ليست المرّة الأولى التي يجري فيها الحديث عن شرق أوسط جديد، لكن الفرق أن الأمر هذه المرّة، وعلى الرغم من جدّيته، إلا أنه يتم بصخب أقل، وبدون طرح أهداف ومهام كبيرة، بالإضافة إلى عدم وجود عرّاب علني لهذا التشكّل القادم في المنطقة، حيث تتولّى هامشية رسمه وموضعته، بديلاً عن نظام سابق انتهى إلى فوضى عارمة في المنطقة، نتيجة تضارب الرؤى والمصالح والأولويات.
يرتكز الشرق الأوسط الجديد، حسبما هو ظاهر، على ما صنعته أحداث العقد الماضي، وبشكلٍ أكثر تحديداً، حراكات الربيع العربي التي شملت جميع الدول العربية، بدرجاتٍ مختلفة، وتأثيرات هذا الحدث على دول الجوار غير العربية، إيران وتركيا وإسرائيل، وانخراط بعض الفاعلين الدوليين في هذا الحدث، الولايات المتحدة وروسيا والاتحاد الأوروبي، وتأثّرهم بتداعياته، وتأثيرهم في مجرياته.
تقوم فلسفة تأسيس هذا الشرق الأوسط الجديد على فكرة أن الأمور آخذة في الاستقرار، بعد عقد مديد من الصراع والحوار، وأن إمكانات التغيير، على المستوى السياسي، في جميع دول المنطقة، توقفت عند نقطة محدّدة، يستحيل تجاوزها في ظل موازين القوى القائمة الآن، وأنه لا إمكانية لحدوث تغييراتٍ مهمةٍ على المعادلات القائمة في المديين، المنظور والمتوسط، ما يحتّم على جميع اللاعبين الداخليين والخارجيين، التصالح مع هذه الحقيقة، والبناء على الواقع الموجود، بدل الاستمرار في لعبةٍ لن يكون فيها رابحون.
لقد ساهمت العوامل الاقتصادية، والتداعيات التي خلّفتها أزمة كورونا على اقتصاديات العالم، فضلاً عن اتجاهات الصراع الجيوسياسي الدولي المستجدّة، وبروز أهمية المحيطين، الهندي والهادي، في تحديد نوع القوى المهيمنة في العقود المقبلة إلى التسريع بتظهير نسخة الشرق الأوسط الجديدة، إذ لم تعد دمقرطة المنطقة مسألة ذات أهمية بالنسبة للولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، ما دامت المنطقة كلها قد فقدت، في تقييم هذه الأطراف، أهميتها الإستراتيجية، مقابل صعود أهمية آسيا، قارّة الإمكانات الهائلة. ويبدو أن هذه المعطيات ستشكل سمات هذا الشرق الأوسط الجديد والتي يمكن تحديدها بما يلي:
– نهاية عصر الثورات، بل ونهاية أحلام التغيير إلى أجل غير مسمّى، فلا فواعل خارجيين قد يدعمون حراكات داخلية، ولا قوى محلية لديها القدرة على إعلان الثورة بعد الدمار الذي لحق بمجتمعات المنطقة، وما صنعته الثورات المضادّة من تدمير للنسج الوطنية وتغيير في البنى الاجتماعية، دفع بطليعة الجيل الحالي إلى الموت والسجون والهجرة.
– واستتباعاً، استمرار الأوضاع الحالية، سواء في تركيبة النخب الحاكمة، أو في وسائل الحكم وأدواته، إذ إنه حتى التغيير السلمي، بمعنى إحداث تغييرات بطيئة، على شكل إصلاحات، من خلال البرلمانات والنقابات والمجتمعات المدنية، لم يعد ممكناً، في ظل قراءة النخب الحاكمة لأي نشاط في هذا الاتجاه، بأنه يشكّل خطراً على وجودها.
– تراجع دور الحركات الإسلامية، بل وانتهاء فعاليتها ودخولها في أزماتٍ من المقدّر استمرارها سنوات طويلة. ومعلوم أنها كانت أقوى الفواعل في الحراكات العربية في مواجهة الأنظمة، وثمّة مؤشّرات عديدة على خروج هذه الحراكات من دوائر التأثير، وقد تستغرق إعادة بنائها أو ترميمها، بما فيه إعداد كوادر جديدة والتوصل إلى رؤى جديدة، فترة قد تطول إلى نهاية العقد الحالي.
– تغيّر أدوار الدول وفعاليتها، فمن الواضح أن الدول الأصغر حجماً ستكون هي الدول المركزية في هذا الشرق الأوسط الجديد، ذلك أن اللاعبين الإقليميين الكبار، من العرب والجوار، إما أنهم باتوا مستهلكين، بفعل انخراطهم في صراعات العقد الماضي، أو لعدم امتلاكهم مرونةً دبلوماسيةً وسياسيةً تتيح لهم اللعب مع جميع الأطراف، أو لأن أغلبهم من أصحاب المشاريع التي تهاوت على وقع المستجدّات الطارئة.
– الميزة الأهم لهذا الشرق الأوسط الجديد سيطرة مراكز المال والاقتصاد، في دول المنطقة، على التشكيل الجديد وصياغته على أسس المنافع الاقتصادية، يبدو ذلك واضحا من خلال توجهات الأردن ومصر لترتيب علاقات إقليمية أساسها اقتصادي، ويدخل فيها دور الشركات في إعادة إعمار العراق وسورية، بقيادة النخب الرأسمالية في البلدين.
– الميزة الأخيرة، تتمثل بانسحاب الولايات المتحدة من الشرق الأوسط، بعد أن كانت، على مدار السبعين عاماً الماضية، القوّة المحرّكة والمؤثرة في توجهات المنطقة وتفاعلاتها، إذ بات واضحا أن أميركا تعمل على تسليم مفاتيح المنطقة للاعبين المحليين، كل بحسب قدراته وإمكاناته، مع دور إشرافي أميركي، ربما لسنوات معدودة، قبل أن تغلق واشنطن آخر قواعدها في المنطقة.
بناء على ذلك، من المتوقع أن يقوم الشرق الأوسط الجديد على توليفة تقوم على قبول إسرائيل ضمن هذا التشكّل طرفا شرعيا، يتم إدماجه، في مرحلة أولى، ضمن الفعاليات الاقتصادية، مثل مشاريع الغاز وشبكات الموانئ والتجارة الحرّة. وبالطبع، التعايش مع إيران بشكلها الحالي، على أمل أن يدفع التشبيك الاقتصادي بين دول الإقليم إلى نفي الحاجة للوجود الإيراني، بشكليه، العسكري والمليشياوي، من الأطراف الخاضعة لسيطرة إيران حالياً، العراق وسورية ولبنان.
لا يقوم الشرق الأوسط الجديد هذه المرّة على دعاوى أيديولوجية، ولا استجابة لاستقطابات دولية، بل على مبرّر واقعي، تفرضه حاجة دول المنطقة إلى التصالح والسلام والاهتمام بالقضايا الاقتصادية. وعلى الرغم من أهمية الوعي بهذا الأمر، إلا أن الخطر الذي ينطوي عليه هذا التشكّل الجديد هو تكريسه الظلم واللامساواة وإزاحة الديمقراطية والتحرّر إلى عقود طويلة عن منطقةٍ مات مئات الألوف من شعوبها في سبيل الوصول إلى تلك القيم.
المصدر: العربي الجديد