أثار الإعلان عن تشكيل التحالف بين الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وأستراليا، وسمي اختصاراً “أوكوس”، وانسحاب أستراليا من صفقة شرائها غوّاصات فرنسية، رد فعل فرنسياً غاضباً، واعتبرته باريس طعنة في الظهر، وتصرفاً غير لائق بين الحلفاء، واستدعت، احتجاجاً على ذلك، سفيريها في واشنطن وكانبيرا، من دون قطع للعلاقات. وقد أثار الإعلان عن التحالف الجديد غضب فرنسا من زاويتين: تجاهلها وعدم التشاور معها، خصوصاً أن الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، كان قد عقد لقاء مطولا مع الرئيس الأميركي، جوزيف بايدن، على هامش قمة السبعة الكبار يوم 13 يونيو/ حزيران الماضي؛ في منتجع كاربيس باي في كورنول، جنوب غرب إنكلترا. واستضاف رئيس الوزراء الأسترالي، سكوت موريسون، بعد يومين في باريس؛ وناقشا على عشاء مطوّل الوضع في منطقة المحيطين، الهندي والهادئ، من دون أن يُطلعاه على اتفاقهما، واستخفاف أستراليا بفرنسا وإلغاءها صفقة الغوّاصات من دون تباحث مسبق، خصوصاً أنه قد سبق لباريس وعرضت على أستراليا تحويل الصفقة من غوّاصات تعمل بالديزل والكهرباء إلى غوّاصات تعمل بالطاقة النووية ورفضت أستراليا، ما يعني أن سبب التخلي عن الصفقة ليس تقنياً.
وقف خلف غضب فرنسا من قيام التحالف الجديد من دون مشاركتها عاملان متكاملان: الاستهانة بوزنها وتجاهل مصالحها في المحيطين، الهندي والهادئ، فالرسالة، كما قرأتها، بمثابة استبعاد استراتيجي جيوسياسي لها من المنطقة التي غدت ساحة تنافسٍ وصراعٍ بين الولايات المتحدة وحلفائها الآسيويين والصين التي توسّع نفوذها الاقتصادي والعسكري في المنطقة. وقد تجلى ذلك في تحوّل التركيز الأميركي على آسيا؛ الذي بدأ خلال رئاسة الرئيس الأميركي الأسبق، باراك أوباما، وتصاعد خلال رئاسة الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، بعقوباتٍ اقتصاديةٍ قاسيةٍ، وضرائب كبيرة على الواردات الصينية، وسعي إلى عرقلة تطوّرها التقني عبر وقف بيعها مكونات دقيقة في مجال الذكاء الاصطناعي، والضغط على الدول الأخرى لمقاطعتها تقنيا، وعدم السماح لشركاتها في الدخول إلى أسواقها وتركيب شبكات اتصالات من الجيل الخامس في أراضيها، بذريعة إمكانية استخدامها للتجسّس على هذه الدول. وتأكد خلال رئاسة الرئيس الحالي، بايدن، بتشكيل تكتلات إقليمية، مثل تكتل الحوار الأمني الرباعي (كواد) الذي يضم مع الولايات المتحدة كلا من الهند وأستراليا واليابان، والذي استضاف الرئيس الأميركي قادته في البيت الأبيض يوم 25 سبتمبر/ أيلول الجاري، لتفعيل التفاهمات السابقة، وفي مقدمتها تطويق الصين جيوسياسيا، وعزلها عن محيطها وتضييق مساحة حركتها برّا وبحرا، وتحالفاتٍ مثل تحالف “أوكوس” الجديد، بالإضافة إلى تفعيل اتفاقية التعاون والتنسيق الاستخباراتي (يوكيوسا) القديمة والمستمرة منذ 1946 مع كل من المملكة المتحدة وأستراليا وكندا ونيوزيلندا؛ وتوظيفها جميعها في خطّة بايدن الصلبة، لمحاصرة الصين واحتواء تحرّكاتها ولجم طموحاتها الجيوسياسية، ليس في محيطها الإقليمي فقط، بل في كل المناطق. وغدا الاشتراك في التنافس فرصة لإثبات الجدارة، والحصول على حصة من كعكة المنطقة الغنية بأسواقها الضخمة ومواردها الطبيعية الكبيرة. واعتبرت تحرّكات الإدارة الحالية بمثابة نقلة للصراع مع الصين من مستواه الاقتصادي التجاري إلى المستوى العسكري الاستراتيجي الشامل.
والعامل الثاني إطاحة التحالف الجديد خطة استراتيجية فرنسية كانت تعمل عليها، في ضوء تقديرها أهمية المنطقة، وسعيها إلى تأكيد نفوذها فيها، أساسها الشراكة مع الهند وأستراليا. هذا إلى جانب قلقها على حصّتها من سوق السلاح، وخوفها من خسارة صفقات أخرى موقّعة، أو تعمل الصناعات العسكرية الفرنسية على الاتفاق عليها مع دول في المنطقة، لاسيما مع الهند واليابان، بعد إلغاء استراليا صفقةً تم التعاقد عليها عام 2016.
يمكن قراءة الموقف الأميركي في اختيار الشركاء في التحالف الجديد، وعدم إشراك الاتحاد الأوروبي، وفرنسا خصوصا، في ضوء اختلاف مقاربة الاتحاد الاستراتيجية حول الموقف من الصين مع مقاربتها، حيث يعتبر الاتحاد الأوروبي الصين شريكا اقتصاديا واستراتيجيا، ويسعى إلى التعاون معه بقوة. وألمانيا، العملاق الاقتصادي في الاتحاد، هي المحرّك الرئيس وراء ذلك؛ وقد قادت، في الفترة الأخيرة، جهود الاتحاد لتوقيع اتفاقية استثمار مع الصين، وقاومت محاولات الولايات المتحدة لتقييد شركة الاتصالات الصينية العملاقة “هواوي” من تطوير شبكتها الجيل الخامس، في استمرار لسياسة أوروبية تقليدية، قائمة على الاحتماء بالمظلة العسكرية الأميركية، والجري وراء الصفقات التجارية والاستثمارات الكبيرة والاستحواذ على جزء من حصّة الولايات المتحدة في الاقتصاد العالمي. هذا ما فعله “الاتحاد” في إيران، بعد الاتفاق على البرنامج النووي، حيث تدفقت الشركات الأوروبية عليها، وعقدت معها صفقاتٍ بمليارات الدولارات على حساب الشركات الأميركية، ما أثار حفيظة الولايات المتحدة التي تعتبر الصين خصما استراتيجيا، وتريد من حلفائها الوقوف إلى جانبها للتصدّي لها واحتوائها.
واستبعدت الولايات المتحدة فرنسا لاعتباراتٍ كثيرة، منها عمل الأخيرة على تشكيل تحالف خاص بها مع الهند وأستراليا، بمعزل عنها ومن دون التشاور معها، واستثمار مناخ المفاوضات حول البرنامج النووي الإيراني، والعقبات التي تواجه هذه المفاوضات، والتقرب من إيران باعتراضها على العقوبات الأميركية عليها، وعدم المساهمة في عزل حزب الله بوضعه على قائمة الإرهاب؛ وعقدها صفقاتٍ معها بالاتفاق على تشكيل حكومة لبنانية، يشارك فيها حزب الله، ويحصل فريق الرئيس اللبناني، حليف حزب الله، على الثلث المعطل؛ وتوقيع شركة توتال عقداً للتنقيب عن الغاز في العراق بقيمة 27.5 مليار دولار. هذا بالإضافة إلى تباين موقف فرنسا من الصين مع الموقف الأميركي، الذي ترى فيه توجّها صداميا سيستفز الصين ويدفعها إلى تحرّك عدواني، في حين ترى ضرورة النظر إلى الصين منافسا وليس عدوّا، وسعيها لإخراج أوروبا من تحت المظلة الأميركية وتشكيل قوة عسكرية مستقلة وقادرة على الدفاع عن المصالح الأوروبية وموضعة أوروبا في قلب المعادلات الدولية في نظام دولي متعدد الأقطاب، في استعادة توجّه استقلالي فرنسي قديم، افتتحه الرئيس الفرنسي الأسبق، الجنرال شارل ديغول، بإنشاء قوة نووية فرنسية مستقلة، والانسحاب من القيادة المركزية الموحدة لحلف شمال الأطلسي (الناتو) عام 1966، عادت إليها عام 2009، وتحوّله (الموقف الاستقلالي) إلى ثابت في السياسة الفرنسية عامة، والتيار الديغولي خصوصا. لذا جاء استبعاد فرنسا عن التحالف الجديد وعدم إطلاعها على ما يدور بين الدول الثلاث في سياق السعي إلى تقييد تحرّكها في منطقة الهندي الهادئ، وإضعاف حضورها في هذه المنطقة، وتقليص حصتها من خيراتها الضخمة.
لقد وضعت الولايات المتحدة معيارا واحدا للاشتراك في التحالف الجديد، وهو “صلابة الموقف من الصين والاستعداد للانخراط في مواجهة جيوسياسية معها والتصدّي لها والحد من عدوانيتها وتمدّدها على حساب بقية دول الإقليم”. وقد وجدت ضالتها في المملكة المتحدة، بقيادة بوريس جونسون؛ صاحب استراتيجية “بريطانيا العالمية”، والساعي إلى تعزيز دورها العالمي وتوسيعه، كي يعوّض خسارتها بخروجها من الاتحاد الأوروبي، وأستراليا بقيادة رئيس الوزراء اليميني، سكوت موريسون، الذي سبق وتحفظ على العلاقات التجارية مع الصين في عهد رئيس الوزراء السابق، ورأى في التحالف مع الولايات المتحدة فرصةً لتعزيز قدرة أستراليا الردعية، والاستناد إلى قوة التحالف لاحتواء توسع الصين في هذه المنطقة. وتركت الباب مفتوحا لالتحاق الاتحاد الأوروبي، في حال قبوله بالمعيار المعلن، واستعداده للعب دور فاعل في التصدّي للصين في المحيطين، الهندي والهادئ.
يمكن النظر إلى تشكيل الولايات المتحدة التحالف الجديد بعيداً عن الاتحاد الأوروبي تنبيها من الأخ الأكبر، تقول للاتحاد إن التأرجح بينها وبين الصين والمواقف اللينة من الأخيرة غير مقبولة، فالموقف بات دقيقا وحاسما: مع أو ضد، ولا خيار ثالثا. ولفرنسا إنه لا مكان لدعوة الاستقلالية، فإما السير خلف الأخ الأكبر أو تحمّل النتائج الجيوسياسية والاقتصادية. وهذا جعل موقف الاتحاد، بما في ذلك فرنسا التي تلقت الضربة المباشرة ما أفقدها توازنها ودفعها إلى ردود غير دبلوماسية ومواقف عالية السقف، وأكبر من قدراتها، صعبا في ضوء قلقه الدائم والكبير من طموحات الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، وتحرّكه ضد دول الاتحاد، خصوصا الشرقية منها، وسعيه إلى بذر الخلافات والشقاق بين صفوفه وداخل دوله، ما يجعله بحاجةٍ ماسّة للمظلة العسكرية والسياسية الأميركية، وتمسّكه، الاتحاد، بحصته المتنامية من الاقتصاد العالمي؛ الذي يستدعي المحافظة عليها استمرار الهيمنة الغربية على النظام الدولي. وهذا يستدعي استمرار التحالف مع الولايات المتحدة، ما يضطرّه للعودة إلى الحظيرة، والسير خلف الأخ الأكبر.
المصدر: العربي الجديد