك ضرباً.

والحقّ أن ما يخفي عن العيان حقيقة أن التشكيل الجمعيّ للقيم يعني المزيد من التعددية وليس الحدّ منها هو ذلك الالتباس الحاسم في عبارة “الثقافة المشتركة”. فالثقافة المشتركة يمكن أن تعني ثقافةً يتمّ تقاسمها على نحوٍ مشترك، أو ثقافة تتم صياغتها على نحو مشترك؛ وإذا ما كان الجماعويون يعتبرون أن هذا المعنى الأخير يتضمن الأول بالضرورة، فلا شك أنهم مخطؤون. فالحقيقة هي أنه إذا كان الجميع قادرين على الإسهام الفعلي في صياغة الثقافة، عبر مؤسسات الديمقراطية الاشتراكية ، فإنّ ثمرة ذلك قد تكون ثقافة أشدّ تنوعاً وتغايراً بكثير من ثقافة تجمعها معاً “رؤية للعالم” مشتركة. ولعلّ هذا ما كان يجول في خاطر ريموند وليامز حين كتب يقول إنّ “ثقافة مشتركة ليست ثقافة متكافئة على أيّ مستوى من المستويات… إن ثقافة مشتركة لن تكون، في أيامنا، ذلك المجتمع الكليّ البسيط الذي حلم به قديماً. بل سيكون تنظيماً بالغ التعقيد، ويتطلّب تعديلاً وإعادة رسم متواصلين… إن علينا أن نؤمنّ وسائل العيش، ووسائل العيش الجماعي. غير أننا لا نستطيع أن نعرف أو نحدّد ما سيعاش عندئذ بمثل هذه الوسائل”*. وإننا لنتوقّع لثقافة مشتركة أن تتشارك في قيم معينة لمجرّد أنها مشتركة؛ كأن تلتزم، مثلاً، بتعزيز ما يدعوه وليامز بـ “وسائل العيش الجماعي”. غير أنّ الثقافة إذا كانت مشتركة بمعنى اجتماع الإسهام الفاعل لجميع أعضائها، فإننا لنتوقّع بالمثل أن تخلق هذه الثقافة وقتئذٍ تعدديةً في القيم وأشكال الحياة. وبالنسبة للاشتراكي، كما بالنسبة للإنسانويّ الجمهوري**، فإنّ عملية المشاركة في الحياة السياسية هي فضيلة بحدّ ذاتها، ووسيلة حيوية يمارس المرء من خلالها تقريراً حرّاً لمصيره. وتعزيز المؤسسات السياسية التي ستتيح للحياة الحسنة، بالمعنى الشخصي، أن تزدهر، هو أيضاً جزء من الحياة الحسنة، والجانب الشكليّ من المضمون، فالسياسة ليست مجرد أداة لخلق شروط الرفاه الشخصي، وإنما هي أيضاً مثال من الأمثلة الكبرى على هذا الرفاه. وبالمقابل، فإن الفضيلة، بالنسبة للّيبرالي، مقصورة إلى حدّ بعيد على المجال الخصوصي، في حين يُعَدّ النطاق العام مسألة حقوق في المقام الأول. وهذا واحد من أسباب تلك القيمة الضئيلة التي تضفيها الليبرالية تقليدياً على الإسهام السياسي.

كما يمكن أن نرى في هذا درجةً من درجات حلّ الخلاف بين الأخلاقيين والغائيين، في المجال السياسي على الأقل. فالقول بأن النشاط السياسي ليس مجرد أداة للحسن والخير الخصوصي، وأنه ينتمي بدلاً من ذلك إلى ميدان الفضيلة، هو طريقة أخرى للقول إنّ الديمقراطية ليست مجرد شكل نختاره من أشكال الحكم بين أشكال كثيرة، ونحكم عليه من معايير نفعية، وإنما هي خير أخلاقي بحدّ ذاتها. وهي إلى هذا الحدّ شأنٌ أخلاقي وليس غائياً، فلا يمكن، مثلاً، أن تتمّ المقايضة بها بروحٍ نفعية لقاء زيادة أكبر في الخيرات والمحاسن المختلفة الأخرى. فنحن لا نختارها بديلاً للديكتاتورية لمجرّد أنها تبقي على الحانات مفتوحة لفترة أطول. وإذا لم تكن مثل هذه القرارات قراراتنا، كما تعلن الحداثة، فإنها تكون ضئيلة الشأن مهما تكن حصيفة ومتبصّرة. (يمكن النظر إلى الليبرالية إذاً على أنها تدفع هذا الأمر باتجاه حدٍّ شكلاني، ربما تكون الوجودية منه بمثابة المصادرة على المطلوب إذْ ترى أنَّ المهمّ ليس ما أختاره بل واقعة أنني أختاره. وهذا، باختصار ضرب من (الأخلاقية المراهقة). بيد أن الديمقراطية السياسية غائية أيضاً، لأن الحكم الديمقراطي لا يوجد من أجل أن يوجد وحسب. فهو يوجد من بين أشياء أخرى، وكما يقول لنا الليبرالي، كيما يتيح للرفاه الشخصي أن يزدهر. فالمجالان العام والخاص يبقيان مميّزين، كما يطلب الليبرالي أن يبقيا؛ لكنهما مرتبطان، كما لا يريد هذا الليبرالي أن يدرك، من خلال الممارسة المشتركة للفضيلة، سواء بشكل تقرير ديمقراطي للمصير أو بما يتيحه ذلك من سعي وراء السعادة الفردية.

وفي حين يمكن أن نرى أنّ الاشتراكية تجمع أفضل ما لدى الليبرالية وافضل ما لدى الجماعوية، فإنّ ما بعد الحداثة تجمع أسوأ ما فيهما. فهي تتميّز، بدايةً، باشتمالها على قدر مربك مما هو مشترك مع الجماعوية؛ ومصدر الإرباك هنا هو أن ريتشارد روتي وألاسداير ماكنتير لن يروقهما كثيراً أن يُقال لهما إنهما صورة مرآتية واحدهما للآخر من بعض النواحي. فما بعد الحداثة، شأنها شأن الجماعوية، لا تكاد تجد في التنوير سوى الأخطاء؛ كما أنها تعلي من شأن صياغة الثقافة والتاريخ للذات إلى درجةٍ يغدو عندها إخضاع هذه القوى إلى نقدٍ جذري منطوياً، كما رأينا، على قفزةٍ ما إلى فضاء خارجي ميتافيزيقي. والحقّ أنّ ثمة مشكلة مماثلة لدى الجماعويين، إنْ لم يكن أكثر من مشكلة، فيما يتعلّق بكيفية إخضاع معاييرها أو تقاليدها الجماعوية إلى رقابة ذاتية نقدية. كما أن هاتين العقيدتين هما صنفان من الثقافوية، يؤكّدان أنّ الفعل الصائب أو الحياة الحسنة لا يمكن تحديدها بمعزل عن الممارسات الثقافية التي حدث أن ورثناها. والذات بالنسبة لهذين المذهبين غارقة في تاريخ محليّ محض ضيق تماماً، وبذا فإنّ الأحكام الأخلاقية لا يمكن أن تكون كونية. فما تقوله الأحكام الأخلاقية لرورتي وأضرابه هو “نحن لا نفعل مثل هذا في هذه الأنحاء”؛ في حين أنّ ما يعنيه قول امرأة إنّ “التمييز بين الجنسين أمر خاطئ” هو عادةً أننا نفعل مثل هذا الشيء في هذه الأنحاء ولكن ما كان ينبغي أن نفعله*. وعلى أية حال فإنّ هذه المسألة تأخذ بالاهتراء وتنسّل حواشيها ما أن ندرك أنّ البشر يفعلون الكثير من الأشياء المتضاربة ضمن الثقافة الواحدة ذاتها، وأنهم غالباً ما يكونون قد ورثوا تقاليد متصارعة لا يمكن التسوية بينها. وبالمقابل فإن العرفية أو الجماعوية تحتاج لأن تبقي أشكالها الحياتية موحّدة تماماً، دون أية انقسامات داخلية خطيرة. ولاشكّ، بالطبع، أن ثمة اختلافات أساسية بين التيارين؛ فالليبرالية البرجوازية التي يؤيدها رورتي صراحةً لا تشترك بالشيء الكثير مع أرسطية ماكنتير الجديدة، كما أن الأولى مهيأة لأن تكون أشدّ سخرية حيال ولاءاتها قياساً بالثانية. غير أنّ الذات، عند وجهتي النظر هاتين، تكون في أفضل أحوالها حين تنتمي إلى مجموعة من الممارسات الثقافية المحلية، مهما تكن هذه الممارسات ذات طابع هجين بالنسبة لما بعد الحداثيين ومتجانسة ومتماثلة بالنسبة للجماعويين.

وهكذا فإن ما بعد الحداثة تدفع الموقف الجماعوي باتجاه ثقافوية غير متوازنة، وباتجاه نسبية أخلاقية وعداء للكليات، بخلاف اشتراكيةٍ تشاطر ذلك الموقف الجماعوي ما فيه من قيم إيجابية تخصّ الجماعة، والتاريخية، والعلائقية. بل إن النظرية ما بعد الحديثة لا تكتفي بذلك وإنما تتقدّم كيما تجمع كل ذلك إلى بعض الأوجه غير المستساغة من الليبرالية ذاتها والتي يرى فيها الجماعويون عدواً لهم. فهي لا تهتمّ كثيراً بالمسائل الليبرالية العظيمة كالعدالة، والحرية، والمساواة، وحقوق الإنسان وما شابه، فهذه المسائل لا تتلاءم مع نرفزتها من “الذات المستقلة”. ولأنّ أسباباً مماثلة تدفعها إلى الحذر من التصوّر القديم أو الإيجابي للحرية بوصفها تقريراً للمصير، فإنها تجد نفسها مضطرةً لأن تركن إلى الفكرة الحديثة أو السلبية عن الحرية بوصفها حريتك في أن تقوم بفعل أشيائك الخاصة دون أي قيد خارجي. غير أننا سبق أن رأينا أنها تدفع هذه الحرية إلى حدّ يتهدّد الذات بخطر الانفجار الداخلي فلا يبقى منها ما يكفي لاختبار الحرية المعنية أو عيشها. وبالمقابل فإن الذات الليبرالية الكلاسيكية كانت قد كافحت على الأقل من أجل أن تبقي على هويتها واستقلالها فضلاً عن تعدديتها، مع أنّ ذلك لم يكن بالأمر اليسير على الإطلاق؛ أما الآن، وفي تدهور وانحطاط عنيفين لتلك السيرورة، فإنّ الذات الخاصة بطور أكثر تقدماً من أطوار مجتمع الطبقة الوسطى مجبرة على أن تضحي بحقيقتها وهويتها على مذبح تعدديتها، تلك التعددية التي تطلق عليها من ثم اسم الحرية على نحوٍ ينشر التعمية والإبهام. وبعبارة أخرى، فإنّ الذات المنتجة النشطة الخاصة بالرأسمالية الليبرالية تخلي المكان للذات المستهلكة الخاصة بمرحلة لاحقة من ذلك التاريخ نفسه.

ولطالما كانت حرية الذات الليبرالية الكلاسيكية ملجومة، في النظرية على الأقل، باحترامها لاستقلال الآخرين. فمِنْ غير هذا الاحترام كان سيتهددها خطر الإفلاس والانهيار، لأن الآخرين ما كانوا ليحترمون استقلالها مِنْ غير ذلك. وحين لا يكون ثمة آخرون مستقلون، فإنّ حرية هذه الذات ستبرز حينئذٍ، في الاستيهام على الأقلّ، مقتحمةً الإطار السياسي –الحقوقي الذي احتواها مرّةً. وهذا بمثابة انتصار فادح الثمن، إذْ لا يعور هنالك أيضاً أيّة ذات موحّدة يمكن أن تنسب الحرية المعنية إليها. وإذا ما كانت الحرية تشتمل على انحلال الذات الموحّدة، فمن المنطقي ألا تكون حرية على الإطلاق. فكل ما ستبدو الذات متحررة منه هو ذاتها وحسب. وهكذا نكون قد وصلنا إلى نوعٍ من التحررية وحرية الإرادة دون ذات، مما يشير إلى أنّ ما كان يقف في طريق حرية الذات لم يكن سوى الذات ذاتها. وهذه صورة تنطبق كثيراً على المجتمع القائم، الذي تكون فيه حدود رأس المال هي رأس المال نفسه كما رأى ماركس، والذي يقدّم نفسه كثقافة محبطةٍ لذاتها على نحوٍ متواصل. فالذات المستقلة في هذا النظام الاجتماعي هي منبع الحرية والعقبة التي تعترض طريقها في آنٍ معاً، سواء في هيئتها هي ذاتها أو في هيئة منافسيها.

يمكن أن نتخيّل، إذاً، هذه الذات وهي تحلم بفكفكة هؤلاء الآخرين المستقلين المزعجين، حتى ولو كان ثمن ذلك النصر هو انحلال موافق يعتري هذه الذات التي تواجههم نفسها. أو بعبارة أخرى، أن نتخيّل الجميع وقد تحوّلوا الآن إلى مستهلكين، وإلى مجرد متلقّين فارغين للرغبة. ففي مكان أولئك الآخرين المستقلين القدماء، الذين كانوا متميزين ومحدّدين على نحوْ صارم تماماً، تنبثق الآن آخرية معمّمة هائلة، يمكن استبدال حملتها واحدهم بالآخر دونما أي فارق أو اختلاف: النساء، الزنوج، السجناء، الشاذون، الشعوب الأصلية. ومثل هذا التجريد قلما نجده في الروحية مابعد الحديثة الداعية إلى الخصوصية؛ ولا هو بالمديح أن تقول لهؤلاء “الآخرين” إنهم مجرّد دالّ معمّم لا الآخرية، وإنّ أية حفنة منهم يُفْتَرَض بها أن تفي بالغرض مثل أية حفنة أخرى. والآخرية بهذا المعنى ليست معاكسة للقيمة التبادلية بأي حال من الأحوال. أما ما يماثل تجسيدات الآخرية هذه ويضفي عليها طابع التجانس فليس سوى واقعة أنّ أيّ منها ليس أنا، أو نحن، مما ينطوي على منظور متمركز على الذات تماماً كما هو الحال لدى الذات “الإنسانوية” المشينة. فحين يُخْتَزل “الآخر” إلى كلّ ما يزرع الاضطراب في هويتي، هل هذه نقلة تحاول أن تلغي المركز وتبدو متواضعةً أم أنها نقلة تهتمّ بالذات وبمصلحتها الشخصية؟ وحين يجوّف العالم مثلي، أنا الذات المتشظية التي تواجه واقعاً تخييلياً، هل تكون تلك الذات متواضعة حقّاً كما تبدو ما دامت واثقةً من أنه لم يعد ثمة أي واقع عنيد ليقاومها؟

لقد رأينا من قبل أنّ الذات ما بعد الحديثة هي ذات “حرّة” ومحدّدة في آنٍ معاً وذلك على نحوٍ متناقضٍ ومنطوٍ على مفارقة. فهي “حرّة” لأنها مشكّلة حتى العظم من خلال مجموعة واسعة ومسهبة من القوى. وبهذا المعنى فهي حرّة أكثر من الذات المستقلة التي سبقتها وأقلّ منها في الوقت ذاته. حيث يمكن للانحياز الثقافوي لدى ما بعد الحداثة أن يدفع باتجاه نزعة حتمية قوية ترى أننا مشكلّون بصورة لا مفرّ منها من قبل قوة أو رغبة أو أعراف أو جماعات تأويلية تحوّلنا إلى سلوكات وقناعات محدّدة. وليس بمقدورك بالطبع أن تتفادى ما في هذا من معاني مذلّة عن طريق مصطلح هروبيّ مثل مصطلح التحديد الزائد، الذي يعني أنّ الأنظمة التي تشكلّنا هي في النهاية متعددة ومتصارعة وليست أحادية مما يسبغ على الذات افتقاراً لهوية ثابتة يمكن أن يخلط بينه وبين حريتها. بيد أنّ الإلكترون ليس له وضعية ثابتة أيضاً، لكننا لا نقدّم له التهاني على شرطه المنعتق هذا. ومثل كلّ حتمية اجتماعية من هذا النوع، فإن وجهة النظر هذه مهينة لكرامة الكائنات البشرية العقلانية، التي قد تكون عقلانيتها أكثر هشاشة بكثير قياساً بما يعتقد أشدّ العقلانيين، إنما التي لا يجب مع ذلك أن تختزل إلى ضرب ذكي من سمك السلمون المرقّط (التروتّة).

وما تغفله اللوحة السابقة هو واقعة أنّ الكائنات البشرية محدّدة بالضبط على النحو الذي يتيح لها درجة من درجات تقرير المصير، وأنّ أي تعارض قاطع بين المشروط والمستقلّ هو تالياً تعارضٌ زائف. فكوننا مقررين لمصيرنا، ضمن حدود معقولة، لا ينجم عن أننا مستقلون عن بيئتنا ذلك الاستقلال الكبير بل ينجم تحديداً عن أنّ مثل هذا التقرير للمصير هو ضرورة بالنسبة لهذه البيئة. ولو أننا لم نكن قادرين على أن نحفز ذواتنا إلى حدٍّ مقبول ربما لما بقينا لكي نحكي حكاية ذلك، الأمر الذي كان سيمثّل موتاً للذات من نوعٍ لآخر. بل إنّ مجرد البقاء ذاته يفرض على الحيوان البشري ألاّ يتكّل على الغريزة وحدها وأن يدفع مصادر التأمل الذاتي لأن تعمل عملها. وكيما يتأكّد المرء من الخاصية المتشامخة لهذه الحتمية الثقافية ليس عليه سوى أن يتساءل ما إذا كان من المؤكّد والمحسوم لدى الأميركيين الأفارقة أو إيرلنديي ليفربول، مثلاً، أنهم ليسوا سوى سجناء أعرافهم غير المفكّر بها، وأنهم قبليون بالمعنى الأسوأ للكلمة. ومع ذلك فإن شيئاً من هذا القبيل يصدر أحياناً عن الأكاديميا الأمريكية، مثلاً، حيث يمكن للمرء أن يقول إنهم قبيلة مرتبطة بسنّة أو شيفرة دون أن تترتب على ذلك أية عواقب إذ يبدو هذا القول بمثابة فضح جريء للمزاعم العقلانية الغربية، وبذا مناهضاً للتمركز الإثني أكثر مما يبدو شيئاً مقيتاً وكريهاً يثير الاعتراض والنفور.

وإذا ما كانت الذات ما بعد الحديثة محدّدة، إلا أنها أيضاً ذات عائمة وطافية بحريةٍ غريبة، كما أنها طارئة، ومتوقفة على الخطّ، وهذا يعني أنها ضربٌ من الطبعة الكاريكاتورية للحرية السلبية الخاصة بالذات الليبرالية. ولقد رأينا من قبل أن مفهوم التغاير هو الذي يجمع هذه الأفكار المتناقضة معاً؛ فإذا ما كانت هذه الذات زلقة مراوغة ومتقلقلة فذلك لأنها تعمل بمثابة الاحتكاك بين قوى ثقافية متضاربة. وهذه رؤية تشتمل على قدْرٍ كبير من إرادة القوة النيتشوية، لكنها تتوافق كثيراً أيضاً مع تجربة المجتمعات الرأسمالية المتقدّمة. (لقد تجنّبت هنا صفة “اللاحقة”، لأنه ليس لدينا فكرة عن مقدار كونها كذلك). فهل هنالك أيّ مكان آخر تشعر فيه أنك مصاغ ومقولب من قبل قوى تعمل على تحديدك دون هوادة كما تشعر في الوقت عينه أنك طافٍ وعائم على نحوٍ مفزع دونما مرساة؟ إنّ هذه الذات هي مخلوق السوق في بعض أوجهها شأنها شأن الذات المختلفة كثيراً الخاصة بالليبرالية الكلاسيكية، والتي كانت تعاني أيضاً، وبالمناسبة، من مشكلةٍ في التوفيق بين حريتها وحتميتها. وبهذا المعنى فإن ثنائية كانط الخاصة بالذوات الجوهرية والذوات الظاهرية لم تكن سوى اعتراف بالهزيمة. غير أنّ نوعاً ما من الذات المستقلة، مهما تكن ضئيلة لا يحسب حسابها، كان لا يزال آنذاك على قيد الحياة، ولذا فقد ظلّ من الممكن الكلام على العدالة على الأقل، أمّا حين لم تعد مثل هذه الذات موجودة، فقد صار من الممكن أن تزول وتختفي كل الأسئلة الحيوية التي أرّقت الفلسفة السياسية الكلاسيكية، كالأسئلة المتعلقة بحقوقك مقابل حقوقي، وكفاحي من أجل الانعتاق مقابل كفاحك.

غير أن أحداً، بالطبع، لا يصدّق ذلك ولو لحظة. وحتى مابعد الحداثيين جديرون بالعدالة والتقدير، فهم ذوات مستقلة بالمعنى المعقول لهذه العبارة، الأمر الذي يمكن لهم أن يدركوه ما ان يقلعوا عن كاريكاتورٍ رديء للفكرة التي لم يعتنقها سوى قلّة من المفكّرين بعكس ما يخيّل لهم. وبالمقابل، فإنه لمن الدوغمائية المملة القول إنّ الذوات المستقلة، المقررة لمصيرها لابدّ أن تكون بلا شقوق أو تصدّعات، ذرّية، لا علائقية، منزوعٌ عنها أي طابع تاريخي، قائمة على أساس ميتافيزيقي، وسوى ذلك من مثل هذا القرع العنيف والواثق على بابٍ لم يكن أبداً محكم الإغلاق. فمثل هذه الأيديولوجيات الخطيرة موجودة حقّاً، ولقد قامت مابعد الحداثة ببعض العمل الأصيل في جهودها الرامية إلى زحزحتها ونزعها من مواضعها. وإذا ما كان صحيحاً أنّ المعنى الذي تسبغه ما بعد الحداثة على الذات يقترب كثيراً وعلى نحو خطر من النزعة الاستهلاكية التطبيعية، فإنّ من الصحيح أيضاً أن هذه الذات المبعثرة، الفصامية، ذات التوق الفارغ، تتّسم بما يتعدّى الشبه العابر مع شرط الذين لا يملكون. والحقّ أنّ الذات الفاقدة للمركز الشهيرة قد مثّلت ما يشبه الفضيحة لأولئك الممتلئين كثيراً بذواتهم. كما ساهمت أيضاً في فضح يسار سياسي كان يحسب أنّ المهم هو أن تعمل وحسب وليس أن تطرح إشكاليات تتعلق بطبيعة القوة العاملة، أي بطبيعة هذا اليسار نفسه. ولقد عبّرت هذه الذات عن وضع مكمومي الأفواه ممّن حُرّم عليهم الكلام وعن وضع الأشخاص الغفل الذين لا هوية لهم، أمّا قدرتها على تبيّن قوة في العجز فتخفي وراءها تقليداً روحياً نفيساً يعرف كيف يستحضر القدرة من الفشل والإخفاق. وهذه مفارقة لا يمكن للقوى السائدة أن تتصورها إلا بوصفها حماقة، الأمر الذي يمثّل مقياساً دقيقاً لحكمتها.

ثمة، إذاً، شكل أصيل من الآخرية فضلاً عن الشكل الزائف. ولقد استطاع الفكر ما بعد الحديث في أشكاله الخلاّقة والمبدعة أن يستمدّ منها شيئاً ما من قوته المتملّصة المراوغة. ولو كنا قادرين على أن ننزع عن أنفسنا الأنا المتمركز، بدلاً من الاكتفاء بالاستمتاع بفعل التنظير لهذه الأنا، فلاشك حينئذٍ أنّ قوة عظيمة ستنطلق في سبيل الحسن والخير السياسيين. غير أننا عالقون بهذا الصدد بين حقبتين، حقبة تحتضر وأخرى لا تقدر أن تولد. فالذات “الإنسانوية الليبرالية” القديمة، التي قامت ببعض المنجزات اللافتة في أيامها، كانت قادرة على تغيير العالم، إنما لقاء ثمن تمثّل بعنف ذاتي جعل الأمر يبدو مع الوقت وكأنه يكاد لا يستحق مثل هذا الثمن. أما الذات المفككة التي جاءت في أعقابها فلا يزال عليها أن تبيّن أنّ ماهو غير متطابق مع ذاته قادر على أن يغيّر مثلما هو قادر على أن يهدم، علماً أن البوادر لا تبشر بالخير على هذا الصعيد إلى الآن. ويبقى أن ثمة نموذجاً يعد بأن يجمع بين الهوية واللاتمركز في تحالف مثمر، وهو نموذج يعيدنا إلى الثيمات التي رسمنا أعلاه خطوطها العريضة. ففكرة الديمقراطية الاشتراكية تشتمل على كلّ من تقرير المصير ولا تمركز الذات في آن معاً، شأن الذات التي تصوغ ذاتها بحرية، وذلك بالضبط لأنها ليست وحيدة في مشروعها، فلا تتطابق مع ذاتها، وتكون خارج ذاتها مقيمةً نوعاً من التبادل المعقد، متلقية رغبتها من موقع الآخر. وبهذا المعنى، على الأقل، فإن التعارض المكرور والبائت بين الذات “الإنسانوية” والذات “اللامتمركزة” هو تعارض خادع ومضّلل تماماً، وذلك لأن من طبيعتنا البشرية أن نكون لا متمركزين بمعنىً ما، وأن تشكلّنا الآخرية مرّة بعد مرّة. والحقّ أن استعادة هذا البعد الاجتماعي من أبعاد الذاتية هي ما يمكّن من تجاوز الخطأ الإنسانوي الذي يكتفي بصياغة التضامن السياسي على غرار ذات مفردة مقرّرة لمصيرها، دون أن يغيّر في الأمر شيئاً إضفاء نوعٍ من الطابع الجمعي المناسب على هذه الذات، وهي ما يمكّن، من تجاوز قصر النظر لدى ذات ترتاب بالتضامن ذاته وترى فيه إجماعاً يفرض ضرباً من السوائية القمعية.

بيد أنّ ثمة حدوداً لأي “حلّ” نظري مجرد مثل هذا. وإذا كنا لا نستطيع بعد أن نقدّم جواباً أقل تجريداً في ردّنا على هذه المشكلة، فذلك ليس بسبب افتقارنا إلى الذكاء، بل لأننا نجد أنفسنا هنا، كما هي الحال بالنسبة لمعظم المسائل النظرية العنيدة، في مواجهة الحدود السائدة للغة، الأمر الذي يعني بالطبع أننا نجد أنفسنا في مواجهة الحدود السائدة لعالمنا السياسي.

q

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

¡ هوامش الترجمة

1- Body Shop، أو متجر الجسد: متجر يبيع كل ما يتعلّق بمسائل العناية بالجسد من مواد تجميل وأغذية. وقد افتتح أول متجر من هذا النوع في براتين الإنجليزية عام 1967 على يدي أونيتا روديك وزوجها غوردن روديك قبل أن يفتتحا سلسلة من المحلات التجارية على مستوى دولي تبيع مواد التجميل المصنوعة كلها من مكوّنات طبيعية.

2- الغاليّ، نسبة إلى بلاد الغال، وهو الاسم القديم لفرنسا.

3- السرديات الكبرى، grand narratives: من المفاهيم الأساسية التي يتكرر انتقادها من قبل ما بعد الحداثيين. ويقصد بها أية نظرية شمولية تشكّل أساساً تتم العودة إليه في التفسير، خاصة الماركسية والتنوير. يقول جان فرانسوا ليوتار في كتابه الوضع ما بعد الحداثي: “أستخدم مصطلح “حدث” كيما أصف كلّ علم يستقي مشروعيته باللجوء صراحةً إلى هذه السردية الكبرى أو تلك، من قبيل جدل الروح، أو تأويل المعنى، أو تحرير الذات العاقلة أو العاملة، أو خلق الثروة… كانت هذه هي حكاية التنوير، التي عمل فيها بطل المعرفة لبلوغ غاية أخلاقية-سياسية جيدة، هي السلام الشامل…. ومع التبسيط إلى آخر مدى، فإنني أعرّف “مابعد الحداثي” بأنه التشكك إزاء السرديات الكبرى”.

4- الثقافوية، Culturalism: نزعة ترى أن الثقافة تحديداً هي نظام القيم الأساسي للمجتمع وأن بنية الشخصية ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالثقافة المميزة لمجتمع معين. وهذا يعني أن كل مجتمع يميل إلى تشكيل كلّ ثقافي فريد. ويبدو الأمر كما لو أنّ هذه النزعة ترى أنّ الأفراد لا يكونون عرضةً إلا لثقافة مجتمعهم المعين، وأنّ ثقافة هذا المجتمع لا يخترقها الصراع. كما تتجاهل أنّ المجتمع الواحد يشتمل على بيئات متنوعة كثيرة. وهي لا تأخذ بالحسبان وبصورة كافية تأثير الأوضاع والشروط الملموسة والتاريخية على النظم الثقافية والاجتماعية. كما أنها تقوم على فرضية مفادها وجود عناصر ثقافية خصوصية وثابتة تتعدّى مراحل التطور التاريخي.

5- الدواليل، جمع دالول: وهو المقابل الذي نضعه للكلمة الإنجليزية Sign بخلاف ترجمتها الشائعة بـ “علاقة” أو “إشارة”. فالدالول، كما يقول سوسور، هو اجماع دال ومدلول. كما أن كلمة دالول تحافظ على الجذر المشترك مع مشتقاتها مثل دال ومدلول ودلالة… الخ.

6- الليبرتارية: فلسفة سياسية تلحّ على حقوق الفرد، خاصة حق الملكية الخاصة للموارد والثروات المادية. ويقف أنصارها ضد أي شكل من أشكال فرض الضرائب ويدعون إلى حرية العمل والتجارة والإرادة.

7- الجماعوية أو المذهب الجماعوي: فلسفة سياسية تلحّ على الجماعة Community ومصالحها. ولقد لعبت فلسفة هيغل السياسية دوراً كبيراً في قيام هذا المذهب الذي يضع الجماعة في القلب من تحليله. أما قيامه فكان في الثمانينيات من القرن العشرين على أيدي فلاسفة سياسيين مثل تشارلز تايلور وألاسداير ماكنتير ومايكل والزر.

ــــــــــــــــــــــ

المصدر: الآداب الأجنبية (دمشق – سورية)، العدد (105) شتاء (2001)

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى