سورية السوريين ونجاحاتهم

  إيلي عبدو

يطرح فوز عدد من الألمان من أصل سوري، في الانتخابات الألمانية الأخيرة، أسئلة حول شروط نجاح السوري، لاسيما في السياسة، ودرجة علاقة هذا النجاح بالانفصال عن سوريته، كما تراكمت بفعل الاستبداد وقيم المجتمع الثقافية، التي انتعش فيها هذا الاستبداد.

والتركيز على النجاح في السياسة، وتحديداً الانتخابات، هو مقياس أساسي، فقد سبق أن جرى الحديث، عن نجاحات السوريين في مشاريع اقتصادية نفذوها في بلدان اللجوء، خاصة تركيا ومصر، وبشكل أقل أوروبا، فالنجاحات الأخيرة، كانت تحصل في سوريا نفسها، وفي ظل النظام الموجود حالياً، بمعنى أن حصولها في بيئات مختلفة، لا يترتب عنه الكثير من الفوارق، لناحية تغيير القناعات.

من هنا، تأتي ضرورة التمييز في نوعية النجاحات، فأكثرها يمكن أن يحصل في أي مكان، والقليل منها يحصل بتغير الأفكار والقبول بشروط المكان الجديد. وهذا ما فعله، على الأرجح، المرشحون الألمان من أصل سوري، للانتخابات الأخيرة، لقد انفصلوا عن سوريتهم المعرّفة بالاستبداد، وانخرطوا في الشأن العام حيث يعيشون، بعضهم ولد هناك، وآخرون وصلوا بعد الثورة، إلا أن المشترك استعدادهم لممارسة المواطنة في بلدهم، بشكل كامل، ومن دون تجزئة تتمثل عادة بفكرة أخذ ما يناسب ثقافتنا وإهمال ما يتعارض معها. فالمرشحون الفائزون، تجاوزوا امتحانا ثقافيا، غالبا ما يكون صعبا بالنسبة للقادمين إلى الغرب من الشرق الأوسط، فهم ـ انطلاقا من موقعهم الجديد كممثلين لقطاعات من الألمان ـ مطالبون باستقبال شكاوى تتعلق بالنساء والمثليين وأصحاب حساسيات أخرى، قد تتعارض مع ثقافتهم وقيمهم. وبالنتيجة، فإن فوزهم الانتخابي يعني، إما تغيير قناعاتهم، أو بناء تسويات مع القناعات الجديدة تستوعبها وتتسامح معها. وفي الحالتين، ثمة تجاوز وخروج عن قيم ثقافية شبه محسومة في سوريا، غالباً ما تلفظ من لا يخضع لها، أي أن المسألة ليست فقط انخراطا في عملية انتخابية، ترشحا وتصويتا ودعاية، هناك استعداد للموافقة أو عدم معارضة، البناء المعرفي والقيمي، الذي نهضت عليه هذه العملية. ما يجعل القطع مع الاستبداد، أبعد من آلية إجرائية تتصل بالانتخابات، إذ يمتد، إلى البنى التي استثمر فيها هذا الاستبداد ليتكرس ويقوى. صحيح أن الأنظمة الديكتاتورية تغلق أي إمكانية لتغيير القيم، سابقة الذكر، غير أن هذه القيم التي تقلل من شأن النساء والأقليات والآخر، وتعلي من شأن الذكورة والعنف ضد النساء والأعراف العشائرية والعائلية، تملك حوامل اجتماعية تدافع عنها، وسوريا ليست بعيدة، عن ذلك. وبسبب فشل الثورة، التي كان يمكن أن تشكل فرصة لتأسيس سوريا أخرى، للقطع مع الاستبداد، ومع القيم التي ساعدته لتثبيت أركانه، فإن سوريا السوري، بقيت تعرّف بدلالة الاستبداد ومنظومته التي ساعدته، وتجاوز هذه السورية يستلزم الخروج عن الأمرين معا.

من هذه الزاوية يمكن التعامل مع الفائزين من أصل سوري في الانتخابات الألمانية، حيث الترشح يعني القبول أو عدم الاعتراض، على قناعات من ترشحوا لأجلهم، بل الدفاع عنها، وتبنيها أحياناً، وبالنتيجة، النجاح هنا، لا يتعلق بسورية هؤلاء، بل على النقيض يتعلق بلا سوريتهم، وانفصالهم عنها، وارتباطهم التدريجي بالبلد الذي يعيشون فيه. أما، ربطهم بسوريتهم من قبل بعض المحتفين بالحدث، فهذا، يكشف عن الارتباك الذي نعيشه، بين سوريا القائمة والمعرّفة بالاستبداد، وتلك التي أردت الثورة صنعها. فبين السوريتين، الميتة والتي لم تولد، يجري اختراع سوريا ثالثة مائعة ولزجة، لا ملامح لها، لا تقطع مع الاستبداد وفي الوقت نفسه لم تصل إلى الحرية بسبب فشل الثورة، وهذه السوريا، هي تحديداً، ما يراد ربط نجاح الألمان من أصل سوري، بها. ولتجنب هذا المأزق والارتباك ومحاولات الاختراع الفاشلة، قد يكون من الأفضل الإقرار، بأن نجاح الرابحين في انتخابات ألمانيا، يعود ببساطة إلى كونهم باتوا ألمانيين، ولم يعودوا سوريين. هؤلاء وسواهم، أصبحوا، جزءاً من مناخ التعدد الثقافي، ليس عبر الترشح والفوز في الانتخابات لتمثيل الآخر وقبول قناعاته، وإنما أيضاً عبر التصويت والتعبير عن الذات، التي تصنع نفسها بالاحتكاك بقيم جديدة.

المصدر: القدس العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى