إذا كانت الانتصارات تُحسب بلغة الحرب فقط، فإن روسيا قد انتصرت في سورية، عندما نجحت في تثبيت نظام بشار الأسد على الأرض، وأضعفت إلى غير رجعة المعارضة قوة عسكرية كانت منتشرة على امتداد الجغرافية السورية. ولكن المعادلة السورية، بكل حمولاتها الثقيلة على المستوى الإقليمي ـ الدولي، لا يمكن اختزالها بالمستوى العسكري وحده، على الرغم من أهميته الكبيرة في تغيير موازين القوى، وفي قدرته على عدم تغيير المشهد السياسي في المنطقة، على اعتبار أن سقوط النظام كان سيؤدي بالضرورة إلى تغيير مهم في المشهد السياسي الإقليمي، لناحية فك الاشتباك بين سورية وإيران، ومن ثم إضعاف الترابط بين إيران وحزب الله، وبالتالي نشوء تحالفات جديدة تقطع نهائيا مع التحالفات القائمة منذ نحو أربعين عاما.
نجحت روسيا في القضاء على المعارضة المسلحة على المستوى الاستراتيجي، ونجحت في إجراء اختراقات في الموقف الأميركي، كان من شأنها حدوث انزياحاتٍ سياسيةٍ في مواقف الإدارات الأميركية، لجهة الاعتدال في الطروحات السياسية تجاه الملف السوري الذي أصبح جزءا من المعادلة الروسية، وليس جزءا من المعادلة الأميركية بالمعنى الاستراتيجي، وإن بقي جزءا منها على المستوى التكتيكي. ومع ذلك كله، لم ينتقل الدور الروسي من القوة إلى الفعل على المستوى الاستراتيجي، أي على مستوى فرض الإرادة الاستراتيجية الروسية بالكامل، وإنهاء الملف السوري نهائيا، كما فعلت في بعض البلدان المحيطة بها حدوديا.
في ظل الوجودين، الأميركي والتركي، اضطرت روسيا إلى التعامل مع الجغرافيا السورية ليس كجغرافيا واحدة، وإنما كجغرافيات، فأثقلت ضرباتها في مناطق المعارضة، بما فيها البنى التحتية للبلد، فشاركت بذلك في عملية التدمير، إلى درجة يمكن القول فيها إن روسيا وحدها دمرت أكثر بكثير مما دمرت كل الدول الفاعلة في الملف السوري (5586 هجوما). وعدم قدرة روسيا على استرداد الأراضي التي تسيطر عليها المعارضة المدعومة من تركيا، واستعادة الأراضي التي تسيطر عليها “قوات سوريا الديمقراطية”، المدعومة من الولايات المتحدة، جعل الانتصار الروسي على المستوى العسكري يقف عند حدود منع إسقاط النظام ليس إلا. وهذا انتصار سلبي، يمنع السقوط من دون أن يبعد خطر التهديد تماما، ومن دون أن يمتلك مكامن القوة والقدرة الكافية على استغلال الانتصار العسكري في المستويات السياسية والاقتصادية.
لقد انتصرت روسيا عسكريا، لكنها خسرت المجال التداولي السياسي المحلي والإقليمي، وتحوّلت الجغرافيا السياسية لسورية إلى عبء استراتيجي على صناع القرار في الكرملين، والذين يعملون، منذ سنوات، على تدوير الزوايا، على أمل إحداث خرقٍ هنا أوهناك في جدار المواقف الدولية من الملف السوري.
تتشابه روسيا مع الولايات المتحدة لجهة إدارة الأزمات، لا لجهة حلها: لا توجد لدى واشنطن نية لإنهاء الملف السوري لصالح طرف معين، واستراتيجيتها مبنية فقط على إدارة الأزمة السورية، فتفرض عقوباتٍ هنا، وتدعم فريقا محليا هناك، وتضغط سياسيا على بعض الدول للحفاظ على مستوى معين من المواقف. وموسكو، بسبب عجزها عن إحداث خروقاتٍ إقليمية ودولية، اضطرت إلى اعتماد مقاربة إدارة الأزمات هي الأخرى، وإن كانت الأسباب مختلفة تماما. تدير جزءا من الملف السوري مع تركيا في الشق المتعلق بمنطقة المعارضة، وتدير جزءا آخر مع إيران في الشق المتعلق بمنطقة النظام، وتنسّق أو تحاول مع “قوات سوريا الديمقراطية” لجهة إجراء تفاهمات في حدّها الأدنى مع النظام، وتدير جزءا رابعا مع إسرائيل لتنسيق مستوى الهجمات، وتدير جزءا خامسا مع الولايات المتحدة على المستويين العسكري والسياسي. ومع أن روسيا تمتلك القوة والرقم الصعب في كل هذه المستويات، إلا أنها لم تستطع تجاوز الأطراف الإقليمية الأخرى في المعادلة السورية (تركيا، إيران، إسرائيل)، ما جعل انتصارها ناقصا على المستوى الاستراتيجي، فهي بحاجةٍ إلى إسرائيل لضرب إيران مع تحييد الأسد ونظامه عن الضربات، وهي بحاجة إلى تركيا لتطويع المعارضة السياسية، وهي بحاجة إلى إيران لموازنة الحضور التركي ولمتطلبات المنافسة مع الولايات المتحدة، وهي بحاجة إلى الأخيرة لوضع الترتيبات النهائية للأزمة السورية، عبر ممارسة الضغوط على الفرقاء الإقليميين المتصارعين.
هكذا، انقلب حضور موسكو تدريجيا في سورية، فبعدما كانت الأطراف الإقليمية تتجه نحوها بين عامي 2016 ـ 2018، أصبحت هي بحاجة إلى هذه الأطراف، ليس لمنعها من المضي إلى الأمام أو دفعها نحو التحالف مع الولايات المتحدة، بما يوجه ضربة قوية للحضور الروسي فحسب، بل لأن هذه الأطراف تمتلك قدرة قوية في الملعب السوري يصعب على موسكو تجاهلها، فمن دون أنقرة لا تستطيع موسكو الإقدام على عمليةٍ سياسيةٍ تكون مقبولة في حدود معينة بالنسبة للمعارضة، وأية محاولة لضرب المصالح التركية في الشمال السوري، فإن نتائجها ستكون كبيرة على روسيا على المستويين، السياسي والاقتصادي، ومن دون ضمان المصالح الإيرانية في سورية لن تستطيع موسكو إقناع طهران بالتراجع خطوة إلى الوراء في بعض المناطق السورية، وإقناعها بأهمية العملية السياسية. ومن دون الولايات المتحدة لن تستطيع تحصيل تنازلاتٍ من الأكراد، ومن دون ضمان المصالح العليا لإسرائيل لن تستطيع إقناع إسرائيل بالتنسيق معها.
مرّت ست سنوات على التدخل العسكري الروسي، والمحصلة: توسيع السيطرة الجغرافية للنظام السوري مع منعه من الوصول إلى المناطق ذات الأهمية الكبرى، فشلٌ في اختراق العملية السياسية التي أصبحت من دون أي أفق، فشلٌ في إنعاش اقتصاد النظام المنهار، فشلٌ في دفع أطراف إقليمية ودولية إلى تغيير مواقفها السياسية، فشلٌ في فتح ملف اللاجئين وإعادتهم إلى سورية.
المصدر: العربي الجديد